المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ توفيق الحكيم: - الأدب العربي المعاصر في مصر

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌فهرس الموضوعات:

- ‌الفصل الأول: مؤثرات عامة:

- ‌ أحداث كبرى:

- ‌ تياران: عربي وغربي:

- ‌ المطبعة والصحف:

- ‌ الشعر وتطوره:

- ‌ استمرار التقليد:

- ‌ نهضة وإحياء:

- ‌الفصل الثالث: أَعْلام الشعر:

- ‌ محمود سامي البارودي 1838-1904م:

- ‌ إسماعيل صبري 1854-1923م:

- ‌ حافظ إبراهيم 1870-1932م:

- ‌ شوقي 1869-1932م:

- ‌ خليل مطران 1872-1949م:

- ‌ عبد الرحمن شكري 1886-1958م:

- ‌ عباس محمود العقاد 1889-1964م:

- ‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

- ‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

- ‌ علي محمود طه 1902-1949م:

- ‌الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه:

- ‌ تقيد بأغلال السجع والبديع:

- ‌ حركة تحرر وانطلاق:

- ‌ بين الجديد والقديم:

- ‌ تجديد شامل:

- ‌ فنون مستحدثة:

- ‌المسرحية:

- ‌الفصل الخامس: أعلام النثر:

- ‌ محمد عبده 1849-1905م:

- ‌ مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م:

- ‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

- ‌ مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:

- ‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

- ‌ إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م:

- ‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

- ‌ طه حسين 1889-1973م:

- ‌ توفيق الحكيم:

- ‌ محمود تيمور 1894-1973م:

الفصل: ‌ توفيق الحكيم:

9-

‌ توفيق الحكيم:

ب- حياته وآثاره:

وُلد توفيق الحكيم في الإسكندرية سنة 1898 لأب كان يشتغل في السلك القضائي، من قرية "الدلنجات" إحدى أعمال إيتاي البارود بمديرية البحيرة. وورث هذا الأب عن أمه ضيعة كبيرة، فهو يُعد من أثرياء الفلاحين، وقد تعلم وانتظم في وظائف القضاء، واقترن بسيدة تركية، أنجب منها توفيقًا، وكانت صارمة الطباع، تعتز بعنصرها التركي أمام زوجها المصري، وتشعر بكبرياء لا حد له أمام الفلاحين من أهله وأقاربه.

وقضت أيامها الأولى مع الطفل بين هؤلاء الفلاحين في الدلنجات، فكانت تعزله عنهم وعن أترابه من الأطفال، وتسد بكل حيلة أي طريق يصله بهم. ولعل ذلك ما جعله يستدير إلى عالمه العقلي الداخلي؛ إذ كانت تغلق في وجهه كل الأبواب التي تصله بالعالم الخارجي. ولما بلغ السابعة من عمره ألحقه أبوه بمدرسة دمنهور الابتدائية، وظل بها ردحًا من الزمن، حاول فيه أن يحرر نفسه من وثاق أمه وحياة الانفراد التي أخذته بها؛ ولكنه لم يستطع إلا في حدود ضيقة.

ولما أتم تعليمه الابتدائي رأى أبوه أن يرسله إلى القاهرة ليلتحق بإحدى المدارس الثانوية، وكان له بها عَمَّان يشتغل أحدهما مدرسًا بإحدى المدارس الابتدائية، أما الثاني فكان طالبًا بمدرسة الهندسة، وكانت تقيم معهما أخت لهما. فرأى أبوه أن يسكن مع عمَّيه وعمته؛ ليساعدوه على التفرغ للدرس، وأتاح له بُعْده عن أمه شيئًا من الحرية، فأخذ يُعْنَى بالموسيقى والتوقيع على العود.

وإذا كان الفتى المراهق قد عُنِي بالموسيقى فإنه أخذ يُعْنَى بالتمثيل والاختلاف إلى فرقه المختلفة، وفي هذه الأثناء أتم تعليمه الثانوي والتحق بمدرسة الحقوق، وكانت مواهبه الأدبية قد أخذت تستيقظ في قلبه وعقله، ورأى محمد تيمور

ص: 288

وكثيرًا من الشباب حوله يقدمون لفرق الممثلين مسرحيات يقومون بتمثيلها وعَرْضها على الجمهور، وكانت الثورة المصرية قد انبعثت قبل ذلك، ووجهت الممثلين والمؤلفين من الشباب إلى العناية بالروح القومية. ولم يلبث توفيق أن ألَّف في سنة 1922 مجموعة من المسرحيات مثلت بعضها فرقة عكاشة على مسرح الأزبكية؛ منها:"المرأة الجديدة" و"الضيف الثقيل" و"علي بابا". وهي في جملتها محاولات ناقصة.

