المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أحداث كبرى: - الأدب العربي المعاصر في مصر

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌فهرس الموضوعات:

- ‌الفصل الأول: مؤثرات عامة:

- ‌ أحداث كبرى:

- ‌ تياران: عربي وغربي:

- ‌ المطبعة والصحف:

- ‌ الشعر وتطوره:

- ‌ استمرار التقليد:

- ‌ نهضة وإحياء:

- ‌الفصل الثالث: أَعْلام الشعر:

- ‌ محمود سامي البارودي 1838-1904م:

- ‌ إسماعيل صبري 1854-1923م:

- ‌ حافظ إبراهيم 1870-1932م:

- ‌ شوقي 1869-1932م:

- ‌ خليل مطران 1872-1949م:

- ‌ عبد الرحمن شكري 1886-1958م:

- ‌ عباس محمود العقاد 1889-1964م:

- ‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

- ‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

- ‌ علي محمود طه 1902-1949م:

- ‌الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه:

- ‌ تقيد بأغلال السجع والبديع:

- ‌ حركة تحرر وانطلاق:

- ‌ بين الجديد والقديم:

- ‌ تجديد شامل:

- ‌ فنون مستحدثة:

- ‌المسرحية:

- ‌الفصل الخامس: أعلام النثر:

- ‌ محمد عبده 1849-1905م:

- ‌ مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م:

- ‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

- ‌ مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:

- ‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

- ‌ إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م:

- ‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

- ‌ طه حسين 1889-1973م:

- ‌ توفيق الحكيم:

- ‌ محمود تيمور 1894-1973م:

الفصل: ‌ أحداث كبرى:

‌الفصل الأول: مؤثرات عامة:

1-

‌ أحداث كبرى:

نحتاج في دراستنا لأدب أي أمة من الأمم إلى معرفة الأحداث الكبرى التي أثرت في حياة منشئيه؛ لأن الأدب في حقيقته مرآة ناصعة صافية تنعكس عليها حياة أهله وما تأثروا به من أحداث عامة وظروف خاصة.

ولما كنا سنتحدث عن الأدب المصري منذ القرن الماضي، فإننا مضطرون إلى أن نرجع إلى الوراء لنربط الأحداث بعضها ببعض. ولعل أكبر الأحداث السابقة اقتحام الحملة الفرنسية لمصر في آخر القرن الثامن عشر، واصطدامها بهذا الشعب الذي كان يَرْزَحُ تحت أثقال الحكم العثماني منذ غزاه الترك في القرن السادس عشر، وأنزلوا بأهله البؤس والضنك والإعسار، ومن أهم خصائص الترك أنهم كانوا غزاة فاتحين، ولم يكونوا أصحاب حضارة ولا نظام في الحكم والسياسة.

وقبل ذلك هدموا الحضارة البيرنظية في القرن الخامس عشر بفتحهم القسطنطينية؛ ولكن هذا الهدم لم يكن شديد الضرر؛ بل كان شديد النفع؛ فإن أصحاب هذه الحضارة هاجروا إلى أوربا، وساعدوا مساعدة فعالة في نشأة نهضتها الحديثة، بما نشروا فيها من الآثار اليونانية والرومانية.

أما في مصر والشام -وكانا قد أصبحا مَوْئِلَي الحضارة الإسلامية منذ غزوات التتار للشرق العربي وغزوات المسيحيين الشماليين للأندلس- فقد هدم الترك

ص: 11

ما فيهما من حضارة بفتحهما، وحطموا كل ما وجدوه فيهما من صروح العلم والأدب والفن، ولم يُتَحْ لعلمائهما وأدبائهما وطن جديد يهاجرون إليه؛ بل نُفيت جماعة منهم إلى القسطنطينية، وبقيت جماعة في عقر ديارها خاملة، لا تستطيع أن تنتج علمًا ولا أدبًا، فقد فقدت حريتها، ولم تعد تجد ما تسد به رمقها، وبذلك انهارت الحياة العقلية والأدبية في مصر، لولا نشاط ضئيل ظل في الأزهر، وكان يحفه ظلام مطبق من الفقر والبؤس والحكم الظالم الغاشم.

