المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سابعا: استعمال الرحمة والرفق وخفض الجناح - الأخوة أيها الإخوة

[محمد حسين يعقوب]

فهرس الكتاب

- ‌[المقدمة]

- ‌الأخوة لماذا

- ‌ أولاً: لإقامة كيان الأمة الإسلامية

- ‌ثانيا: لتمحيص عيوبنا في مرآتها

- ‌ثالثا: معالجة الفتور الذي يفت في عضد التزامنا

- ‌رابعا: لرأب صدع الخلاف الذي حَطَّ من صحوتنا

- ‌خامسا: للتخفيف من وحشة الغُربة

- ‌سادسا: لاقتفاء أثر البقية الباقية قبل أن تغرق السفينة

- ‌سابعا: إحياء السنن الموات

- ‌ثامنا: شد الأزر وتقوية العزم

- ‌ثمرات الأخوة

- ‌أولا: أن يتذوق حلاوة الإيمان فيحيا حياة السعداء

- ‌ثانيا: أن يحيطه الله تعالى برحمته، ويقيه عاديات وشدائد يوم القيامة

- ‌ثالثا: نيل الأمن والسرور وأن الله يظله بظله يوم القيامة

- ‌رابعا: الأمن من الوقوع فى الشرك

- ‌خامسا: أن يرزق العبد محبة الله

- ‌سادسا: زيادة الدرجات في الجنة حتى يصل لمنازل الأبرار

- ‌سابعا: اطمئنان القلب والأمن من أهوال يوم القيامة

- ‌ثامنا: النجاة لكل من تمسك بهذه العروة الوثقى

- ‌تاسعا: صفاء السريرة ونقاء القلب

- ‌كيف نعمق أواصر الأخوة

- ‌أولاً: حسن الظن وقبول الظاهر

- ‌قواعد في الحُكم على النَّاس

- ‌القاعدة الأولى: الإنسان يوزن بحسناته وسيئاته

- ‌القاعدة الثانية: التحري والتصور لجميع حال ذلك الإنسان

- ‌القاعدة الثالثة: التثبت من كلام الأقران وأرباب المذاهب والجماعات في بعضهم البعض

- ‌القاعدة الرابعة: الخبرة بمدلولات الألفاظ ومقاصدها

- ‌القاعدة الخامسة: أن لا يجرح من لا يحتاج إلى جرحه

- ‌القاعدة السادسة: عدم الاكتفاء بنقل الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل

- ‌القاعدة السابعة: الحذر من حسن الهيئة

- ‌القاعدة الثامنة: شرط جواز الجرح عدم قصد التحقير

- ‌ثالثا: النصيحة للإصلاح

- ‌رابعا: إنهاء الجدال والمراء حالاً

- ‌خامسا: إعدام الاختلاف

- ‌أما أسباب الخلاف فكثيرة فمن ذلك:

- ‌(1) الكبر

- ‌(2) اختلاف وجهات النظر

- ‌(3) الجهل والجُهَّال

- ‌(4) النظرة الجزئية للإسلام

- ‌(5) التعصب للأشخاص والآراء

- ‌السبب الثاني لإعدام الخلاف: استعمال أدب الخلاف

- ‌أدب الخلاف

- ‌[(1) النصوص منها القطعي ومنها الظني]

- ‌(2) الأخوة الإيمانية ووحدة الصف ونبذ الفرقة من أهم الواجبات على كل مسلم

- ‌(3) معرفة أسباب الخلاف الفقهي

- ‌(4) الإلمام بفقه الواقع

- ‌(5) التقوى

- ‌سادسا: سد باب النقل ورد قالة السوء

- ‌وقفة لتجديد النية

- ‌سابعا: استعمال الرحمة والرفق وخفض الجناح

- ‌ثامنا: دوام الصلة والتزاور في الله

- ‌آداب الزيارة:

- ‌تاسعا: قضاء الحوائج وتفقد الإخوان

- ‌عاشرا: بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى

- ‌نواقض الأخوة

- ‌(1) سوء الظن

- ‌(2) الغيبة

- ‌(3) السخرية والاحتقار والهمز واللمز والتنابز

- ‌(4) الحسد

- ‌(5) المماراة والمنافسة

- ‌(6) القطيعة والتحامل القلبي

- ‌(7) التجريح

- ‌(8) الأخذ وعدم العطاء

- ‌(9) معرفة الحقوق ونسيان الواجبات (الأنانية والأثرة)