وتخرج توفيق في الحقوق سنة 1924، وزيَّنَ لأبيه سفره إلى باريس لإكمال دراسته في القانون، ووافق الأب على رغبته، وهناك أمضى نحو أربع سنوات لم يعكف فيها على دراسة القانون؛ وإنما عكف على قراءة القصص وروائع الأدب المسرحي في فرنسا وغير فرنسا، وشُغف بالموسيقى الغربية شغفًا شديدًا، واستطاع بما لأبيه من ثراء أن يعيش في باريس عيشة فنية خالصة، فَوَقْتُهُ كله موزَّع بين المسارح والموسيقى والتمثيل، وهو في أثناء ذلك يقرأ ويفهم ويتمثل ثقافات العصور الغابرة والمعاصرة. واستقر في ضميره أنه أُعِدَّ ليكون أديب وطنه القصصي والمسرحي، ورأى أوربا تؤسِّس مسرحها على أصول المسرح الإغريقي فتحول إلى هذا المسرح يدرسه، ويتقن درسه وما انتهى إليه من تطور على أيدي الغربيين المحدثين، كما أخذ يدرس القصة الأوربية ومدى تمثيلها لروح أقوامها وأحوالهم النفسية والاجتماعية.

ووعى ذلك كله وعيًا دقيقًا، وأخذ يحاول كتابة قصة تصور كفاح الشعب المصري في سبيل الحرية، فكتب قصته "عودة الروح" وحاول أن يكتبها بالفرنسية، ثم حولها إلى العربية ونشرها في سنة 1933 في جزأين. وفيها يعرض المحيط الاجتماعي في بلاده قبل ثورة سنة 1919، واختار لذلك أسرة متباينة الأمزجة، هي نفس الأسرة التي كان يعيش معها بالقاهرة أسرة عمَّيه وعمته وما اضطربوا فيه من علاقات. وهو نفسه محسن الفتى المراهق الذي وقع في حب جارة له، هي فتاة ضابط متقاعد، وكانت واقعية النظر، فلم تَجْرِ معه في حبه أشواطًا بعيدة؛ بل انصرفت عنه إلى شاب كانت تعجب به، ويتعكر صفو السلام بين أسرتها وأسرته. وفي الجزء الثاني من القصة

ص: 289

نرى محسنًا في الريف، ونسمع خلال فنون من الحوار إلى دفاع عن الفلاح المصري وعراقة روحه، تلك الروح التي أنشأت عصر الفراعنة، والتي تنشئ نهضتنا الحديثة. ويعود إلى القاهرة ليرى حبه يتحطم، وتنشب الثورة المصرية، ويضطرب أفراد الأسرة فيها ويتَّحدون في مثل أعلى سامٍ، هو الجهاد في سبيل الحرية. وقد كُتبت هذه القصة في كثير من جوانبها بلغتنا العامية.

وقد عاد توفيق إلى مصر في سنة 1928 ووُظف في سلك النيابة حتى سنة 1934، ثم انتقل مديرًا للتحقيقات بوزارة التربية والتعليم، وظل بها إلى سنة 1939؛ إذ نقل إلى وزارة الشئون الاجتماعية مديرًا لمصلحة الإرشاد الاجتماعي. وصَمَّم منذ عاد من بعثته أن يقتحم فن التمثيل الغربي بعد أن عرف أصوله وتلقَّن أسسه عند الإغريق والفرنسيين، وأُلْهم كما ألهم لطفي السيد وطه حسين أنه لا بد من الرجوع إلى الإغريق الذين هيئوا لأوربا نهضتها في التمثيل وغير التمثيل؛ لنبني نهضتنا الثقافية على نفس القواعد التي بَنَى عليها الأوربيون.

