الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
حافظ إبراهيم 1870-1932م:
أ- حياته:
كان يقيم في ديروط إحدى بلدان الصعيد حوالي سنة 1870 طائفة من المهندسين المصريين للإشراف على قناطرها القائمة على النيل، وكان من بينهم مهندس مصري صميم يسمى إبراهيم فهمي، اختار لسكناه سفينة "ذهبية"
أقام فيها مع زوجته التركية "هانم بنت أحمد البورصه لي". وفي هذه الذهبية وُلد لهما على صفحة النيل حافظ، ففرح به الأبوان، وعاشا بجانبه هانئين، إلا أن الدهر لم يلبث أن قلب لهما ظهر المجن، فإذا الأب يموت، وابنه يخطو على عتبة السنة الرابعة.
فانتقلت به أمه إلى القاهرة حيث كفله خاله، وكان مهندس تنظيم، فرعاه وقام على تربيته، وألحقه أولًا "بالكُتَّاب"، ثم تحول به إلى مدارس مختلفة كان آخرها المدرسة الخديوية. وتصادف أن نُقل خاله إلى بلدة "طنطا" فصحبه معه.
ولم يختلف في هذه البلدة إلى مدرسة؛ بل أخذ يختلف إلى الجامع الأحمدي، وكانت تُلقى فيه دروس على نمط ما يلقى في الأزهر. وحافظ لا ينتظم في هذه الدروس؛ بل يُلم بها من حين إلى حين في غير نظام. وأخذ يتضح فيه ميله إلى الأدب والشعر، فكان يطارح بعض الطلاب ويستعرض معهم طرائف الشعراء القدماء والمحدثين وخاصة البارودي.
وعلى هذا النحو مضى في حياته لا يحملها محمل الجد، فمله خاله، وأشعره بملله، فابتأس وأحس غير قليل من الألم، وعزم على أن يبدأ محاولاته في كسب قوته، ونوَّه بذلك في بيتين وجَّههما إلى خاله، على هذا النحو:
ثَقُلتْ عليك مئونتي
…
إني أراها واهيه
فافرَحْ فإني ذاهب
…
متوجِّهٌ في داهيه
وتوجه توًّا إلى المحاماة، وكانت لا تزال مهنة حرة، وكأنما أغرته بها ذلاقة لسانه وحسن منطقه، فالتحق بمكاتب بعض المحامين، إلا أن القلق عاوده.
وفجأة نجده راحلًا إلى القاهرة ليلتحق بالمدرسة الحربية، وينتظم بين طلابها، ويتخرج فيها سنة 1891، ويعين في وزارة الحربية ويظل بها ثلاث سنوات. ثم ينقل إلى وزارة الداخلية، فيمضي فيها عامًا وبعض عام، ثم يعود إلى الحربية، ويُدْعى إلى مرافقة الحملة الأخيرة إلى السودان، وكانت بقيادة اللورد كتشنر، فيرافقها على مضض، ولا يكاد يضع قدمه هناك حتى يتبرم، ويضج بالشكوى
ويراسل الشيخ محمد عبده معلنًا تبرمه وسخطه. وتقوم ثورة في الجيش فيشترك فيها ويُحاكَم، ويُحكم عليه في سنة 1900 بإحالته إلى الاستيداع، ولا يلبث أن يطلب إحالته إلى المعاش.
وحافظ في كل هذه الأطوار التي مرت بنا في حياته قلق ضيق بعيشه؛ فقد نشأ يتيمًا في أسرة متوسطة، ولم يلبث أن اضطر إلى كسب قوته بنفسه، وحاول أن ينظِّم حياته فدخل المدرسة الحربية وتخرج فيها؛ ولكن سوء الطالع لازمه، فأحيل إلى الاستيداع والمعاش.
