الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
تياران: عربي وغربي:
يجري في أدبنا منذ القرن الماضي تياران: عربي وغربي، أما التيار العربي فكان يمثله الأزهر وتعليمنا فيه. ومعروف أن الأزهر هو الذي حافظ على تراثنا الإسلامي والعربي أيام محنتنا بالحكم العثماني؛ فإن المدارس المختلفة التي أنشأها الأيوبيون والمماليك أغلقت أبوابها، ولم يعد يضيء في حياتنا العقلية سوى هذه المصابيح الضيئلة التي كانت ترسل من الأزهر نورًا شاحبًا خافتًا.
ولم تكن هذه المصابيح تقتصر على الدين؛ بل كانت تشمل العلوم اللغوية والطبية والفلسفية، وإن كانت العناية بالعلوم الأخيرة ضعيفة؛ بل إن العلوم الدينية نفسها كانت قد تخاذلت وتضاءلت تحت تأثيرا الظلم الذي أرهق به العثمانيون أهل مصر. وكلنا نعرف أن مصر استطاعت قبل الحكم العثماني أن تُسْهم في الحضارة الإسلامية في أثناء العصرين: الفاطمي والأيوبي، وانفردت في أثناء عصر المماليك بالنهوض بتلك الحضارة، واتخذت لذلك طريقًا واضحًا أن تجمع التراث الإسلامي العربي، وتضعه من جديد في كتب كبرى تشبه دوائر المعارف على نحو ما نعرف في صبح الأعشى للقلقشندي، ونهاية الأرب للنويرى، ولسان العرب لابن منظور.
وعلى حين كانت مصر معنيَّة بجمع التراث العربي والمحافظة عليه نزل بها طوفان العثمانيين، فإذا هو يأتي على هذه الجهود العقلية الخصبة؛ بل إنه يصيبها بعطل شديد، فيتوقف في مصر كل شيء، ويعم العقم والجمود، وتتراجع هذه النهضة الذهنية، حتى تصبح شيئًا ضئيلًا جدًّا لا نكاد نتبينه إلا في متون وملخصات يبدئ فيها الأزهريون ويعيدون، وكل ما يستطيعون عمله أن يشرحوها، وقد يشرحون الشرح، وقد يعلقون عليه، وهم بذلك لا يضيفون إلى العلم شيئًا ذا خطر؛ بل لقد عقَّدوا العلم تعقيدًا بكثرة متونهم وشروحهم وتقريراتهم
وتعليقاتهم وما حشدوا فيها من عُقَد وألغاز؛ فقد تحولت العبارات نفسها إلى أحاج مغلقة، وأصبح هَمُّ العلماء أن يحلوا هذه الأحاجي، وحلها لا يضيف علمًا؛ إنما يضيف فسادًا لغويًّا.
وانقطعت الصلة بينهم وبين الكتب العلمية الأولى التي أُلِّفَتْ في العصر العباسي؛ بل التي ألفت في العصر القريب منهم عصر المماليك، فكنت قلما تجد من يعرف شيئًا عن كتب الأئمة مثل الشافعي، أو الفلاسفة مثل الفارابي، أو المفكرين الاجتماعيين مثل ابن خلدون.
لم تعد العلوم شيئًا سوى متون مثل متن المنهج للشيخ زكريا الأنصاري الذي جَمَعَ فيه كل مسائل الفقه الشافعي، وكان الأزهريون إلى قريب من عصرنا يحفظون ما يسمى مجموع المتون، وهو مجموع يُحصي كل أنواع العلم العربي ويحيله جُمَلًا مبهمة في شعر أو نثر للحفظ والتسميع. وكأن العلماء شعروا أنه لم يعد هناك شيء يقال، فهَمُّ الواحد منهم أن يتناول المتن الذي لُخِّص فيه العلم -أو بعبارة أدق: لُغِّز- ليحله، وقد يكتب في الحل شرحًا مبهمًا، ليس في كثير من الأمر خيرًا من المتن، فيعمد عالم آخر إلى حل الشرح بشرح ثانٍ يسمونه حاشية، ويتبين عالم ثالث أو رابع أن شرح الشرح ليس كافيًا فيعمد إلى التعليق عليه بما يسمى تقريرًا.