ويتعمق بنظره المأساة الإغريقية، فيجدها تستمد موضوعها من الأساطير ومن شعور ديني بصراع عنيف بين الإنسان والقوى الإلهية المسيطرة على الكون، وتصوِّر المأساة هذا الصراع صاعدًا إلى نهايته، وهي الفاجعة التي تنتج عن صرامة القضاء. ولم يلبث توفيق الحكيم أن عمد إلى تطبيق ذلك في أسطورة إسلامية عَرضتْ لها الروايات المسيحية، وهي قصة أهل الكهف التي أشير إليها في القرآن الكريم، وهم سبعة نفر ماتوا في الكهف، وظلوا نحو ثلاثمائة سنة، ثم بُعثوا، وعادوا إلى الموت بعد أن ظهرت معجزتهم الخارقة، إلا أن توفيقًا جعلهم يستأنفون الحياة، وجعل لهم مغامرات بناها على صراع عنيف بين الإنسان والزمن، فقد كان كل شيء مُعَدًّا ليعيشوا معيشة رغد وهناءة؛ ولكن حائلًا يحول بينهم وبين هذه المعيشة؛ هو الحقيقة التي تصطرع مع الواقع.

فهذا أحدهم يعلم أن ابنه مات منذ مائة عام، فيؤثر الموت على الحياة، ويعود إلى الكهف، وهذا ميشلينا الذي كان قد وقع قديمًا في حب بريسكا بنت ديقيانوس يلتقي في قصر الملك المسيحي بحفيدة جميلة لها سميت باسمها، وانطبعت على وجهها صورتها، فظنها معشوقته القديمة، وتُفْتَنُ به، ويتبادلان

ص: 290

الحب. وتتضح لهما الحقيقة، فتُفسد واقعهما، ويعود ميشلينا إلى الكهف مؤثرًا للموت كما يعود جميع رفقائه، وقد رأوا أنهم لا يستطيعون استئناف الحياة في هذا الواقع الجديد، وبذلك ينهزم الواقع أو الإنسان أمام الزمن أو أمام هذا الشيء الغيبي الغامض الذي يسمى الحقيقة.

وعلى هذا النحو بدأ توفيق كتابة المأساة مؤمنًا بأن قوة تسيطر على الإنسان، فهو لا يعيش وحده في الكون؛ بل تسيطر عليه قوة إلهية عُلْوية، توجهه وتوحي إليه، وتدفعه يمينًا أو شمالًا. وتوفيق في ذلك يخضع لروحنا الشرقية المتدينة التي تؤمن بالقوى الغيبية المهيمنة على الناس. وأخذت تنبثق في نفسه هذه الروح لا بشعورها الديني فحسب؛ بل بشعورها الصوفي الذي يُعْلِي الروح والقلب على المادة والعقل. ويتبين ذلك في مأساته الثانية "شهرزاد" التي مثَّل في بطلها "شهريار" الصراع بين الإنسان والمكان، فقد استنفد في صاحبته كل ما أراد من متاع ولذة، وتحول قلقًا ظامئًا يريد معرفة الكون وأسراره. وهنا يبدأ الصراع العنيف بين الإنسان الشقي بقصور فهمه وبين حقائق العالم وأسراره. ويحاول شهريار أن يرحل عن واقعه ومكانه ناشدًا للمعرفة، ولكن لا يلبث أن يعود، فهو لا يستطيع فرارًا من مادته، ويصطدم بخيانة شهرزاد، وينتهي إلى حال شاذة.

وعلى هذا النحو لن يستطيع الإنسان أن يخلص من مكانه وزمانه والقوى الغيبية التي تسيطر عليه، وإن خيرًا للعالم أن يعتصم بقيم الشرق الروحية؛ بل إن علينا أن نحارب العقل الغربي الذي يؤمن بالمادة وحدها، وينفي عن عالمنا قيمه الروحية الجميلة. وبهذه الروح الشرقية مضى يكتب قصته "عصفور من الشرق" وفيها يقول:"وما صنع لنا العلم وماذا أفدنا منه؟ الآلات التي أتاحت لنا السرعة وماذا أفدنا من هذه السرعة؟ البطالة التي تلم بعُمَّالنا وإضاعة ما يزيد من وقت فراغنا فيما لا ينفع".

وأتاح له عمله في النيابة وفي مراكز ريفية مختلفة أن يكتب "يوميات نائب في الأرياف"، وفيه وصَف وصفًا دقيقًا ريفنا، وكيف أن أهله لا يفهمون مدلول

ص: 291

القانون، وكيف يتعسف الحكام في حكمهم مبينًا عيوب النظم الإدارية والقضائية والتشريعية، وهو في أثناء ذلك يعرض الحوادث والأشخاص عرضًا واقعيًّا حيًّا في سخرية مرة وفي مقابلة حادة بين واقعية الفلاحين والمثالية.