وفي هذه الأثناء نزلت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت في مصر عام 1798، ومكثت نحو ثلاث سنوات، كانت جميعها جهادًا عنيفًا وصراعًا مريرًا قاسيًا بين الشعب المصري والمعتدين. ولم يُجْدِ نابليون نفعًا ما أنشأه من مجالس شورى سميت باسم الدواوين، ألفها من طبقة المثقفين الأزهريين ومن كبار الأعيان والتجار، وجعل لها حق البحث في بعض شئون الحكم، وخاصة الضرائب؛ فقد كانت مجالس صورية لتنفيذ مآربه الاستعمارية في السياسة والإدارة. وقد ظل الشعب المصري يقاومه ويثور ضده وضد حملته ثورات متعاقبة، بذل فيها الدماء وعزيز الفداء.

وكان لهذه المقاومة الباسلة وهذا الكفاح المرير أثرهما في نشأة الشعور القومي عند المصريين، وإحساسهم العميق بحقوقهم المشروعة في حكم بلادهم. فلما أقلعت الحملة عن ديارهم، وعادوا إلى حكم العثمانيين، رأوا أن من حقهم اختيار الوالي الجديد، واختاروا محمد علي، ووافقهم الباب العالي.

وقد اطلع الشعب المصري من خلال هذه الحملة على بعض وجوه الحياة الأوربية؛ فقد رأى المصريون أفرادها يتناولون حياتهم المادية بصور لم يكونوا يألفونها، سواء في أكلهم وشربهم، أو في لهوهم وما كانوا يقيمون من حفلات التمثيل والغناء والرقص والموسيقى، وكانوا يرون نساءهم يمشين متأبطات لأذرعهم -كما يقول الجبرتي في الجزء الثالث من تاريخه- "وهن حاسرات الوجوه، لابسات الفُسْتانات ومناديل الحرير الملونة، يَسْدلن على مناكبهن الطُّرَح

ص: 12

الكشميري والمزركشات المصبوغة، ويركبن الخيول والحمير، مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة".

ولفتت الحملةُ المصريين إلى ما أصاب الغربيون من تقدم في العلم؛ فإن نابليون استقدم معه طائفة من العلماء البارعين المتخصصين في مختلَف العلوم التاريخية والطبيعية والرياضية، ولم يلبث حين نزل مصر أن أسس المجمع العلمي المصري على غرار المجمع العلمي الفرنسي، وانبعث العلماء الذين جاءوا معه يدرسون مصر من جميع أطرافها، وكانت ثمرة ذلك تسعة مجلدات طبعت في فرنسا "1809-1825" باسم "وصف مصر"، وهي أساس كل المعلومات التي عُرفت في أوربا عن مصر الحديثة.

وأنشأ نابليون بجانب هذا المجمع العلمي معامل ومكتبة ومطبعة، وكانت المعامل تُعْنَى بالبحث العلمي التجريبي، وكان الفرنسيون يستدعون المصريين لرؤية ما يُجْرون من تجارب كيمائية لا عهد لهم بها، فيعجبون وينبهرون. يقول الجبرتي في أثناء وصفه لمعمل الكيمياء الذي أقاموه:"ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المتقيدين لذلك أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة، فصب منها شيئًا في كأس، ثم صب عليها شيئًا من زجاجة أخرى، فعلا الماء، وصَعِدَ منه دخان ملون، حتى انقطع وجف ما في الكأس، وصار حجرًا أصفر، فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا، أخذناه بأيدينا ونظرناه. ثم فعل كذلك بمياه أخرى، فجمدت حجرًا أزرق، وبأخرى، فجمدت حجرًا ياقوتيًّا. وأخذ مرة شيئًا قليلًا جدًّا من غبار أبيض، ووضعه على السندال، وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج له صوت هائل، انزعجنا منه، فضحكوا منا". ومن غير شك كان ذلك يدعو المصريين إلى التفكير في علمهم النظري، وأن وراءه علمًا في الغرب ينبغي أن يقفوا عليه.

ورأى المصريون المطبعة التي جلبها نابليون معه، وكانت تطبع بالحروف العربية منشوراته وبعض الصحف الدورية؛ بل أخذت تطبع بعض الكتب.

ص: 13

ولم يكن للمصريين عهد لا بالمطبعة ولا بما تطبع من منشورات وكتب وصحف، فكان ذلك كله جديدًا عليهم.