وبهذا أصبح العلم العربي الذي كان يملأ المجلدات الضخمة شيئًا ضئيلًا جدًّا لا يتجاوز صفحات معدودة، وران على الحياة العقلية ضَرْبٌ من الجمود الشديد، وأصبح لا بد من هزة عنيفة لتعيد إلى ينابيع حياتنا العقلية دوراتها الأولى.
ولم تكن حياتنا الأدبية خيرًا من حياتنا العقلية؛ فقد وقف النشاط الذي كنا نراه في عصر المماليك وقبله، والذي كان يتيح لنا بعض الأزهار الفنية، فنجد عندها بعض المتاع وبعض الراحة؛ إذ لم تعد مصر تحت تأثير العثمانيين وما أشاعوا فيها من فساد في النظم السياسية والاجتماعية صالحة لأن تخرج أزهارًا أو ما يشبه الأزهار، فقد غلوها وغلوا أدباءها، وحالوا بينهم وبين حرياتهم الفردية، كما حالوا بينهم وبين الرخاء المادي؛ فانهارت حياتهم، أو بعبارة أخرى:
انهارت حياتنا الأدبية كما انهارت حياتنا العقلية، وأصبحتَ لا تجد كاتبًا ولا شاعرًا تستطيع أن تقرأ له شيئا يلذ عقلك أو يلذ روحك. وعلى نحو ما أصبحت حياتنا العقلية تلخيصًا للتراث الماضي، وإفسادًا له، أصبحت كذلك حياتنا الأدبية تلخيصًا؛ بل تقليدًا مملًّا لبعض القصائد القديمة، يحاكيها الشعراء ويتناولونها بالتخميس والتسبيع أو التشطير، ولا يضيفون إلى ذلك إلا عُقدًا من البديع المتكلَّف الممقوت، وكأن الغرض من القصيدة تطبيق أنواع البديع لا أكثر ولا أقل. ومن المستحيل أن تجد في أثناء ذلك عاطفة أو شعورًا حقيقيًّا. وبالمثل أصبحت الكتابة شيئًا سقيمًا، أصبحت سجعًا ولكنه سجع ضعيف ركيك، لا يؤدي شيئًا سوى ألوان البيان والبديع المعقدة.
وفي هذا الوقت الذي قُضِيَ فيه على حياتنا العقلية والأدبية بالخمود والركود، قُضِيَ على أوربا أو قُدِّر لها حياة عقلية وأدبية نشيطة، وهي حياة تناولت مناحي الفكر الإنساني جميعه من علم وفلسفة وأدب.
واستعانت أوربا أول الأمر بالتراث اليوناني، فتطورت حياتها الفكرية تحت تأثير هذا التراث الوثني القديم، ونشأ حينئذ صراع هائل بين الأدبين: المسيحي والوثني، وظهرت حركات البروتستانت، وأخذت أوربا طريقها إلى إحداث آدابها الحديثة. وعلى نحو ما كشفت الآثار اليونانية والرومانية كشفت أمريكا، وأخذت في استغلالها على نحو ما استغلت تلك الآثار.
وأخذت تندفع في حركتها العلمية، وتكتشف القوانين الطبيعية وغير الطبيعية التي تسيطر على الحياة والناس، مستشعرة ضروبًا واسعة من الحرية العقلية. وكان من أهم مميزات هذه الحرية نقد كل شيء من دين وغير دين. وقد نقدوا الفلسفة القديمة، وأسسوا لأنفسهم فلسفة حديثة أقامها لهم ديكارت على أسس علمية، ثم تطوروا بها نحو التجريد ونحو الطبيعة والعلم الوضعي؛ بل نحو الإنسانية بمعناها الواسع. وكل ذلك دون أن يقطعوا صلتهم بفلسفة اليونان وتشريع الرومان.