ويُخْرج "أهل الفن" وهي ثلاث قطع مسرحية، فكاهية قصيرة وأقصوصتان. ويخرج سيرة "محمد" صلى الله عليه وسلم في قالب حواري، حافظ فيه على حوادث السيرة محافظة تامة. ويلتقي مع طه حسين في صيف سنة 1936 بقرية من قرى جبال الألب في فرنسا، ويكتب معه "القصر المسحور" متحدثين معًا عن سر شهرزاد وعن حقائق مختلفة في الأدب والفن.

ويستقيل من الوظيفة الحكومية في سنة 1943 ويخلص لفنه، ويتعاقب إنتاجه بين مقالات نقدية في الصحف، يجمعها وينشرها، وبين قصص وأقاصيص اجتماعية مثل عهد الشيطان، ويتضخم إنتاجه في المسرحيات تارة يستوحيها من محيطه الاجتماعي المصري على نحو ما نعرف في مجموعته "مسرح المجتمع" التي نشرها في الصحف أولًا ثم جمعها في هذا الكتاب معالجًا فيها مشاكلنا الاجتماعية والسياسية بروح فكهة، وتارة يستوحيها من موضوعات قديمة وأساطير إغريقية وغير إغريقية حتى يأخذ الفرصة كاملة لمسرحه الذهني الذي اشتهر به من قبل في "أهل الكهف" و"شهرزاد"، والذي يذهب بعض النقاد إلى أن صلاحية مسرحياته للقراءة فيه أكثر من صلاحيتها للتمثيل. وقد مضى فألف مسرحية "براكسا أو مشكلة الحكم" التي نشرها في سنة 1939، وهي تعرض لمشكلة توزيع السلطات، وتكشف عن فسادنا السياسي قبل الثورة.

ونراه ينشر في سنة 1942 مأساة بيجماليون، يستوحيها أيضًا من أسطورة إغريقية، تصور المشكلة بين الفن والحياة، فهذا مَثَّال انصرف عن النساء إلى فنه، وصنع تمثالًا آية في الجمال والفتنة، وأحب هذا التمثال الذي صنعه بيديه، وسوَّلت له نفسه أن يطلب إلى "فينوس" أن تبعث الحياة فيه،

ص: 292

فاستجابت له، وأحالت تمثاله امرأة اقترن بها. وحوَّل الحكيم هذه الأسطورة إلى مأساة يقوم فيها صراع عنيف بين الفنان وإخلاصه لفنه وبين نداء الحياة الذي يلاحقه ولا يستطيع فكاكًا منه، وبعبارة أخرى: يصعد صراع بين ملكات الفنان وبين الإنسان الراقد في أطوائه. ويطلب بيجماليون إلى الآلهة أن تعيد له تمثاله، وتستجيب إليه، وما يلبث أن يتولاه القلق ويثور، فيحطم تمثاله، وتنتهي حياته بنفس الحيرة التي أنهى بها توفيق حياة شهريار في مأساته "شهرزاد".

ويعود توفيق إلى موضوعاتنا الدينية، ويختار سليمان الحكيم وقصة الهدهد وبلقيس التي جاءت في القرآن الكريم. ويمزج بين ذلك وبين قصة الجني والصياد في ألف ليلة وليلة، ويكتب مسرحيته "سليمان الحكيم"، يعرض فيها مُلْكه العظيم وحبه لبلقيس. وتتوالى الأحداث كما يميلها القضاء، وتتعطل إرادة الأشخاص حتى سليمان الحكيم نفسه، وقد اتخذ توفيق من الجني أو العفريت رمزًا للعقل المغرور الذي يظن واهمًا أنه قادر على كل شيء.

وفي سنة 1949 يخرج قصة "الملك أوديب" التي تزعم الأسطورة الإغريقية أنه قتَل أباه وتزوج أمه، بدون معرفته. وكانت الآلهة قد تنبأت للأب بذلك نتيجة لخطيئة أحلت عليه اللعنة، فلما رُزق هذا الولد أمر راعيًا أن يحمله إلى أحد الجبال المهجورة ويقتله؛ ولكن الطفل أنقذ وتربى في بلاط ملك آخر، وتطورت الأحداث كما شاءت الآلهة. وعرَف أوديب وأمه أو زوجته ذلك أخيرًا، فانتحرت، وفقأ عينيه وحلت عليه اللعنة الأبدية.