- ‌(10) عدم الاحتكام إلى شرع الله في العلاقات

- ‌فن معالجة الأخطاء

- ‌أولا: اللوم للمخطئ لا يأتي بخير غالباً

- ‌ثانياً: أبعد الحاجز الضبابي عن عين المخطئ

- ‌ثالثا: اختيار العبارات اللطيفة في إصلاح الأخطاء

- ‌رابعا: ترك الجدال أكثر إقناعاً من الجدال

- ‌خامسا: ضع نفسك موضع المخطئ ثم ابحث عن الحل

- ‌سادسا: ما كان الرفق في شئ إلا زانه

- ‌سابعا: دع الآخرين يتوصلون لفكرتك

- ‌ثامنا: عندما تنقد اذكر جوانب الصواب

- ‌تاسعا: لا تفتش عن الأخطاء

- ‌عاشرا: استفسر عن الخطأ مع إحسان الظن والتثبت

- ‌الحادي عشر: اجعل الخطأ هينا ويسيرا وابن الثقة في النفس لإصلاحه

- ‌الثاني عشر: تذكر أن الناس يتعاملون بعواطفهم أكثر من عقولهم

- ‌حقوق الأخوة فى نظر الإسلام

- ‌(أ) الحقوق العامة:

- ‌(1) إفشاء السلام

- ‌الحق الثاني: عيادة المريض

- ‌ومن آداب العيادة:

- ‌(1) التبكير بالزيارة

- ‌(2) اختيار أفضل الأوقات

- ‌(3) الدعاء للمريض

- ‌(4) قراءة القرآن له

- ‌(5) تخفيف الزيارة

- ‌(6) تذكيره بالله

- ‌الحق الثالث: اتباع الجنائز

- ‌أما آداب اتباع الجنائز:

- ‌فأولًا: لا تتبع الجنائز بصياح أو نواح أو نار

- ‌ثانيًا: الرفق بنعش الميت

- ‌ثالثًا: الإسراع بالجنازة

- ‌رابعًا: الصلاة على الميت

- ‌خامسًا: السير حيث شاء للماشي والراكب خلفها

- ‌سادسًا: المكث قليلًا بعد الدفن

- ‌سابعًا: عدم اللغو وإيثار الصمت

- ‌الحق الرابع: إجابة الدعوة

- ‌أما آدابها وشروطها:

- ‌الحق الخامس: تشميت العاطس

- ‌أما آداب التشميت:

- ‌(1) أن يبدأ العاطس بالحمد، فإن لم يفعل لم يشمت

- ‌(2) فإن زاد على عطسة واحدة فهل يشمت

- ‌(3) وينبغي على العاطس أن يغطي وجهه بيده أو ثوبه ويغض صوته

- ‌(4) إذا كانوا جماعة فالأفضل أن يشمت كل واحد أخاه

- ‌(5) هل يشمت الشاب المرأة والعكس

- ‌الحق السادس: إبرار المقسم

- ‌ومن آدابه:

- ‌(1) ألا يترتب على الإبرار مفسدة أو مشقة

- ‌(2) تكفير الحالف عن يمينه أولى إن كان غير ما حلف عليه أفضل

- ‌الحق السابع: نصرة المظلوم

- ‌الحق الثامن: التنفيس عن الحروب والتيسير على العسر

- ‌الحق التاسع: الابتعاد عن الأذى كالحسد والتبغض والظلم والتحقير

- ‌(ب) الحقوق الخاصة:

- ‌(1) حق أخيك في مالك

- ‌(2) حق أخيك في نفسك

- ‌(3) حق أخيك في لسانك:

- ‌(4) حق أخيك في قلبك:

- ‌الخاتمةنسأل الله حسنها

الفصل: ‌سابعا: استعمال الرحمة والرفق وخفض الجناح

السبب السابع

‌سابعا: استعمال الرحمة والرفق وخفض الجناح

قال الله تعالى ـ مناديا النبي صلى الله عليه وسلم ـ " وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ "(الشعراء/215).

آه

" خفض الجناح " إنها كلمة تأسرني تستثيرني، وقد أمرنا الله بذلك تجاه الوالدين فقال:" وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا "(الإسراء/24) ووصف الله المؤمنين بأنهم " أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين"(المائدة/54)

نعم هؤلاء قوم يحبهم الله ويحبونه، يذلون لإخوانهم يتواصون بالرحمة فيما بينهم يقول الله في وصف أحباب النبي محمد صلى الله عليه وسلم " أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُم "(الفتح/29)

إخوتاه

إننا بحاجة إلى لم شمل المؤمنين، إلى جمع كلمة المسلمين، إلى تأليف قلوب الناس أجمعين، وليس ثمَّ مدخل لذلك أسمى من الرفق، ذُكِرَ عن الإمام علي رضي الله عنه أنَّه قال: القلوب وحشية فمن تألفها أقبلت عليه.