وقد ظن المصريون حين أقلعت الحملة عن ديارهم أنهم يبدءون تاريخًا جديدًا لأمة مجاهدة متحررة، فاختاروا محمد علي واليًا عليهم؛ ولكنه لم يَجْرِ معهم إلى آخر الشوط الذي كانوا يحلمون به؛ إذ نكَّل بمن اختاروه منهم. وقد أقام -مثل نابليون- مجموعة من الدواوين، سلبها حقوقها، فقضى بذلك على آمال المصريين ومطامحهم في اشتراكهم مع الحكام في حكم أنفسهم وتدبير شئونهم.

وهو إن كان قد حطم آمال المصريين في هذا الاتجاه، فإنه بعثها في اتجاه آخر؛ إذ عُنِيَ بالجيش، وأراد أن يكون مثل جيوش الدول الكبرى عُدة واستعدادًا، فاضطُر اضطرارًا إلى الاستعانة بالأساليب الأوربية والمعلمين الأوربيين. وكانت مصر قد تهيأت لتفتح صدرها للعلم الأوربي، ووجد طريقه إلى المدارس التي أُنشئت من حربية وصناعية وهندسية وطبية. ولما كان المعلمون في هذه المدارس من الفرنجة، وكان لا بد للمصريين أن يحسنوا اللغات الأجنبية ليفهموا عنهم؛ وُجدت الحاجة إلى مدرسة الألسن وإلى بعوث ترسل إلى الغرب؛ حتى يتقن المصريون اللغات الغربية، وأنشئ في أثناء ذلك كثير من المدارس الابتدائية والثانوية.

وكل هذا ساعد فيه محمد علي ليوجد جيشًا قويًّا لنفسه، يحقق به أحلامه في إمبراطورية ضخمة، فلم يكن غرضه التعليم من حيث هو، أو رد الحياة العلمية الخصبة إلى مصر من حيث هي؛ وإنما كان غرضه شخصيًّا لنفسه ولأحلامه، فلما لم تتحقق أحلامه انصرف عن التعليم، وأغلق ابنه عباس المدارس من بعده. ولكن الصلة بين مصر وأوربا أو بين الحياة العقلية المصرية والحياة العقلية الأوربية قامت، ولم يعد من الممكن أن يُقْضَى عليها لسببين؛ هما:

أولًا: وجود طائفة من العلماء المصريين الذين بُعثوا إلى أوربا، وعادوا ليثبِّتوا حركة المزج

ص: 14

الحديثة بين حياتنا العقلية وحياة الأوربيين.

وثانيًا: مهاجرة كثير من الأوربيين إلينا، وتأسيسهم للشركات والمدارس في ديارنا، وزار مصر كثير من أدبائهم، وأخذت تؤثر بتاريخها القديم والحديث في أدبهم والأدب الأوربي عامة.

لذلك لم يلبث سعيد أن فتح المدارس، وأخذت الحركة تنمو وتؤتي أكلها في عصر إسماعيل؛ فإنه استجاب للروح المصرية، ودعم الصلة بأوربا؛ فأنشأ "دار الأوبرا" و"المكتبة الخديوية"، وأكثر من المدارس الابتدائية والثانوية، وأقام مدرسة للبنات، وبذلك أصبح العلم للعلم، ولم يعد العلم للجيش، كما كان الشأن في أوائل القرن.

وهنا نقف عند حادث مهم؛ وهو فتح قناة السويس في عهد إسماعيل، وكان لهذا الفتح آثار عملية واضحة؛ إذ قرَّبت القناة المسافات المادية بين الشرق والغرب، كما قربت المسافات المعنوية بين الشعوب الشرقية والغربية في اتجاهات تفكيرها وحضارتها، وكان لهذا الفتح أيضًا آثار سياسية بعيدة في العَلاقات الدولية؛ مما نشأ عنه -فيما بعد- احتلال الإنجليز لمصر.

ففَتْحُ هذه القناة أثَّر في مستقبل مصر السياسي وفي العَلاقات بين الدول، وهو كذلك أثر في العلاقات العقلية على اختلاف أنواعها، سواء فيما يتصل بنا أو فيما يتصل بالأوربيين بعضهم ببعض؛ لأن العَلاقات العقلية والمادية جميعًا متشابكة متفاعلة. وكَثُرَ إقبال الأوربيين على مصر كما كثر أو زاد إقبال المصريين على أوربا، وأخذت تُرفع الحواجز التي تفصل بين الحياتين المتقابلتين: حياة المصريين وحياة الأوربيين. وقد أنشأ إسماعيل مجلس الوزراء ومجلسًا نيابيًّا، ووضع كثيرًا من القوانين على النمط الأوربي.