وأخذ الحكيم هذه الأسطورة، فجردها من النبوءة الوثنية عند الإغريق وما يعتقدون في آلهتهم، ومضى في ظلالها يهاجم العقل ومحبته للبحث والاستطلاع، فإن أوديب يسعى للبحث عن حقيقته، بعد أن استوى ملكًا وتزوج أمه، وتصدمه الحقيقة هو وأمه؛ بل تقضي عليهما قضاء مبرمًا.

وإنما أطلنا في عرض هذه المسرحيات والمآسي؛ ليقف القارئ على أن لتوفيق فلسفة في مسرحه الذهني. وهي فلسفة يستمدها من الشرق وروحه العميقة التي تؤمن بقوى غيبية تسيطر على الإنسان وملكاته، والتي تشك في العقل وكل

ص: 293

ثمراته. ومعنى ذلك: أنه أوجد لنا مسرحًا مصريًّا، له فلسفته التي يقف بها بجانب المسارح الغربية القديمة والحديثة. وكتب بنفس هذه الفلسفة وما يتصل بها من صوفية الشرق كثيرًا من قصصه، ولعل ذلك ما جعل الغربيين يترجمون آثاره إلى لغاتهم؛ بل لقد مثَّلوا بعض مسرحياته، وخاصة شهرزاد؛ إذ وجدوها خليقة حقًّا بالتمثيل؛ لما فيها من جمال ودقة وعمق.

وكان طه حسين قد أشاد بهذا الكاتب الفذ حين أخرج أول آثاره المسرحية "أهل الكهف" سنة 1933 فقال: إنها حَدَثٌ في تاريخ الأدب العربي، وإنها تضاهي أعمال فطاحل أدباء الغرب. فلما تولى وزارة التربية والتعليم عينه مديرًا لدار الكتب المصرية سنة 1951.

وعُين في سنة 1956 عضوًا متفرغًا في المجلس الأعلى للآداب والفنون. وفي سنة 1959 عُين مندوبًا مقيمًا لجمهوريتنا العربية المتحدة في "اليونسكو" بباريس، غير أنه فضل العودة في سنة 1960 إلى عمله بالمجلس الأعلى. وقد أخرج في السنوات الأخيرة ثلاث مسرحيات رائعة؛ هي:"إيزيس" و"السلطان الحائر" و"صفقة"، وفيها عصير شعبي بديع.

ص: 294

ب- شهرزاد:

استلهم توفيق في كتابة هذه المسرحية الأسطورة الفارسية التي تزعم أن كتاب ألف ليلة وليلة قَصَصٌ قصته شهرزاد على زوجها شهريار. وذلك أنه فاجأ زوجته الأولى بين ذراعي عبد خسيس، فقتلهما، ثم أقسم أن تكون له كل ليلة عذراء، يبيت معها، ثم يقتلها في الصباح انتقامًا لنفسه من غدر النساء. وحدث أن تزوج بنت أحد وزارئه "شهرزاد"، وكانت ذات عقل ودراية. فلما اجتمعت به أخذت تحدثه بقصصها الساحر الذي لا ينضب له معين، وكانت تقطع حديثها بما يحمل الملك على استبقائها في الليلة التالية لتتم له الحديث، إلى أن أتى عليها ألف ليلة وليلة، رُزقت في نهايتها بطفل منه، فأرته إياه وأعلمته حيلتها، فاستعقلها واستبقاها.

ص: 294

ويبدأ توفيق مسرحيته بنهاية الأسطورة، فإن شهرزاد كشفت لشهريار عن معارف لا تُحَد، وأصبح ظامئًا للمعرفة، ولم يعد يُعْنَى بالجسد ولذاته، فقد تحول عقلًا خالصًا يبحث عن الألغاز والأسرار حتى ليريد أن ينطلق من قيود المكان لعله يطَّلع على مصادر الأشياء وغاياتها، ويعرف كُنْهَهَا وحقائقها.

والمسرحية في سبعة فصول، ونلتقي في الفصل الأول بجلاد الملك وعبد أسود يحاوره في شأن الملك وما يقال عن خبله، وكيف يغدو إلى كاهن يطلب عنده حلًّا لبعض ألغازه، ونسمع بوزيره قمر. ويتراءى لنا العبد مثالًا للبوهيمية التي تقبع في داخله؛ إذ يرى عذراء مع الجلاد، فيقول:"ما أجمل هذه العذراء! وما أصلح جسدها مأوى! " ويتحول متسائلًا عن شهرزاد.