القلوب وحشية بمعنى أنها نافرة تبتعد عن الألفة، القلوب كأنها دواب وحشية لا تعرف الرقة في طبعها، إذا اقتربت منها تهرب بعيدا، أو هي من منطلق "الدفاع عن النفس" تهجم عليه لتؤذيه، فمن كان صاحب فطنة قام بترويض هذه الوحوش

ص: 141

وتأليفها، فإنه بذلك يستطيع - بحول الله وقوته ـ أن يقلب طبيعتها الوحشية إلى طبيعة أليفة فتقبل عليه وتلتصق به كما تلتصق الهرة إذا مسحت على ظهرها مداعبا، فالقلوب كذلك تحتاج إلى شيء من الرفق، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة حية على ذلك:

عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: جلس عمير بن وهب الجمحي وصفوان ابن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش في الحجر بيسير، وكان عمير شيطانا من شياطين قريش وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويلقون منه عناء أذاهم بمكة، وكان ابن وهب بن عمير في أسارى أصحاب بدر.

قال: فذكر أصحاب القليب بمصابهم. فقال: إنْ في العيش خير بعدهم.

فقال عمير بن وهب: صدقت والله لولا دين علي ليس عندي قضاؤه وعيالي أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله فإن لي فيهم علة، ابني عندهم، أسير في أيديهم.

قال: فاغتنمها صفوان فقال: عليَّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أسويهم ما بقوا، لا نسعهم بعجز عنهم.

قال عمير: اكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل. ثم أمر عمير بسيفه فشحذ وسم ثم انطلق إلى المدينة، فبينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة في نفر من المسلمين يتذاكرون يوم بدر، وما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر إلى عمير بن وهب قد أناخ بباب المسجد متوشح السيف.

فقال: هذا الكلب والله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر، هذا الذي حرش بيننا وحرزنا للقوم يوم بدر، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذا عمير بن وهب قد جاء متوشحا بالسيف، قال: فأدخله.

فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها، وقال عمر لرجال من

ص: 142

الأنصار ممن كان معه: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا هذا الكلب عليه فإنَّه غير مأمون. ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم به وعمر آخذ بحمالة سيفه، فقال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا.

فقال: انعموا صباحا ـ وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم ـ.

فقال رسول الله صلى عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، السلام تحية أهل الجنة.

فقال: أما والله يا محمد إن كنت لحديث العهد بها.

قال فما جاء بك؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم.

فأحسبه قال: فما بال السيف في عنقك.

قال: قبحها الله من سيوف، فهل أغنت عنا شيئا.

قال: اصدقني ما الذي جئت له؟

قال: ما جئت إلا لهذا. قال: بلى قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فتذاكرتما أصحاب القليب من قريش، فقلت: لولا دين علي وعيالي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل صفوان لك بدينك وعيالك على أن تقتلني والله حائل بينك وبين ذلك.

قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان فوالله إنَّي لأعلم ما أنبأك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه وأقرؤوه القرآن وأطلقوا له أسيره" أهـ (1)

(1) 1 أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 56،58،59).

وقال الهيثمي في المجمع: أخرجه الطبراني مرسلا وإسناده جيد. وروي عن عروة بن الزبير نحوه مرسلا وإسناده حسن.

= قلت: ولعمير بن وهب ترجمة في الإصابة (4/ 726 - 728)، وأشار فيها لهذه القصة، وعزاها الحافظ بن حجر لابن إسحاق في المغازي مرسلا أيضا، وعند ابن منده موصولا، وقال: غريب لا نعرفه عن أبي عمران إلا من هذا الوجه، ثم ذكر أن ابن شاهين حكى- بسند منقطع-أن عميراً هاجر وأدرك أحدا فشهدها وما بعدها، وشهد الفتح وله قصة في ذلك مع صفوان، حتى أسلم صفوان وعاش عمير إلى خلافة عمر.

ص: 143

ثم مضى عمير إلى مكة، وأخذ يدعو أهلها بعد إسلامه فاغتاظ المشركون وعلى رأسهم صفوان بن أمية حتى لعنوه.

وممَّا يَجمُل ذكره أنَّ عمر بن الخطاب قال: لخنزيرٌ كان أحب إليَّ منه حين اطلع، وهو اليوم أحب إلي من بعض بنيِّ.

إخوتاه

انظر لرفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجل ومحاورته الهادئة معه، فعلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدري حقيقة أمره، ورغم ذلك لم يأمر بضرب عنقه ولا بقتله.

وانظر إلى الأخوة الإيمانية ومفعولها السحري، الرجل كان بغيضا أشد ما يكون البغض لقلب عمر رضي الله عنه وبمجرد أن أسلم صار أحب إليه من بعض أولاده.

هذا الذي ندعو إليه ـ الآن ـ، هذا الذي ألتمسه في معاملاتكم، هذا الذي أنقب عنه في صدوركم، آه .. لو تستجيبون

آه لو تعلمون، اللهم حببنا في كل من يحبك وارزقنا حب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك.

إخوتاه

تحتاج أن تضع يدك على من يعنفك حين تدعوه وتقول: اللهم اشرح صدره، واهد

ص: 144

قلبه، وأصلح حاله، ويسر أمره، واعف عنه.

