الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السبب العاشر
عاشرا: بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى
إخوتاه ..
هذا من أكبر الأسباب لتعميق أواصر الأخوة، وهذا هو تعريف أهل العلم لحسن الخلق.
قالوا: الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الدين.
فديننا دين الأخلاق، قال صلى الله عليه وسلم:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "(1)
فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس الأخلاق، رغم أنَّ أصول الأخلاق كانت موجودة في العرب، ولكنه جاء ليتممها ويكملها ويجملها، ويضعها في إطارها الحقيقي، حين تستعمل هذه الأخلاق لوجه الله تعالى، فقد كانوا كرماء لكن هذا الكرم ليقال، لا لرضا ذي الجلال، فتعلموا الإخلاص والصدق في القول والعمل، فالذي يتخلق بالأخلاق الحميدة يبتغي وجه الناس إن لم يجد ثمرة ذلك ربما غير وجهه وانقلب على عقبيه، أمَّا الذي يبتغي وجه الله فيقول:" إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا "[الإنسان /9ـ10] فكان جزاؤهم من جنس
(1) أخرجه البيهقي في الكبرى (10/ 191/192) والشهاب في مسنده (2/ 192) بهذا اللفظ.
وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (273)، وابن سعد في الطبقات (1/ 192)، والحاكم في المستدرك (2/ 613) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
والإمام أحمد في مسنده (2/ 318)،والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 188) جميعهم بلفظ "صالح الأخلاق"، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (45)، وصحيح الجامع (2349)، وصحيح الأدب المفرد (207) .........
عملهم " فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا "[الإنسان/11 - 12]
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن رجلا قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم -إنَّ لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ.
فقال صلى الله عليه وسلم:لئن كنت كما قلت فكأنَّما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك. (1)
فلا بد من الصبر، لابد من احتمال الأذى، وتذكر أنك لا تعامل بشراً، بل تعامل رب كل شيء، تعامل الله جل جلاله.
إخوتاه ..
إنَّ أعالي الجنان يسكنها أصحاب الأخلاق العالية جزاءًا وفاقًا، قال صلى الله عليه وسلم" أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه"(2)
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن من أحبكم إلي وأقربكم منِّي مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ". (3)
وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار"(4)
(1) أخرجه مسلم (2558) ك البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها.
قال ابن الأثير في النهاية: المَلّ: الرَّمادُ: أي تَجعل وجوههم كلَون الرّماد. يعني أن عَطاءَك إياهم حرامٌ عليهم، ونارٌ في بُطُونِهم .........
(2)
أخرجه أبو داود (4800) ك الأدب، باب في حسن الخلق، والطبراني في الكبير (8/ 117)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (273).
(3)
أخرجه الترمذي (2018) ك البر والصلة عن رسول الله، باب ما جاء في معالي الأخلاق. وقال: حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي (1642).
(4)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 90) ـ واللفظ له ـ، وأبو داود (4798) ك الأدب، باب ما جاء في حسن الخلق، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح أبي داود (4013) .........
إخوتاه ..
إننا نعاني اليوم في هذا العصر المادي الملوث من سوء الأخلاق، فأنت تلمح في واقع هذه الأمة من الصور السيئة ما يندى له جبين المرء خجلا، انظر إلى قاموس الألفاظ السيئة والبذيئة الذي شاع بين الناس الآن بسبب الإعلام والأغاني التافهة والانصياع وراء التدمير الأخلاقي الذي يشنه أعداء هذه الأمة على أفرادها من واقع الغزو الثقافي والفكري.
انظر إلى المرأة الحيية الرقيقة العفيفة وقد علا صوتهاـ اليوم ـ وتلفظت بما يخدش الحياء، وسارت كاسية عارية، وشابهت الرجال في كل شيء كما خدعوها، سوء أخلاق وإهمال في التربية تولد عنه ما نحن فيه من البلاء المستطير.