وننتقل إلى الفصل الثاني، فنجد قمرًا الوزير مع الملكة في قاعتها، ونعرف من الحوار أنه يحبها محبة العابد لمعبوده لا محبة العاشق لمعشوقته، فقد سما بعواطفه إزاءها سموًّا بعيدًا، وهي تعرف ذلك وتعبث به، ويخشى أن تكتشف سره، فينقل الحديث معها إلى الملك على هذا النحو:

قمر: إني

أردت أن أقول: إنك غيَّرتِه، وإنه انقلب إنسانًا جديدًا منذ عرفكِ.

شهرزاد: إنه لم يعرفني.

قمر: لقد قلت لك قبل اليوم: إن الملك بفضلك قد أمسى أيضًا لغزًا مغلقًا أمامي، وكأنما كُشف لبصيرته عن أفق آخر لا نهاية له، فهو دائمًا يسير مفكرًا باحثًا عن شيء، منقبًا عن مجهول، هازئًا بي كلما أردت اعتراض سبيله إشفاقًا على رأسه المكدود.

شهرزاد: أتسمِّي هذا فضلًا يا قمر؟

قمر: وأي فضل يا مولاتي، فضل من نقل الطفل من طور اللعب بالأشياء إلى طور التفكير في الأشياء.

ويُشيد قمر بحبها للملك، فتعترضه قائلة:

ما أبسط عقلك يا قمر! أتحسبني فعلت ما فعلت حبًّا للملك؟

ص: 295

قمر: لمن غيره إذن؟

شهرزاد: لنفسي.

قمر: لنفسك! ماذا تعنين؟

شهرزاد: أعني أني ما فعلت غير أني احتلت لأحيا.

ويعود شهريار من لدن الساحر كاسفًا مقهورًا، شاعرًا بالفناء ككل قوة في نهايتها. وتحاول شهرزاد أن تسترده من قلقه وحيرته، وتقول له: إنها جسد جميل وقلب كبير، فيقول: سحقًا للجسد الجميل والقلب الكبير، ويكون بينهما حوار طويل، تتخلله هذه القطعة:

شهريار: ما عدت أحفل بك ولا بشيء.

شهرزاد: تُشيح بوجهك أيها الأعمى! لو كانت تبصر قليلًا!

شهريار: لقد أبصرت أكثر مما ينبغي.

شهرزاد: أنت غافل يا شهريار.

شهريار: أنا أطلب شيئًا واحدًا.

شهرزاد: ما هو؟

شهريار: أن أموت.

شهرزاد: لماذا؟ ما الذي بك؟

شهريار: ليس في الحياة من جديد، استنفدت كل شيء.

شهرزاد: الطبيعة كلها ليس فيها لذة تغريك بالبقاء!

شهريار: الطبيعة كلها ليست سوى سَجَّان صامت يضيِّق عليَّ الخناق.

شهرزاد: أقسم أنك جُننت، أجهدت عقلك حتى اضطرب، أي سر تبحث عنه أيها الأبله؟ ألا تراك تضيع عمرك الباقي وراء حب اطلاع خادع؟

شهريار: ما قيمة عمري الباقي؟ لقد استمتعت بكل شيء وزهدت في كل شيء.

شهرزاد: وهل تحسب هذا هو السبيل إلى ما تطلب؟ بل مَن أدراك أن ما تطلب موجود؟ أترى شيئًا في ماء هذا الحوض؟ أليست عيناي أيضًا

ص: 296

في صفاء هذا الماء؟ أتقرأ فيهما سرًّا من الأسرار؟

شهريار: تبًّا للصفاء وكل شيء صافٍ! لشد ما يخيفني هذا الماء الصافي! ويل لمن يغرق في ماء صاف.

شهرزاد: ويل لك يا شهريار.

شهريار: الصفاء! الصفاء قناعها.

شهرزاد: قناع مَن؟

شهريار: قناعها، هي، هي، هي.

شهرزاد: إني أخشى عليك يا شهريار.

شهريار: قناعها منسوج من هذا الصفاء، السماء الصافية، الأعين الصافية، الماء الصافي، الهواء، الفضاء، كل ما هو صاف، ما بعد الصفاء؟ إن الحجب الكثيفة لأشفُّ من الصفاء!

