الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدب الخلاف
إخوتاه
والله إني أحبكم في الله، وودت أن جسمي مزق بالمقاريض ولا يختلف المسلمون، بل يجتمعون على كلمة " لا إله إلا الله "، فلا ينبغي لمسلم يريد وجه الله أن يحب وجود الخلاف، وأن يُسرَّ باختلاف المسلمين.
إن وجود الإيمان العميق والفهم السليم الراقي هو الضمان الحقيقي لشرعية علاقاتنا، هو الملاذ لتصفية خلافاتنا ونزع أغلال قلوبنا.
إخوتاه
قد يكون نصيبنا من العلم والمعرفة ليس بالقليل، لكن المشكلة التي نعاني منها اليوم افتقاد المرشد والموجه الصحيح والمؤشر الضروري الذي يمنحنا السلامة ويكسبنا الصواب.
القضية أننا قد نلم بشيءٍ من العلم والمعرفة، لكننا افتقدنا خُلقه، امتلكنا الوسيلة وضيعنا الهدف والغاية.
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة.
إخوتاه
دعونا نتصارح فإنَّ الشيطان ينزغ بيننا، فما أكثر تشاغلنا بالمباح والمندوب عن الأمر الواجب، لقد صرنا حُذَّاقاً في الخلاف، ولكن بعيدين كل البعد عن الالتزام بأخلاقياته، فكانت النتيجة المرة أن سقطنا فريسة التآكل الداخلي والتنازع الذي أورثنا
هذه الحياة الفاشلة، وأدى إلى ذهاب ريحنا.
قال تعالى: " وَلَا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ "[الأنفال / 46]، فحذرنا الله تعالى مغبة السقوط في مثل ما سقط فيه أهل الأديان السابقة، وقصَّ علينا تاريخهم لأخذ العبرة والحذر.
قال تعالى: " وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ "[الروم / 31 - 32]
انظر إلى الخلاف الذي وقع، كيف تبرأ الله منه وأمر رسوله أن يتبرأ منه.
قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ "[الأنفال / 159].
أهل الكتاب من قبلنا، لم يؤتوا من قلة علم وضآلة فهم، وإنما هلكوا لأنَّهم وظفوا ما عندهم من علوم ومعارف للبغي.
قال تعالى: " وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ "[آل عمران / 19]
فهل ورثنا علل أهل الكتاب بدل أن نرث الكتاب؟ هل ورثنا البغي دون المعرفة والعلم والالتزام بأخلاقهما؟
إنَّ الاختلاف والفرقة والبغي كانت من وراء هلاك الأمم السابقة حتى مسخت أديانهم وبقيت قصصهم وسائل إيضاح للدروس والعبر المستفادة من حياتهم.
إخوتاه
شريعتنا شريعة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلا سبيل لنسخها، وستبقى أمة الإسلام بذلك فهي لن تفنى كما فنيت الأمم السابقة، ولكن الخوف أننا نسير في الطريق الخاطئ الذي سار فيه من قبلنا فأهلكهم الله، فالخوف - اليوم - من
الاستبدال، الخوف - اليوم - من الخسف والمسخ والقذف الذي يكون في آخر الزمان، فهل نفيق؟!!
إن هذه الأمراض لم تقضِ على جسد الأمة نهائياً، ولن تستأصل شأفتها بالكلية، لكن حذار أن تستمر الأمة هكذا فتعيش أبداً حالة الوهن الدائم، والذل القائم، فلا شك هذا نذير أن نكون - نحن - أول من ينكل بهم ويستبدلون.
إخوتاه
لا بد من علاج سريع لمشاكلنا الراهنة، لا بد من مداواة لأمراضنا المستعصية، نسأل الله لنا ولكن العافية، اللهم ألف بين قلوبنا، حتى لا نرى إلا الحق حقاً فنتبعه، ونرى الباطل باطلاً فنجتنبه.
إخوتاه
أوقفوا نزيف الدم المهراق في سنوات الذلة والاغتراب، كفي ما نحن فيه من تآكل، كفي ما نحن فيه من تشاحن وتنازع، أما ترون ما قد حل بأمتنا من المهالك حتى لا تزالوا في تلك المهاترات تبيتون وتصبحون.
إخوتاه
إن ما نعانيه اليوم لا يخرج عن كونه أعراضاً للمشكلة الإيمانية، الناشئة عن خلل في البنية التربوية التي عليها تأسس العقل المسلم.
إنها آثار الأزمة الأخلاقية التي يعانى منها سلوك المسلم، ولا سبيل للخروج إلا بمعالجة جذور الأزمة الإيمانية الأخلاقية العلمية.
لا بد من تصويب الفهم، وإعادة صياغة السلوك الأخلاقي، وإلا كنا كمن يضرب في حديد بارد.
إخوتاه
إن الاختلاف في وجهات النظر، الاختلاف في تقدير الأشياء والحكم عليها أمر فطرى طبيعي، قال تعالى:" وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين "[هود / 118]
فالاختلاف صار وسيلة - عندنا - للقتال وإنهاك القوى في معارك جانبية، والأصل أن الاختلاف ظاهرة صحية تغنى عقل المسلم بخصوبة الرأي من خلال الاطلاع على وجهات النظر المختلفة، ورؤية الأمور من جميع الزوايا والأبعاد، إنه إضافة عقول إلى عقل، فتعدد وجهات النظر المكافئة والمتكاملة - لو أمعنا النظر - حرىٌ بأن ينهض بالعقل المسلم في عصر التخلف، لكن الذي حدث يندى له الجبين، معارك
…
خصومات
…
استنصار بأعداء الدين على صاحب الرأي المخالف
…
الخ، ولهذا كله شواهده من التاريخ القريب والبعيد.
إخوتاه
إن النظرة الكلية السوية للأمور، والنظرة الشاملة للأبعاد المتعددة يعجز المرء كثيراً عن الإحاطة بها، فيقع وراء جزئية يضخمها ويكبرها حتى تستغرقه فلا يرى معها شيئاً آخر، حتى يصل الأمر ببعضهم أن يرى الأمور بمقاييس مخجلة محزنة، يرى عدوه أقرب إليه من مخالفه في الرأي.
شيء عجيب هذا الذي نحن فيه، مع أن الخلاف سهل ميسور والأمة تعانى من مثل هذه القضايا، وبدل أن نتفق تذهب أقدامنا جهة الخلاف، وكيف لنا أن نتفق ونحن نختلف على أرض الإسلام؟ فكيف تجمعنا " لا إله إلا الله محمد رسول الله "؟!!
إخوتاه
انظروا إلى هذه الحادثة التي وردت في كتاب " سير أعلام النبلاء"(1) أن المسور بن مخرمة وقد كان عند معاوية رضي الله عنه فقضى حاجته ثم خلا به.
فقال: يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة؟!!.
قال المسور: دعنا من هذا وأحسن.
فقال معاوية: لا والله لتتكلمن من ذات نفسك بالذي تعيبه علىَّ.
قال المسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا وبينتُه له.
فقال: لا أبرأ من الذنب فهل تعد لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؟ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك الإحسان؟
قال المسور: ما تُذْكَر إلا الذنوب. فقال معاوية: فإنَّا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تُغفر؟
قال المسور: نعم. قال معاوية: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق منى، والله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكني والله لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره إلا واخترت الله على ما سواه، وإني على دين يقبل فيه العمل ويُجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها. قال المسور: فغلبني والله.
(1) السير (3/ 150).