فبمجرد أن يراك تدعو له، سينشرح صدره، وإذا زاد تعنيفه لك فقل له: أسأل الله أن يعفو عني وعنك.

يقول لك: أنت تحسب نفسك عالما، من أنت حتى تنصحني؟!! فقل: أحسنت ما شاء الله، بارك الله فيك، غفر الله لي ولك وعفا عني وعنك، وهداني وإياك، انصحني ـ أخي ـ فقد ترى من عيبي مالا أبصره، جزاك الله خيرا فقد كنت ألتمس أن نتواصى بالحق ونتناصح في الدين.

وهكذا فستجد بإذن الله استجابة وألفة ومحبة يلقيها الله في صدره ولا تيأس، فما دخل الرفق في شيء إلا زانه. قال تعالى:" ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ "[فصلت /34]

إخوتاه

إن الدعوة بالكلام وحده لا تكفي، فلابد من السمت الطيب والمعاملة الحسنة، والرفق الذي يجذب قلوب الناس، ولابد من المبالغة في ذلك، فالنفوس مختلفة، والبيئات مختلفة، والتنشئة والتربية مختلفة، والناس معادن فمنهم كالذهب، ومنهم كالفضة، ومنهم كالحديد

وهكذا، فليس كل الناس يصلح لهم أسلوب معين لدعوتهم، وجميعهم يحتاجون إلى عمليات صهر حتى تنصهر جميعا في بوتقة الأخوة، فيصيرون على قلب رجل واحد كأنهم قالب واحد. اللهم ألف بين قلوبنا ولا تجعل لغيرك فيها شيئا.

إخوتاه

لابد من رفق يناسب كل معدن من تلك المعادن، لابد أن تكون ذا يد حساسة تشعر بنوع ما تلمسه، ثم تستطيع بعد ذلك أن تصلحه وتعامله مرة أخرى، حينها تجتمع

ص: 145

القلوب كما يجتمع النَّمل على قطعة السكر.

إخوتاه

الرفق كلمة جميلة ترفقت بها كثيرا قبل إيرادها في هذه الورقات، وضعتها بيسر على الخطوط كي يتلاءم معناها مع مغزاها، إنني وضعت كلمة "الرفق" برفق حتى تصل إلى الأخ الفاضل ـ حبيبي وأخي في الله ـ لينة سهلة، فنستطيع بعد ذلك استثمار معانيها وترجمتها إلى واقع حي.

إخوتاه

قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ "(آل عمران/159) نعم إنَّ الله يعلم نبيه كيف يدعو الناس، وهو أحسن الناس خلقا، زكاه الله فقال:" وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ "(القلم/4) إلا أنَّ شأن الدعوة خطير، ويحتاج إلى تدريب وممارسة.

يقول: " فبما رحمة من الله لنت لهم " فاللين نتج عن محض رحمة الله جل وعلا، فاللهم هبْ لنا الرحمة من عندك تهدِ بها قلوبنا وتؤلف بيننا.

كان عمر- رضي الله عنه حين تولى الخلافة يدعو ربه في جوف الليل فيقول: اللهم إنِّي حديد فليني للمسلمين.

فالله وحده الذي يسبغ على عباده هذه الرحمات فتلين القلوب، وما الصنيع إن نزع الله الرحمة من قلوب الغلاظ الأشداء، فسل الله قلبا لينا.

ص: 146

إخوتاه

دعونا نتصارح، ألست محتاجا إلى كنف رحيم، ألسنا جميعا بحاجة إلى رعاية فائقة، إلى بشاشة وسماحة، إلى ود وألفة، إلى محبة تسعنا وحلم لن يضيق علينا بجهلنا وضعفنا ونقصنا، والله إنَّنا ـ جميعاً ـ لفي أمس الحاجة إلى القلوب الكبيرة التي تسعنا وتعطينا ولا تأخذ منا.

فإنَّ قسوة الظروف وضراوة التحدي وعمق المأساة التي يعانيها المسلمون، والتي يتكبدها الملتزمون على وجه الخصوص، هذا كله يجعلنا في حاجة إلى " الأخوة الصادقة " التي لا تعرف المصالح، بل قانون المنفعة الذي يحكمها هو" زيادة الإيمان " فأنت تنفعني في ديني وأنا أنفعك في دينك.

هذه القلوب الكبيرة أين هي؟ هذه الصدور الحنونة التي نريح عليها رؤوسنا أين ـ بالله ـ نجدها؟ نريد من نبكي على صدره ويحمل همومنا ولا يعنينا بحمل همه، نريد من يهتم بنا ويرعانا يعطف علينا، يعاملنا بالسماحة والرضا والود، نريد أصحاب الوجوه البشوشة، أصحاب البسمة العطرة والكلمة الندية.

أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان الصحابة إذا حزبهم أمرٌ أتوه، فبمجرد أن ينظروا إليه تنشرح صدورهم وينقلب غمهم سرورا صلى الله عليه وسلم.