شهرزاد: كل البلاء يا شهريار أنك ملك تَعِسٌ، فقد آدميته وفقد قلبه.

شهريار: إني براء من الآدمية، براء من القلب، لا أريد أن أشعر، أريد أن أعرف.

ويمضي شهريار متحدثًا عن حقيقة شهرزاد، وكيف تحولت في نفسه إلى لغز عقلي هائل، يقول موجهًا الخطاب إليها عنها:

"قد لا تكون امراة، من تكون؟ إني أسألك من تكون؟ هي السجينة في خدرها طول حياتها، تعلم بكل ما في الأرض كأنها الأرض! هي التي ما غادرت خميلتها قط تعرف مصر والهند والصين! هي البكر تعرف الرجال كامرأة عاشت ألف عام بين الرجال! وتدرك طبائع الإنسان من سامية وسافلة، هي الصغيرة لم يكفها علم الأرض، فصعدت إلى السماء، تحدث عن تدبيرها وغيبها كأنها ربيبة الملائكة، وهبطت إلى أعماق الأرض تحكي عن مردتها وشياطينها وممالكهم السفلى العجيبة، كأنها بنت الجن! من تكون تلك التي لم تبلغ العشرين، قضتها كأترابها في حجرة مسدلة السُّجُف، ما سِرُّها؟ أعمرها عشرون عامًا أم ليس لها عمر؟ أكانت محبوسة في مكان أم وُجدت في كل مكان؟ إن عقلي ليغلي

ص: 297

في وعائه يريد أن يعرف.. أهي امرأة تلك التي تعلم ما في الطبيعة كأنها الطبيعة".

وتلك صورة شهرزاد في عين شهريار بالمسرحية، فهي لغز عميق ينطوي على أسرار الوجود. أما في عين قمر الوزير فملاك سماوي، بينما هي في عين العبد الأسود القبيح بنت الأرض بغريزتها الجسدية، وكأنها الطبيعة، يرى كل من الثلاثة فيها نفسه مطبوعة كأنها المرآة المصقولة، شهريار بحيرته وتنقيبه عن المجهول وأسراره، والوزير بطهارة روحه وسمو نفسه، والعبد بغريزته الحيوانية التي ستنكشف لنا عما قليل لا عنده وحده؛ بل عند شهرزاد أيضًا التي تخضع كغيرها من النساء لمطالب المرأة الجسمية.

وفي الفصل الثالث تصعد أزمة شهريار وتشتد، فنجده مع الساحر وقمر مصممًا على الرحيل في أطراف العالم، ويحاول قمر أن يرده عن عزمه قائلًا:"هل يحسب مولاي، لو جاب الدنيا طولًا وعرضًا، أنه يعلم أكثر مما يعلم وهو في حجرته هذه". وتظهر شهرزاد وتحاول أن ترجعه إليها، قائلة:"إن رجلًا بقلبه قد يصل إلى ما لا يصل آخر بعقله"؛ ولكنه يصمم على الرحيل حتى يتحرر من عقال المكان.

ويرحل في الفصل الرابع مع وزيره، وتلتقي شهرزاد بالعبد رمز الشهوة الجسدية في الفصل الخامس وتنغمس معه في إثم الخطيئة رغم سواده وغلظته وضَعة أصله ومنبته. ويدخل شهريار مع وزيره في الفصل السادس "خان" أبي ميسور، ويعلمان فيه خيانة شهرزاد وترتجف نياط قلب العابد الولهان قمر، ويعود بمولاه في الفصل السابع إلى شهرزاد، لعله ينتقم من زوجته وعبدها الخسيس؛ ولكن شهريار قد تحوَّل وأصبح فكرًا محضًا، فلا ينتقم. وينتحر قمر، ويحس مولاه بالهزيمة، وأنه لا يستطيع انطلاقًا من المكان، من الأرض:"دائمًا هذه الأرض، لا شيء غير الأرض، هذا السجن الذي يدور، إنا لا نسير، لا نتقدم ولا نتأخر، لا نرتفع ولا ننخفض؛ إنما نحن ندور، كل شيء يدور". ويصبح معلقًا بين الأرض والسماء ينهشه القلق والحيرة.

وأكبر الظن أنه قد اتضحت فلسفة توفيق في هذه المسرحية، وأنه يؤمن

ص: 298