وكانت شاعريته قد استوت له، وكان ذا نفس حساسة مرهفة الشعور، فأحس بعمق بؤسه، وحاول أن يشتغل في صحيفة الأهرام؛ ولكنها أغلقت أبوابها من دونه، فاتجه إلى الشيخ محمد عبده، ولزمه حتى ليقول:"فلقد كنت ألصق الناس بالإمام، أغشى داره، وأرِدُ أنهاره، وألتقط ثماره". وقد تعرَّف عن طريقه على الطبقة الممتازة من المصريين أمثال: سعد زغلول وقاسم أمين وحسن عاصم ومصطفى كامل ولطفي السيد ومحمود سليمان، وهي الطبقة التي كانت تفكر في الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي، والتي لا تزال آثارها فاعلة في حياتنا المصرية.
وبذلك هيأ له اتصاله بالشيخ محمد عبده أن يعيش في البيئة الطامحة إلى الإصلاح، وكان في الوقت نفسه يعيش في بيئة الشعب الفقيرة التي نشأ فيها ويختلط بها بحكم بؤسه. وكانت قد نشأت فيها طائفة من الأدباء البائسين أمثال إمام العبد، وكانوا يجلسون في مقاهي الأحياء الوطنية، وينتقلون فيها بأدبهم، وهي طبقة أوجدتها ظروف الحياة الحديثة، فقد كان الشعراء والأدباء في القديم يرعاهم الملوك والخلفاء والأمراء، وبطلت هذه السنة في العصر الحديث، واضطر الأدباء والشعراء إلى أن يعتمدوا على أنفسهم في كسب أرزاقهم وسد حاجاتهم، وسرعان ما تكونت بينهم هذه الطبقة البائسة التي أخذ يتنازع إمامتها في أول القرن إمام العبد وحافظ إبراهيم.
واضطر حافظ أن ينقطع إلى الطبقة الممتازة التي أشرنا إليها، وكان خفيف
الظل فقربوه منهم، فكان يمدحهم ويتندر لهم ويضحكهم، وينظم لهم الشعر في المناسبات المختلفة. وكان أكثر هذه الطبقة من أبناء الفلاحين الذين وصلوا بفضل جهودهم إلى المناصب العليا في مرافق الدولة، وكانوا يمتازون بشدة شعورهم بآمال الشعب وآلامه؛ فكان حافظ يجد في صحبتهم لذة، وكانوا يوسعون له في مجالسهم، فكان يروي لهم الشعر القديم وينشئ لهم قصائد فيما ينزعون إليه من وجوه إصلاح. وفي هذه الأثناء كتب "ليالي سطيح" وهي مقالات نثرية على طريقة المقامات، صوَّر فيها على لسان سطيح الكاهن الجاهلي كثيرًا من عيوب الشعب الاجتماعية، متأثرًا في ذلك أوضح التأثر بآراء الشيخ محمد عبده الإصلاحية. وحاول أن يتعلم الفرنسية ولم يتقنها، ومع ذلك ترجم البؤساء لفيكتور هيجو، ولم يستطع أن يترجمها ترجمة دقيقة، فاحتفظ بروحها، وزاد فيها ونقص حسب ذوقه.
وأخيرًا ينقذه في سنة 1911 حشمت "باشا" وزير التربية والتعليم حينئذ من هذه الحياة البائسة، ويعيِّنه في القسم الأدبي بدار الكتب المصرية، ويظل في هذه الوظيفة إلى سنة 1932. وأخذت الوظيفة تغلُّ لسانه، فلم يعد ينظم في شئوننا السياسية والاجتماعية كما كان شأنه قبل توظفه، حتى إذا وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، ورُدت إلينا حريتنا أخذ يعود سيرته الأولى، غير أنه كان -فيما يظهر- يخشى أن يُفْصَل من وظيفته، فلم ينشر كثيرًا مما نظمه في الأحداث السياسية خشية أن يطرد من عمله ويحرم من قوته. وأحيل إلى المعاش في عهد وزارة صدقي "باشا"، وكانت الحريات مكبوتة فنظم كثيرًا من الشعر الثائر، ولكنه لم ينشره على الملأ في الصحف؛ بل ظل يخاف السجن. ومن هنا كان ديوانه لا يشتمل على جميع ما نظمه؛ بل إن جزءًا قيمًا منه -وخاصة في السياسة- ضاع ولم يصل إلينا. على أن القدر لم يمهله بعد خروجه إلى المعاش؛ إذ سرعان ما نعاه الناعون باكين فيه وطنيته ودماثته وتواضعه وسماحة نفسه وجمال عشرته.