إخوتاه

هذا واجبكم وواجب الدعاة في كل زمان أن يحملوا همَّ الناس ولا يتعبوا الناس بحمل همومهم، أن يبشوا في وجوه الناس ولا يطلبون من الناس تلك البشاشة، أن يحسنوا إلى الناس ولا ينتظرون جزاء الإحسان، أن يساعدوا الناس ولا ينتظرون مساعدة من أحد، هذا واجبك؛ لأنَّ الدعوة واجبة على كل مسلم.

ص: 147

إخوتاه

من أسباب ضياع معاني الأخوة، أن تنتظر من أخيك أن يصنع ما هو أفضل دائما، علينا أن نأخذ زمام المبادرة وقصب السبق حتى لا تنتكص على عقبيك مخذولا، ويتسلل إليك الفتور، وتبتلى بالحور بعد الكور، والوقوع في الضلال بعد الهدى.

وتذكرها دائما واجعلها نصب عينيك" إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا " " [الإنسان/9ـ10]

قل كما قالت الرسل في كل زمان " يَا قَوْم لا أسألكم عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ "(هود/51)

حين تفطن إلى ذلك وتصير ذلك القلب الكبير فعليك أن تدرك أنَّ أول الأمر وغايته ومنتهاه يكمن في الرحمة والرقة واللين والوداعة وطيب النفس والخلق فإنَّها أدواتك حتى يتسع قلبك للناس جميعا.

إخوتاه

لا يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلا من كان فقيها فيما ينهي عنه، وفقيها فيما يأمر به، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهي عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهي عنه.

هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " أورده من كلام بعض السلف، وعليك أن تتدبره جيدا فإنَّه ثمين للغاية، فانظر كيف أنَّ أبجديات الدعوة إلى الله تقوم على هذه الخصال الثلاثة: الفقه والرفق والحلم حتى لا ينفر الناس.

الرفق في أخذ هذا الدين عامل رئيس في تكوين صورة المسلم، فالاتزان في الالتزام نتيجة التعامل مع الفطرة ومع الدين، فإنَّ السبب الرئيسي للتفلت أخذ الدين بصورة

ص: 148

غير طبيعية بشيء من العنف وعدم الرفق فينتج عنه هذا الاعوجاج.

قال صلى الله عليه وسلم " إنَّ هذا الدين فأوغلوا فيه برفق "(1)

فعليك بالرفق في أخذ تعاليم الإسلام، وعليك بالرفق في تطبيقها، وإياك أن تظن أن معنى الترفق في الأمور هو الوقوع في المحظور، فهذا مالا ينبغي أن يتطرق إليه فهمك، بل المقصود الترفق في تلقي الأمور.

قال صلى الله عليه وسلم " فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"(2)

ففي المنهيات لا يوجد تفاهم، أما الأوامر فشأنها أوسع.

إخوتاه

لابد من التدرج، ولا يكون التدرج تكأة يتكأ عليها من لا يدرك فيذهب في غمرات الغفلة، وإنما التدرج يكون بالتمهيد للعمل ثم نعمل ونمهد لغيره حتى نصل.

التدرج هنا أن يتصاعد بك مؤشر إيمانك، فتبدأ بإدامة الصلوات الخمس في جماعة، ثم المحافظة على السنن الرواتب، ثم تحافظ على قيام الليل، ثم تنشط في صيام النوافل، لا بأس بثلاثة أيام من كل شهر، ثم تداوم على صيام الاثنين والخميس، ثم يرتقي بك الحال لصيام يوم وإفطار يوم على هيئة صيام نبي الله داود ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ وهكذا. هنا نقول لمن يريد الوصول لهذه المرتبة من اللحظة الأولى ارفق بنفسك، لا أنَّ الترفق يكون بترك الأوامر وفعل المحظورات، بل هذا في باب

(1) 1 أخرجه الإمام أحمد (3/ 198)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 62): رواه أحمد ورجاله موثوقون إلا أن خلف بن مهران لم يدرك أنسا، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (2246).

(2)

2 متفق عليه، أخرجه البخاري (7288) ك الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الإقتداء بسنن رسول الله -واللفظ له-، ومسلم (1337) ك الحج، باب فرض الحج مرة في العمر.

ص: 149

المندوبات والمستحبات من الأعمال. " ومازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ". (1)

فالدين كلٌ واحد، قال تعالى:" يَأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي الْسِّلْمِ كَافَّةً "(البقرة/ 208)

فالمقصود ـ إخوتاه ـ أن نتبصر حقيقة الرفق.