ونحن لا نصل إلى عصر إسماعيل حتى نلاحظ ما يمكن أن نسميه "نمو النزعة القومية"؛ فقد كان الشعب المصري في عصر محمد علي وعباس لا وجود له سوى الوجود الآلي، فهو آلات أو أدوات تُستغل لمجد محمد علي وأسرته وبطانته من الترك، على الرغم من أنه لم يكن

ص: 15

تركي الأصل؛ بل كان ألبانيًّا، إلا أنه وأسرته صبغوا أنفسهم بالصبغة التركية. وخير ما يمثل ذلك مسجده الذي بناه على طراز مساجد الآستانة. وقد أنشأ مطبعة بولاق، وعُنيت في أكثر الأمر بطبع الكتب التركية، ولما أصدر "الوقائع المصرية" كان يصدرها بالعربية والتركية، وكانت أساليبه الإدارية أساليب تركية خالصة.

ومعنى ذلك أن أعمال محمد علي لم يكن فيها نزعة قومية ولا مصرية واضحة، وقد وَأَدَ بذور طموح المصريين لحكم أنفسهم -كما قدمنا- فلم يؤتِ ثماره؛ بل قضى عليه في مهده، ولكن أنَّى له! إن هذا الطموح لا يموت موتًا نهائيًّا؛ وإنما هو كالنار تبقى جذوته ضئيلة؛ ولكنها عاملة نشيطة.

فلما ولي سعيد ومن بعده إسماعيل أخذ هذا الطموح ينمو في الأرض الطيبة، وساعد على ذلك دخول أبناء الفلاحين في الجيش، ووصول بعضهم إلى المناصب الكبيرة في الإدارة المدنية من مثل: رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، ومحمود الفلكي. وزار مصر جمال الدين الأفغاني سنة 1871، وظل بها نحو ثماني سنوات، دعا فيها دعوته المشهورة في الإصلاح الديني، والإفادة من ثقافة الغرب في الدفاع عن الإسلام، كما دعا إلى التحرر من تدخل الأجانب في شئون البلاد الإسلامية، والثورة عليهم وعلى من يمهد لهم من الحكام المستبدين، والتفَّ حوله الشيخ محمد عبده وغيره. وكانت سياسة إسماعيل المالية قد تراءى فشلها وخطرها أمام الأنظار.

فكل ذلك نَمَّى الرأي العام والنزعة القومية، وسُرعان ما ظهرت صحف مصرية -مثل: جريدة مصر والوطن- تنقد في صراحة سياسة إسماعيل، وتنادي: مصر للمصريين. وسقطت وزارة نوبار سنة 1879، وتطورت الحوادث، ونهضت هذه الروح نهوضًا قويًّا كان من نتائجه ثورة الجيش بقيادة عرابي ضد الضباط الأتراك الجراكسة لعهد توفيق سنة 1882. واستعان توفيق ضد الحركة بحراب الإنجليز التي أغمدوها في صدور الشعب، ومن حينئذ أصبحت مصر خاضعة

ص: 16

لاحتلال إنجليزي بغيض، وبدا للعِيَان أن حاكمها من أسرة محمد علي لا يمت إليها بصلة جنسية ولا قومية، فهي ليست أكثر من بقرة حلوب يمتصها الأجنبي عن طريقه. وحُكمت مصر بالمستشارين الإنجليز، وكان يتولى وزارتها مصريون؛ ولكن أكثرهم كان من أصول تركية. وكانت سياسة الإنجليز أن يحكموا هؤلاء الوزراء بمستشارهم وموظفيهم في الوزارات أو النظارات المختلفة. وأنشئوا مجالس تشريعية؛ ولكنها كانت مغلولة السلطان، ولم يكن لها من الأمر شيء.