2-
شعره:
إذا أخذنا نبحث في شخصية حافظ الأدبية وجدنا عناصر مختلفة تشترك في تكوينها، وأول هذه العناصر الدم المصري الذي ورثه عن أبيه، حقًّا كانت أمه تركية، ولكن تركيتها لم تخلف أثرًا واضحًا فيه، فقد غلبتها مصريته، بل لقد استبدت به، وأصبحت كل شيء يجري في روحه ومزاجه، حتى غدا مثالًا حيًّا للمصري في عصره، مثالًا لروحه القومية ومزاجه الفكه الباسم، وما تزال الصحف والمجالس تتناقل نوادره وفكاهاته إلى اليوم.
وأضاف إلى هذا العنصر الوراثي عنصرًا عربيًّا من قراءاته للأدب القديم، وتطاول طموحه منذ أخذ في نظم الشعر إلى مقام البارودي، وربما كان دخوله في المدرسة الحربية ناشئًا عن رغبة ملحة في نفسه لأن تصبح سيرته مثل سيرة البارودي من جميع الوجوه، وكذلك اشتراكه في ثورة الجيش على كتشنر في السودان هو الآخر يطوي رغبته في احتذائه وتقليده.
فالبارودي كان مثله الأعلى، وأخذ يطابق مطابقة تامة بين هذا المثل وشعره، واستطاع أن يظفر من ذلك بما كان يطمح إليه، فقد أحيا في شعره صيغه الجزلة الرصينة، وإن كان قد حاول تبسيطها، إلا أن قوالبه تمتاز دائمًا بما تمتاز به قوالب البارودي من الرصانة والجزالة والبعث لأساليب العربية الأصيلة.
ومن الحق أن البارودي كان أوسع ثقافة منه، حتى في صلته بالشعر العباسي وما قبله وبعده من شعر عربي، وقد استطاع أن يؤلف فيه مختاراته التي تقع في أربعة مجلدات، وهو من هذه الناحية مثل: البحتري وأبي تمام، اللذين ألفا لأنفسهما بجانب ديوانهما مختارات من الشعر القديم باسم الحماسة. ولم يستطع حافظ أن يصنع صنيع الشاعرين العباسيين ولا صنيع أستاذه الحديث؛ لأنه
لم يكن منظَّم الثقافة؛ إذ كان يقرأ بدون نظام في العقد الفريد والأغاني ودواوين العباسيين. وكان له ذوق جيد وذاكرة لاقطة تعرف كيف تختزن ما تقرأ.
وهو يختلف عن البارودي أيضًا في أن ثقافته بالآداب الأجنبية كانت ضيقة محدودة، فقد مر بنا أن البارودي ثَقِفَ آداب اللغتين الفارسية والتركية، وحاول أن يتعلم الإنجليزية في منفاه وسافر إلى أوربا قبل ذلك، ورأى الحضارة الغربية المادية، وهيأت له أرستقراطيته أن يتأثر بها في معيشته. وكل ذلك يجعل البارودي واسع الثقافة، أما حافظ فقد تعلم تعليمًا متوسطًا كما يتعلم أنداده من أفراد الطبقة الوسطى، وعرف أطرافًا من الفرنسية، ولكنها كانت معرفة قاصرة لم تتح له التعمق في آداب هذه اللغة.