قال صلى الله عليه وسلم: " لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة "(2)

إخوتاه

حين آمركم بالتواصي بالرفق في معاملة الناس، وبتحري الرفق في علاقاتكم الأخوية أريدك أن تدرك أن ذلك من مقاصد شريعة الإسلام، فالتيسير أمر مراد، " يُرِيدُ اللَّهَ بِكُم الْيُسْرَ "(البقرة/185) والتعسير أمر غير مستطاب " وَلَا يُرِيدُ بِكُم الْعُسْرَ"(البقرة/185)

وهذا لا يعني أن ننحرف لذوي الأفهام السقيمة من المبتدعة وأهل الأهواء حين يظنون أن الرفق يقتضي الوقوع فيما حرم الله بدعوى التيسير، بل كل ما جاءت به شريعة الرحمن فهو لجلب المصالح (سواء كانت معلومة أو خافية عن العبد) ودرء المفاسد، وليس الدين باتباع الهوى.

إخوتاه

أسأل الله لي ولكم السداد، آه لو أنعمنا البصيرة، فانظر كيف ربط رسول الله

(1) 1 أخرجه البخاري (6502) ك الرقاق، باب التواضع.

(2)

أخرجه البخاري (39) ك الإيمان، باب الدين يسر.

ص: 150

- صلى الله عليه وسلم بين الرفق والسداد، وكأنها وصية الوقت، فإنَّ السداد يعني التركيز على الهدف لإصابته، أي ليكن شغلك الشاغل منصبا على هدفك وهو"الجنَّة" فإن كنت لا تستطيع ذلك فلا بأس بالمقاربة، وطالما الأمر كذلك فأبشر، لكن لا تطمئن لعملك بل عليك بالمزيد فأكثر من فعل الصالحات واغتنم الأوقات، وهذا شأن تلقيك للأوامر توجه للهدف، حاول مرة بعد أخرى، لا تمل، ولا تيأس، بل أبشر، وابدأ في التدرج في الزيادة، والله يعينك. انظر لبساطة الموضوع والرفق في توضيحه حتى لا تنوء بنا الطرق لغياهب الغلو والشطط.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

إخوتاه

قال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف "(1)

يقول ابن المنير: " هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وقد رأينا ورأى الناس قبلنا أنَّ كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع الطلب الأكمل في العبادة فإنَّه من الأمور المحمودة، بل المراد منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة المفضية إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته".

إخوتاه .. الرفق بالنفس .. الرفق بالمسلمين، فما نزع الرفق من شيء إلا شانه، فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أعظم مراتب الإيمان حسن الخلق، ومن أجل الأخلاق فضلا الرفق،

(1) بهذا اللفظ أخرجه مسلم (2593) ك البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق.

ص: 151

فعن أبي هريرة رضي الله عنه -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا"(1)

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنَّ من أحبكم إليَّ أحسنكم أخلاقا "(2)

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنَّ من خياركم أحسنكم أخلاقا "(3)

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنَّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار"(4)

أما حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ورفقه فنسيج وحده.

عن أنس بن مالك قال: كانت امرأة في عقلها شيء قالت: يا رسول الله إنَّ لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها ثم رجع. (5)

كان صلى الله عليه وسلم -إذا جاء الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، ما يؤتي بإناء إلا غمس يده فيه وربما جاؤوا في الغداة الباردة فيغمس يده فيها. (6)

(1) أخرجه الترمذي (1162) ك الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها وقال: حسن صحيح، وأبو داود (4682) ك السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه.

والإمام أحمد (2/ 250،472،527)،وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (751)، وصحيح الترمذي (928)، وصحيح أبو داود (3916).

(2)

أخرجه البخاري (3760) ك المناقب، باب مناقب ابن مسعود.

(3)

جزء من حديث متفق عليه، أخرجه البخاري (3559) ك المناقب، باب صفة النبي ـ واللفظ له ـ ومسلم (2321) ك الفضائل، باب كثرة صيامه.

(4)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/ 90) ـ واللفظ له ـ، وأبو داود (4798) ك الأدب، باب في حسن الخلق. وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح أبي داود (4013).

(5)

أخرجه مسلم (2326) ك الفضائل، باب قرب النبي من الناس وتبركهم به.

(6)

أخرجه مسلم (2324) في الموضع السابق.

ص: 152

فهؤلاء كانوا يلتمسون بركة النبي صلى الله عليه وسلم يأتون بإناء فيه ماء ليضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده فيه ثم يشربون منه أو ينتفعون به، فربما يأتون في اليوم البارد والماء كأنه ثلج، ومع ذلك يضع يده صلى الله عليه وسلم.

أما الصحابة والسلف الصالح فشيء عجيب شأنهم، انظر للرجل الذي جاء لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بصدقة ماله، فقال له عمر: بارك الله لك في مالك.

قال الرجل: يا أمير المؤمنين وأهلي؟

قال: ولك أهل؟

قال: يكون إن شاء الله.

قال عمر: وأهلك إن كانوا معك إن شاء الله.

فانظر لرفق عمر وطيب معاملته للرجل، فكأنه رأى صغره أو علم أنَّه غير متزوج فيتعجب لطلب الرجل أن يدعو لأهله، ثم يلاطفه ويداعبه ويدعو له ولأهله إن كانوا إن شاء الله.