على أن هذا الاحتلال التعس لم يقضِ على الحركة الوطنية قضاء مبرمًا، فقد خمدت ولكن إلى حين؛ إذ كانت قد نشأت طبقة المصريين المستنيرة، وأخذت تشارك في الحكم وتتقلد مناصبه الكبرى، ورجع المنفيون إلى مصر في عهد عباس الثاني، ونشطت الحركة الوطنية ممثَّلة في الزعم الخالد مصطفى كامل، فأصدر في سنة 1899 صحيفة اللواء، واتخذ منها ومن خُطَبه النارية أداة لإلهاب عواطف المصريين ضد الإنجليز، وأسس الحزب الوطني، وزار كثيرًا من عواصم أوربا يعرض قضية مصر، ويندد بالاحتلال الإنجليزي غير المشروع.

ثم كانت حادثة دنشواي المعروفة سنة 1906، وهي تلك التي تُوفِّي فيها ضابط إنجليزي كان يصطاد الحمام بهذه البلدة إثر ضربة شمس. وظن الإنجليز أن أهل هذه البلدة قتلوه، فأنزلوا بهم عقابًا وحشيًّا فظيعًا؛ إذ نصبوا المشانق في البلدة، فشنقوا طائفة، وسجنوا أخرى، ونزلوا بالسياط على ثالثة، وكانوا جميعًا أبرياء؛ ولكنه طغيان الباغي الذي لا يعرف رحمة ولا شفقة، وقابل الشعبُ هذا الحادث -ومعه زعيمه مصطفى كامل- بالاستياء الشديد، وبدا لرأي العين أن المصريين لا يزيدهم الإرهاب إلا حقدًا وسخطًا على المحتل الغاصب.

وتمادى الإنجليز في عنتهم وظلمهم وسجونهم وتضييق الخناق على حريات المصريين، حتى كانت الحرب الأولى فأعلنوا الأحكام العرفية، ووضعت الحرب أوزارها فثار عليهم المصريون ثلاث سنوات طوالًا، ولم يفل من عزمهم نفي ولا تشريد ولا سجون؛ بل ظلوا يحادُّونهم ويعاندونهم، حتى اضطروهم

ص: 17

إلى تصريح 28 من فبراير سنة 1922، وفيه احتفظوا ببعض المسائل؛ كمسألة السودان، ومسألة الدفاع عن مصر.

ولم يُضعف هذا التصريح من حدة الثورة المصرية على الإنجليز؛ بل ما زالت مصر تضطرب بعوامل الثورة حتى وقَّعت إنجلترا معاهدة سنة 1936؛ ولكنها لم تحقق غاية مصر؛ فظلت نيران الثورة تموج في صدرها، حتى جاءها البشير بثورة الجيش المباركة، فتحقق حلمها القديم، وعادت القوس إلى باريها، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى طردت ثورتنا المستعمر من دارنا، وتبعته تنكل به في كل دار عربية؛ بل أيضًا في كل دار إفريقية وآسيوية، وهو ترتعد فرائصه وفرائص جماعته موليًا الأدبار، وبذلك تزعزع بنيانه، وهَوَتْ أركانه في كل مكان.

ولا بد أن نشير إلى أنه في أثناء الاحتلال الإنجليزي حاول الإنجليز جاهدين أن يَعْلوا ثقافتهم بديارنا فوق الثقافة الفرنسية وغيرها من الثقافات الأوربية، فحينًا يجعلونها لغة العلم والتعليم، وحينًا يجعلون البعثات جميعًا إلى بلادهم. وقد أقبلت على ديارنا طائفة من البعوث الدينية الغربية المختلفة، وأسست كثيرًا من المدارس في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من عواصم القطر المصري، وكان لها أثرها في حياتنا الثقافية.

وهذه البعوث الدينية كانت أكثر نشاطًا في سوريا ولبنان، سواء منها الكاثوليكية الفرنسية والبروتستانتية الأمريكية، إلا أن الأُولى كان مدى عملها أوسع بفضل اليسوعيين الذين عُنوا باللغة العربية وحياتها الأدبية. وقد أخذت طوائف لبنانية وسورية كثيرة تهاجر إلى مصر منذ عصر إسماعيل؛ فرارًا من ظلم الأتراك، أو سعيًا وراء الرزق، ولم تلبث هذه الطوائف أن شاركت في حياتنا الأدبية عن طريق الصحف مثل: الأهرام، وطريق الكتب والمؤلَّفات والمترجمات.

ص: 18