فحافظ كان ضيق الثقافة بالقياس إلى البارودي، وكان أشد ضيقًا بالقياس إلى معاصريه من أمثال: شوقي ومطران، اللذين كانا يتقنان الفرنسية وآدابها، مما أفادت منه طبيعتهما الأدبية إفادة واسعة. أما هو فكان محدود الثقافة، واضطرته إلى ذلك ظروف مادية قاسية، فهو لم ينشأ في طبقة أرستقراطية مثل: البارودي وشوقي، وشتان السفر إلى أوربا والسفر إلى السودان، ومع ذلك لا بد أن نجلَّ عصاميته؛ إذ كان شاعرًا بطبعه لا بثقافته، واستطاع أن يثبت للمنافسة مع شوقي ومطران وغيرهما ممن رفدوا طبيعتهم بجداول الفكر الغربي وينابيعه العقلية.
وهنا لا بد أن نلاحظ العنصر الثالث المهم في تكوين شخصيته الأدبية، وهو عنصر بيئته المصرية الاجتماعية، وكان عنصرًا مركبًا، فهو من جهة نشأ في طبقة وسطى ودعته ظروف الحياة إلى أن يحس آلام الشعب وما ينطوي فيها من بؤس وفقر وشقاء، وهو من جهة ثانية أخذ يختلط بالطبقة الممتازة من المصريين التي لم تكسب امتيازها عن الوراثة، وإنما كسبته بجهودها، وكانت هذه الطبقة التي نشأت في البيئة الشعبية وتهيأ لها أن تسمو بحياتها وأن تصبح من الطبقة الأرستقراطية تشعر بكل ما يشعر به الشعب من حزن وألم، وتتمنى لو استطاعت أن تغير حياته في السياسة والاجتماع والثقافة.
ونشأة حافظ في الطبقة الأولى واختلاطه بالطبقة الثانية طبعا شعره بطوابع قوية؛ بحيث أصبح شاعرًا مصريًّا تامًّا يصور النفس المصرية الطامحة في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن تصويرًا دقيقًا، وماذا تريد من تصوير الشعب؟ أما إن كنت تريد تصوير شكواه وحزنه وبؤسه وفقره فقيثارة حافظ تسمعك كل هذه الألحان الشجية، وأما إن كنت تريد ما يضطرب في قلوب زعمائه ومصلحيه من دعوات عقلية وروحية وسياسية ووطنية، فالقيثارة نفسها تتدفق عليها هذه الأنغام وكأنه تعتصرها اعتصارًا.
وكثر في أول هذا القرن المتعلمون، وأخذت الصحف تظهر بانتظام وتنشر الشعر والمقالات الأدبية، وأخذ الشعراء يتنافسون في نشر إنتاجهم بالصحف، ودعاهم ذلك إلى أن يفكروا في الجمهور، وأن يخاطبوا طبقاته الوسطى ويغنوا عواطفها السياسية والوطنية والاجتماعية، وكان حافظ هو الصوت الأول الذي لبى حاجة الجماعة المصرية.
وانقسم المصريون حزبين: الحزب الوطني وحزب الأمة، وكثر الحوار في الآراء السياسية، وكثرت المقالات، وأخذ الكُتاب يكتبون في عيوبنا الاجتماعية، وتبعهم الشعراء ينظمون شعرًا سياسيًّا واجتماعيًّا، وتقدمهم حافظ ينشئ هذا الشعر ويذيعه في صورة قوية.
وحافظ في هذه الجوانب يبلغ -وخاصة في أول القرن- ما لم يبلغه شوقي والبارودي، أما شوقي فكان موظفًا بالقصر، وكان بعيدًا عن الشعب ومصلحيه، وأما البارودي فمعروف أنه ممن ثاروا في ثورتنا الأولى مع عرابي، إلا أن المتعلمين في أيامه كانوا قلة قليلة، ولم تكن الصحف قد شاعت، ولم يكن قد تكوَّن جمهور واسع من القراء، ثم هو نشأ نشأة أرستقراطية، فكان شعوره بنفسه أقوى من شعوره بالشعب؛ بل لا نبالغ إذا قلنا: إنه في شعره السياسي إنما كان يصور نفسه وطموحه لحكم مصر أكثر من تصويره لحرية الشعب التي يريدها المصريون ويحلمون بها.