وعلى نحو ما تطوروا بحياتهم العقلية تطوروا بحياتهم الأدبية، فاستحدثوا
لأنفسهم بتأثير التراث اليوناني والروماني أدبًا جديدًا يخالف أدبهم في العصور الوسطى، وكانوا في أول الأمر يقلدون الآثار اليونانية واللاتينية، ثم أخذوا يستقلون في حياتهم الأدبية كما استقلوا في حياتهم العقلية، وإذا هم يحدثون آثارًا رائعة لا تقل روعة وبراعة عن الآثار القديمة عند شعراء التمثيل من الإغريق، وعند هوميروس اليوناني وفرجيل الروماني.
وكان ذلك جميعه ثورات عقلية وأدبية لم تلبث أن عاونتها ثورات دينية وأخرى سياسية واجتماعية على نحو ما هو معروف في الثورة الفرنسية.
ولما نزلت بمصر حملة بونابرت تنبَّه المصريون إلى أن وراء حياتهم حياة أخرى في أوربا، وأنه حري بهم أن يفقهوا هذه الحياة الجديدة حتى يتسلحوا لأهلها بمثل سلاحهم. ومن المؤكد أن الفترة القليلة التي قضتها الحملة الفرنسية بمصر لم تتح لنا تأثرًا بالحضارة الأوربية للفوارق الواسعة بين حضارتنا الأوربيين؛ ولكن من المؤكد أيضًا أننا أخذنا بعد خروج الحملة من ديارنا نتجه إلى أوربا، ونحاول أن نفيد منها في الحياة العقلية والأدبية، فقد أدارت مصر وجهها إلى الشمال، وأخذت تفتح أنهارها الذهنية والفكرية لاستقبال جداول الحياة العقلية الأوربية.
وتصادف أن اجتمع مع هذه الرغبة في نفوس المصريين رغبة محمد علي في أن يُعِدَّ جيشًا على نمط جيوش الدول الأوربية الكبرى، ورأى أنه لا يستطيع أن يعد هذا الجيش إعدادًا حسنًا إلا إذا أنشأ له المدارس، واستقدم له أساتذة أوربيين يعلمونه في هذه المدارس، ويزودونه بما يحتاج إليه من وسائل، فأنشأ المدرسة الحربية، وأنشأ لها معاهد صناعية وطبية، وأخذ في تأسيس مدارس ابتدائية وثانوية.
ومنذ هذا التاريخ وُجِدَ في مصر نوعان من الحياة العقلية: نوع تقليدي محافظ في الأزهر، وهو نفس هذا النوع الذي وصفناه آنفا بما فيه من قصور وجفاف، ونوع مدني أوربي يعتمد اعتمادًا على الحضارة الأوربية وما عرف الأوربيون من علم لم يسبق للمصريين أن علموه أو عرفوه.
وهنا نلاحظ أشياء: فأولًا: انتقلت إلينا في هذا التعليم المدني الحياة العلمية
الأوربية، وما يتصل بها من حياة عملية وفنية تطبيقية. وثانيًا: لم تنتقل إلينا في هذا التعليم طوال النصف الأول من القرن الماضي الحياة الأدبية الأوربية؛ لأن والي مصر لم يكن يُعْنَى بها، فلم يَبْدُ لها أي أثر في شعرنا ونثرنا.
وقد يرجع ذلك إلى طبيعة النوعين من العلم والأدب؛ فإن العلم من السهل نقله ونقل قوانينه وقضاياه، أما الأدب فمن الصعب أن ينقل أو أن تفيد منه أمة، إلا إذا وضحت بينها وبين الأمم التي تنقل عنها علاقات أدبية تساعد على النقل وأن تتبادل معها آدابها التي تعبر عن روحها وبيئتها ومزاجها وذوقها؛ إذ الآداب تخضع لهذه العناصر كلها خضوعًا شديدًا، ومن هنا كان عسيرًا أن يتذوق المصري مع نهضته العلمية حينئذ الأدبَ الغربي وأن يصدر عنه في أدبه، فذلك يحتاج إلى آماد وجهود أوسع، ولا بد أن نتأنَّى حتى تصطبغ طبقة من المصريين بالأدب الغربي والروح الغربية، أو حتى تصطبغ حياتنا نفسها بهذا الأدب وتلك الروح.