أمير المؤمنين يلاطف الناس ويداعبهم مع ما علم عن شدته في دين الله، لكنَّها شدة في الحق لا عن غلظ وقساوة، كيف وعمر أرق الناس قلبا، وخشيته لله معلومة، ووجله وخوفه معروف تشهد له المواقف الكثيرة.

وانظر إلى غاية الأدب في شخص الإمام أحمد رضي الله عنه -إمام أهل السنة.

يقول سلمة بن شبيب: سألت الإمام أحمد بن حنبل عن محمد بن معاوية النيسابوري.

فقال: نعم الرجل يحيى بن يحيى.

فمحمد بن معاوية متروك كما يقول عنه الحافظ في التقريب وكان يتلقن، وقال عنه ابن معين: كذاب.

فعندما سئل الإمام أحمد عنه ترك الكلام فيه، وأخبر السائل عن رجل آخر هو من

ص: 153

الأثبات الثقات "يحيى ين يحيى".

إخوتاه ..

لقد كانوا يحبون الرفق في كل شيء حتى في اللفظ، كانوا يوصون باستخدام الألفاظ الحسنة الطيبة دون الألفاظ الخشنة.

يقول الإمام الشافعي: حَسِّن ألفاظك، لا تقل: كذاب، وقل: ليس بشيء.

إخوتاه ..

لقد كان الناس ينالون من الأئمة وربما آذوهم بكلام شديد، ولا يزيدهم جهل الجهال إلا حلما.

كان بلال الأجوري صاحباً للإمام أحمد فتكلم عن أبي حنيفة رضي الله عنه فأعرض الإمام أحمد عنه. (1)

والأئمة كانوا يشددون على المخطئ حتى لا يشيع خطؤه بين الناس، وبلال الأجوري كان معظماً لأبي حنيفة رضي الله عنه -فلما أعرض عنه الإمام أحمد، قال له: كان بول أبي حنيفة أكبر من ملء الأرض مثلك. يقول: فنظر إليَّ وقال: سلام عليك، ومضى.

فلما كان من السَّحر، بكرت إليه فقلت: يا أبا عبد الله، إنَّ الذي كان منِّي كان على غير تعمد فأرجو أن تجعلني في حل.

(1) والناس قسمان في ذلك، قسم يعظمه لدرجة عالية فيرون مذهبه هو مذهب الحق ويرون كل الفقهاء عيالا على أبي حنيفة رضي الله عنه، وقسم آخر بالغ في القدح فيه حتى رموه بالكفر لما علم عن مذهبه في قضية الإيمان حتى رموه بالإرجاء، لأنه يقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولما يترتب على ذلك من تأخيره العمل عن الإيمان، والمسألة اختلف معه فيها أئمة أهل السنة (في ظاهرها)، وإن كان في المآل يتحد كلامه مع أهل السنة.

ص: 154

فقال: سبحان الله، والله ما زالت قدماي من مكانهما حتى سامحتك ودعوت لك.

إخوتاه ..

هكذا كانت الأخلاقيات، كان الأدب وحسن الخلق، كان الرفق في أجمل معانيه وتجلياته.

وانظر ـ أيضًا ـ ما يرويه الإمام السخاوي في " أدب الشيخين "عن صنيع القاضي أحمد بن إبراهيم الحماد المالكي، والإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي.

وهذه الحادثة ستتعلم منها أدب السلف عند الاختلاف، وكيف كانوا يعيشون دون تعصب وتنافر مما أحدثه المتأخرون المقلدون.

فالقاضي أحمد بن إبراهيم كان قاضي القضاة وكان مالكيا، ومع ذلك ما كان يتورع من الذهاب لمجلس الإمام الطحاوي ليسمع من تصانيفه المفيدة (1)

فاتفق مجيء شخص لاستفتاء الإمام الطحاوي عن مسألة بحضرة القاضي، فقال الإمام الطحاوي: مذهب القاضي ـ أيده الله ـ كذا وكذا، فقال السائل: ما جئت لأسأل القاضي، إنما جئت لأسألك أنت، فقال: يا هذا ليس عندي إلا ما ذكرت لك، ورد السائل.

فقال له القاضي: أفته أيدك الله.

فقال له الطحاوي: طالما أمرني القاضي فلا يسعني إلا الطاعة، الجواب كذا وكذا.

إخوتاه

الرفق من أعظم دواعي المحبة والألفة بين الإخوة والأصحاب، فالرفق يجعل نفوس

(1) للإمام الطحاوي شرح معاني الآثار والعقيدة المنسوبة إليه " الطحاوية " وغيرها من المصنفات العظيمة.