على كل حال لم يقصد البارودي بشعره إلى الجمهور أولًا، أما حافظ فقد
قصد به أولًا إلى الجمهور، ولعل ذلك ما جعل شعره أكثر وضوحًا وأقرب فهمًا؛ إذ كان يبسِّط لغته وأساليبه. حقًّا صب شعره في القوالب القديمة ولكنها عنده أدنى إلى الجمهور منها عند البارودي لسبب بسيط؛ وهو أنه كان يذيعها في صحفه اليومية، وكان كثير منها يُطْبَع بطابع السياسيين من معاصريه، وخاصة الخطباء منهم، فنحن في أحوال كثيرة نشعر عنده أنه يخطب، على نحو ما يخطب مصطفى كامل وغيره.
وحافظ بذلك صورة حية لعصره، فهو ينقله إلينا في شعره بأفكاره وآراء كتابه وخطبائه، وأساليبهم أحيانًا. فكل ما يضطرب في نفوس معاصريه يستوعبه استيعابًا رائعًا ويحوِّله شعرًا، فإذا وجدته يقول:
وما أنتِ يا مصر دار الأديب
…
ولا أنتِ بالبلد الطيب
أيعجبني منك يوم الوفاق
…
سكوت الجماد ولعب الصبي
يقولون في النشء خير لنا
…
وللنش شر من الأجنبي
فإنما يعبر عن سخط من حوله من السياسيين والاجتماعيين، فهو يشير إلى سكوت المصريين على الاتفاق الذي تم بين فرنسا وإنجلترا سنة 1904، وكان يتيح لأولاهما أن تطلق يدها في مراكش، ولثانيتهما أن تطلق يدها في مصر وتأخذها بما تريد من حكم جائر. ونراه يعيب على الشباب عكوفه على الملاهي وانصرافه عن الجد والعمل المثمر لأمته. ولحافظ شعر كثير يقرِّع فيه الشباب كأنه يريد أن يستثيرهم بما يغرس من الحميَّة فيهم. وكان لا يجد بِرًّا ولا عملًا نبيلًا إلا يشيد به ويتغنى بالقائمين على أمره، وله في فتح المدارس والجامعة القديمة وإنشاء الملاجئ شعر كثير؛ كقوله في رعاية الطفولة:
أنقذوا الطفل إن في شقوة الطفـ
…
ـل شقاء لنا على كل حال
أنقذوه فربما كان فيه
…
مصلح أو مغامر لا يبالي
شاع بؤس الأطفال والبؤس داء
…
لو أتيح الطبيب غير عضال
وبجانب هذا الضرب من الشعر الاجتماعي، يكثر عنده الشعر السياسي، ومن أروع ما قاله في قصيدته في حادثة دنشواي، وقد نظمها على هذا النمط الساخر:
أيها القائمون بالأمر فينا
…
هل نسيتم ولاءنا والودادا
خفِّضوا جيشكم وناموا هنيئًا
…
وابتغوا صيدكم وجُوبوا البلادا
وإذا أعوزتكم ذات طوق
…
بين تلك الرُّبَى فصيدوا العبادا
إنما نحن والحمام سواء
…
لم تغادر أطواقنا الأجيادا
ويمضي في القصيدة فيصور ظلم الإنجليز وبغيهم وسخط الأمة المصرية عليهم سخطًا شديدًا. ويلاحَظُ عليه في هذه القصيدة وغيرها من شعره السياسي ضرب من الحذر والاحتياط، فهو لا يثور على الإنجليز ثورة عنيفة، بل يشفع الثورة عليهم بضرب من اللباقة والحيلة، حتى يتقي غياهب سجونهم. وفي رأينا أن هذا الاحتياط جاءه من الطبقة المثقفة الممتازة التي كان يعيش في كنفها؛ إذ كانت تصطنع مع الإنجليز الحذر والتقية.