انظر لفضائل الأخلاق وقد هُجِرت، وألقيت في واد سحيق، فأين الجود والعلم والحلم والوفاء والمروءة والشهامة والشجاعة والبذل والصبر؟!!
أين الألفاظ الكريمة؟!! أين التواصل والتحابب والمواساة؟!! كلمات لا يعرف لها الوجود إلا اسمها.
وإنَّما الأمم الأخلاق ما بقيت ....... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
أرأيت لماذا هذه الانتكاسة الخطيرة لأمتنا؟ لأن هذه الأخلاق الحميدة افتقدها واقع المسلمين وحل محلها من سوء الخلق ما تقشعر له الأجساد من فرطه، شماتة وأذى وتحامل وحسد وغيبة ونميمة وبغض وتشاحن وتقاطع وحب النفس وعبودية الذات وأنانية مفرطة وعجب، فاللهم الطف بنا، ولا تعجل بهلاكنا.
إخوتاه ..
" بذل الندى " أين الكرم والإيثار في واقع حياتكم؟!!
في وصف الأنصار قال تعالى: " وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ
مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " [الحشر/9]
نعم هذه هي القضية، إمَّا بذل وإيثار، وإمَّا شح النفس التي لا ترضى أبدا.
قال صلى الله عليه وسلم: " لو أنَّ لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب"(1)
أريدك أن تعطي أخاك من جهدك، تؤثر أخاك على نفسك، فيورث ذلك في القلوب محبة لا تنقضي، فكيف يُتصور أن يبيعك هذا الأخ يوماً من الأيام؟ بل ستجد قلوبا صافية وودًا غامرًا، وانظر إلى إيثار السلف والتمس مسلكا على نهجهم.
جاء العيد فبعث رجل من السلف جارية إلى صديق له لتخبره أنه ليس عنده ما يكسو به عياله، فبعث الصديق إليه بصرةٍ فيها ستون دينارا لم يكن عنده غيرها، فجاء رجل للأول يخبره بأنَّه ليس عنده شيء فأعطاه الصرة التي أخذها، ثم بعث الصديق الثاني للرجل الثالث يخبره بأنه ليس عنده شيء فأعطاه الصرة فوجدها صرته بخاتمها هي هي، فمضى إلى صاحبه يستفسر فعلم بالأمر، فاجتمعوا وتقاسموها كل أخذ عشرين دينارا.
إخوتاه ..
أسألكم بالله ألم يكن هؤلاء بشراً مثلنا، فبماذا فضلوا علينا؟ نعم إنَّه الإيمان ومعرفة الله ورسوله والامتثال للأمر واجتناب النهي، فهؤلاء هم الذين تمثلوا الإسلام واقعاً حياً لا مجرد كلام.
إخوتاه ..
" كف الأذى " بمعنى ألا يتعرض أخوك لما يضره بسببك، فتحفظ جوارحك عنه
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري (6439) ك الرقاق، باب ما يتقي من فتنة المال ـ واللفظ له ـ، ومسلم (1048) ك الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا .........
فلا تؤذيه بيدك بالبطش وسلب المال والضرب ونحو ذلك، ولا تؤذيه بلسانك بالشتم والغيبة والنميمة، ولا تؤذيه بالتخاذل عن نصرته في وقت يحتاج إليك فيه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "(1)
ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته "(2)
فبسبب هذا السكوت والتقاعس يخذلك الله بسببه، أحد الإخوة يقول لي: أنَّه جلس مجلسا استهزئ فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت ولا أنكر ولا أعرض، فكانت عاقبته أن فتن في دينه وترك الالتزام فلم يثبته الله وخذله ووكله إلى نفسه فضاع وتاه وضل وابتعد، ولولا رحمة الله به ما عاد أبدًا.
إخوتاه ..
قال صلى الله عليه وسلم: " والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه "(3)
فإنَّ الجار لا يقدر بثمن، لما أراد جار محمد بن ميمون السكري بيع البيت، قال للمشتري: أبيعك بثلاثة آلاف، البيت بألف، وجوار أبي حمزة بألفين.