ص: 155

المتحابين وأموالهم ليست لهم بل هي قسمة وشركة بينهم، وما اتحفت النفوس بمثل استعمال الرفق والرحمة، فإنهما ما كانا في شيء إلا زان، وما نزعا من شيء إلا شان، فإنَّ الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، فمن أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير كله.

إخوتاه

تأملوا قوله صلى الله عليه وسلم " إنِّي لأقوم في الصلاة وأريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه"(1)

كيف كان رفيقا صلى الله عليه وسلم يستشعر حال الناس، ويقدر ظروفهم، وما يمنعه شيء عن رحمتهم والإحسان إليهم.

قال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً "(2)

وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم.

فقلت: واثكل أماه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت.

فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما نهرني، ولا ضربني، ولا شتمني. قال: إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنَّما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " (3)

(1) أخرجه البخاري (707) ك الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي.

(2)

جزء من حديث أخرجه مسلم (1478) ك الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية.

(3)

أخرجه مسلم (537) ك المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته.

ص: 156

إخوتاه

لا تكونوا منفرين، لما قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" دعوه واهرقوا على بوله سجلا من ماء ـ أو ذنوبا من ماء ـ فإنَّما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين "(1)

إخوتاه

ينبغي أن ننتبه لاستخدام الرفق والرحمة، فما يضع الله رحمته إلا على رحيم، فاللهم اجعلنا من الرحماء.

قال صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم، قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه يرحم الناس كافة "(2)

وفي تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكرـ رحمه الله أنَّ معاوية بن الحارث كان عاملا لعمر بن عبد العزيز على غزاة، فلما انتهت الغزوة أرسل إلى عمر يبلغه النصر.

فقال عمر بن عبد العزيز: هل سلم المسلمون في الغزوة؟ قال: نعم، قال: كلهم؟ قال: نعم كلهم إلا رجلا واحدا عدلت به دابته فساح في الثلج.

قال عمر: فصنع ماذا؟ قال الرجل: فهلك.

(1) أخرجه البخاري (220) ك الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد.

(2)

أخرجه الحافظ العراقي في "المجلس 86 من الأمالي"(77/ 2)،وله شاهد أخرجه ابن المبارك في " الزهد "(203/ 1)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (167).

ص: 157

فغضب عمر رضي الله عنه غضبا شديدا، وقام من مجلسه، وقال: لقد أطلقتها غير مكترث علي بفلان. فكتب إلى معاوية بن الحارث " إياك وغارات الشتاء، فوالله لرجل من المسلمين أحب إلي من الروم وما حوت ".

إخوتاه

هكذا الأخوة والحب في الله، فوالله الذي لا إله إلا هو ما أحب إنسان في الله ولله إلا وجد ما وجد عمر بن عبد العزيز أنَّ رجلا من المسلمين بالدنيا وما فيها.

إنَّه الحب في الله ولله، ينشئ هذه الصور الجميلة، هذا الإحساس الطيب اللطيف نحو المسلمين، إنَّه شعور الرحمة والشفقة والرفق.

أحد الدعاة دخلت عليه أمه وهو يبكي ففزعت وقالت: أمسلم في الهند مات؟

أه

نعم ينبغي أن تهتم بحال الناس جميعا، لابد أن تحزن لموت أي مسلم، كيف لا وهو أخوك.

إخوتاه

تأملوا هذه القصة العجيبة، يقول هارون بن عبد الله الحمال: جاءني أحمد بن حنبل بالليل فدق الباب علي، فقلت: من هذا؟

فقال: أحمد بن حنبل، فبادرت إليه وخرجت.

قلت: مرحبا يا أبا عبد الله، لو دعوتني لجئتك، ما حاجتك؟

قال: شغلت اليوم قلبي. قلت: بماذا يا أبا عبد الله؟ قال: مررت عليك اليوم وأنت قاعد تحدث الناس، أنت في الظل والناس في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر، لا تفعل مرة أخرى، إذا قعدت فأقعد الناس.

فانظر إلى هذه الرحمة البالغة، والحرص على المسلمين، فأي قلوب هذه؟! وأي

ص: 158

رقة كانوا يتحلون بها؟!

كان " أبو حندول الطيب " أحد القراء المشهورين، وكانت له صحيفة بها ثلاثمائة من أصدقائه يدعو لهم كل ليلة، ففي ليلة من الليالي تركهم ونام، فأتاه في المنام من يقول: يا أبا حندول لِمَ لَمْ تسرج مصابيحك الليلة؟ فقام وأخذ الصحيفة ودعا لواحد واحد حتى فرغ.

المؤمن للمؤمن كالبنيان، المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

إخوتاه

إنَّ الرفق أول طريق النجاح، وبداية للأخوة الإيمانية الحقيقية، فأحسن إلى أخيك وارحمه وارفق به ـ والله الموفق ـ

ص: 159

دوام الصلة والتزاور في الله

لو كان للفراق صورة لارتاعت لها القلوب ولهدت الجبال

ص: 161