وإن من الظلم أن نقيس حافظًا في شعره الوطني بما نُشر منه، فقد مر بنا أن كثيرًا من هذا الشعر لم يُنشر، وأنه كان يكتفي بإنشاده في النوادي والمجالس. وقد أنشأ بعد إحالته إلى المعاش قصيدة ثائرة تربو على مائة وخمسين بيتًا، وليس في ديوانه منها سوى أبيات معدودة. وحسبه قلادته الرائعة التي أنشدها على لسان مصر، والتي تُغَنَّى في عصرنا وتدور على كل لسان، وهي تلك التي يفتتحها بقوله:
وقف الخلق ينظرون جميعًا
…
كيف أبني قواعد المجد وحدي
وفيها رسَم مصرَ تحوطها هالة من أمجادها الفرعونية، وما زال يعرض هذه الأمجاد في الفن والتشريع والسياسة، ثم عرض لغزاتها وكيف أن راميًا لم يرمها بسهم إلا رُد في نحره. وتحول الى الاستعمار البغيض، وصور كفاحنا وصراعنا له، وكيف نبني مصرنا الحديثة بناء شامخًا.
وهذه النزعة الوطنية يقترن بها في شعره نزعتان: عربية وإسلامية، وتبدو الأولى في كثير من قصائده، وخاصة في قصيدته التي تكلم فيها بلسان اللغة العربية، وقد نشرها في أول القرن حين كانت تهب عاصفة العامية ضد العربية، وهي من غُرَرِ قصائده، ومطلعها:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
…
وناديت قومي فاحتسبت حياتي1
وأما النزعة الإسلامية فتبدو في قصيدته العمرية التي قصرها على عمر بن الخطاب وأعماله، كما تبدو في شعر كثير له نظمه في الخلافة العثمانية؛ إذ كان المسلمون يتجهون إليها في أول القرن كما يتجهون إلى مكة، فهذه قلب الإسلام الخافق وتلك سنده الذي يذود عنه بالسلاح.
وكل هذا كان في سبيل الغاية الجديدة من التغني بأهواء الجماهير. ونشأ عن ذلك أن أصبح شعرنا في كثير من جوانبه -وعلى الأخص عند هؤلاء الرواد- شعرًا صحفيًّا يصور أحداثنا السياسية. وانطلق الشعراء به يصورون الأحداث العالمية، فإذا انتصرت اليابان تغنَّى حافظ بالشرق وأمجاده، وإذا حدث بركان أو زلزال في صقع من الأصقاع ذهب يصور بؤس المنكوبين فيه، وكأنه يصور بؤسه وبؤس المصريين. وأخذ هو وغيره من الشعراء يصفون المخترعات، كأنهم يرون في ذلك مجاراة لروح العصر، وله شعر مختلف في القطار والطيارة والباخرة.
وليس من شك في أن حافظًا كان بذلك مجددًا في شعره بالمقدار الذي يستطيعه؛ وهو تجديد يستجيب فيه لبيئته وعصره، أما الآداب الأجنبية فلم تسعفه معرفته لها بغذاء عقلي جديد. وقد نظم في موضوعات قديمة كالإخوانيات والخمريات والغزل، وهو فيها مقلد، وإن كان له جمال السبك والصياغة أحيانًا. وربما كان خير موضوع قديم أجاد فيه فن الرثاء، ومرجع ذلك إلى أنه كان يتفق وطبعه الحزين ونفسه القلقة الشاكية، وأيضًا فإنه كان
1 الحصاة: العقل والرأي، احتسب حياته: عدها عند الله فيما يدخر.