فقد تبتلى بجار يجعلك تنفر من المكان ولو كان جنة، ولكن نعم الجوار إذا كان جارك رجلا صالحا تقيا إذا رأيته ذكرت الله، ساعتها تحمد الله على نعيم الدنيا.
(1) متفق عليه. أخرجه البخاري (10) ك الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ومسلم (41) ك الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل.
(2)
أخرجه أبو داود (4884) ك الأدب، باب من رد عن مسلم غيبة. والإمام أحمد (4/ 30)،والطبراني في الكبير (5/ 105)، والبيهقي في الكبرى (8/ 167)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (5690) .........
(3)
أخرجه البخاري (6016) ك الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه.
إخوتاه ..
"واحتمال الأذى " فلا يتوقف الأمر عند كف الأذى، بل ينبغي أن تكون حليما، وهذه الصفة لم يعد لها ظهور في أيامنا هذه.
فالغضب سريعاً ما يتسلل إلى النفوس عند أقل موقف، والأصوات صارت عالية، والضغوط النفسية يعاني منها كل واحد، وليس ذلك إلا من جراء التكالب على الدنيا، وطلبها على غير الوجهة الشرعية بأن تصبح مطية للآخرة.
إخوتاه ..
إياكم والغضب فإنه جمرة من النار يلقيها الشيطان ليضل الناس، وقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال لمن سأله الوصية " لا تغضب "(1) فما زال يرددها عليه؛ إذ الغضب ملاك كل شر.
فينبغي ألا تسير خلف جهل الناس، بل لا يزيدك جهل الناس إلا حلما، تتحمل الأذى فالصبر مفتاح الفرج، والصبر ضياء، وليكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتك، تذكر كيف تحمل الأذى وصبر.
روى البخاري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر بعض الأنبياء وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون. (2)
قال بعض الشراح: يحدث عن نفسه لما آذاه الناس بالطائف، وقد لبث فيهم شهرًا يدعوهم فما آمن به أحد، ولم ينته الأمر عند ذلك حتى سلطوا عليه السفهاء ليضربوه بالحجارة ـ بأبي هو وأمي ـ فضربوه حتى أدمى عقبيه، فجلس ليتقي الحجارة فضربوه
(1) أخرجه البخاري (6116) ك الأدب، باب الحذر من الغضب .........
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري (3477) ك أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، ومسلم (1792) ك الجهاد والسير، باب غزوة أحد.
في رأسه، فوضع يديه على رأسه، فواجهوه بالحجارة ولم يتركوه، إلا عندما وقع بحفرة ظناً منهم أنَّه مات.
فجاء ملك الجبال ليطبق عليهم الأخشبين، فقال: بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا. (1)
إخوتاه ..
أذكركم بهذا، وأتصور أنه لو جاءنا ملك الجبال الآن لقلنا جميعا: نعم هيا انسفهم نسفا، مع أن الناس مضللون، وقلوبهم قريبة فلو ذاقوا حلاوة الإيمان لأحبوا الله، فقط عصبوا أعينهم عن رؤية الدين، وبمجرد أن يزال هذا الغمام ستجد الاستجابة بإذن الله تعالى.
إخوتاه ..
دائما أقولها لكم: هذه الدنيا لا تفرق بينكم، هذه الدنيا اجعلها تحت حذائك، فالدنيا لا تفقدك أخاك مهما كانت الظروف والملابسات.
فلابد من " كف الأذى "و" بذل الندى "و" احتمال الأذى ".
ـ والله من وراء القصد ـ
(1) جزء من حديث متفق عليه، أخرجه البخاري (3231) ك بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، ومسلم (1795) ك الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين .....
نواقض الأخوة
ذو النقص يصحب مثله والشكل يألف شكله فاصحب أخا الفضل لكي تقفو بفعله فعله أما ترى المسك دأبا يكسب طيبا محله