ولم تنتظر مصر طويلًا؛ فقد عُنِيَ محمد علي منذ سنة 1826 للميلاد بإرسال البعوث الكبيرة، فاختلطت طائفة من الشباب المصري -على رأسها رفاعة الطهطاوي- بحياة الغربيين، وأخذت تقرأ هناك في الأدب الغربي، وتفيد وتجتني اللذة الفنية الخالصة.
وعاد رفاعة فشارك في حركة الترجمة العلمية التي أوجدتها الضرورة المدرسية؛ حتى يعرف المصريون العلم الأوربي. ثم أنشأ محمد علي مدرسة الألسن؛ لتخدم هذه الحاجة، وعيَّن رفاعة ناظرًا لها، ولم يلبث أن تأسس قلم للترجمة سنة 1842، وتولى رفاعة رياسته.
ولكن هذا كله كان في سبيل خدمة التيار العلمي الغربي، ولم تؤثِ الثمرة المرجوة من البعوث أكلها في ميادين الأدب والحياة الأدبية؛ بل ظلت مصر طوال النصف الأول من القرن الماضي لا تُعْنَى إلا بالعلم الأوربي، سواء فيما تدرس وفيما تترجم؛ بل لقد استمرت على ذلك طوال عصر سعيد.
ولم يأتِ عصر إسماعيل حتى خطت مصر خطوات واسعة نحو الامتزاج
بالحضارة الأوربية، وأخذ كل شيء فيها يصبطغ صبغة حقيقية بتلك الحضارة، فمن ناحية السياسة والتشريع أخذتْ مصر بنظام نيابي وقضائي مشبه للنظام الفرنسي، ومن ناحية التعليم أنشئت المدارس العالية المختلفة، وتأسَّس كثير من المدارس الابتدائية والثانوية، كما تأسست مدرسة للبنات، فالتعليم أصبح غاية لنفسه، ولم يعد يراد به الجيش؛ وإنما أصبح يراد به الشعب. وأخذت مصر في تحضر واسع؛ فتأسست الأوبرا، وأنشأ يعقوب صنوع فرقة ثمثيلية كان يترجم لها، ويؤلف تمثيليات مختلفة، وهي إن تكن بالعامية فإنها تدل على أن مصر أخذت في التحول؛ بل أخذت تبدأ دورة حضارية جديدة.
واشتد الاتصال بيننا وبين أوربا منذ فُتحت قناة السويس، فالأوربيون يفدون على مصر يؤسسون بها الشركات والمصارف، ونحن نكثر من البعوث إلى أوربا لنطلع على ثقافات القوم الكبرى التي مكنتهم من السيطرة على الحياة والمتعة بها، ويعود المبعوثون إلينا وقد حملوا لنا أزوادًا من الحضارة الأوربية.
وأحسَّ القائمون على الثقافة والتعليم أن الأزهر في عزلة عن هذه الحركة، وأنه لا يقوم بواجبه في تعليم اللغة العربية وتبسيطها وعرض آثارها عرضًا حسنًا على هذا الشباب المدني، فقد أصاب لغتنا فيه من الجمود ما جعلها غير صالحة لتتحمل أعباء هذه الثقافة الأوربية من ترجمة وتأليف. فأنشأ علي مبارك مدرسة دار العلوم؛ لتنهض في تعليم لغتنا بما لم يستطع الأزهر النهوض به.
فإنشاءُ دار العلوم إنما هو رمز إلى ما كانت تبتغيه مصر حينئذ من المزاوجة بين الآداب الأوربية والآداب العربية، فإنها حين رأت قصور آدابنا عن تأدية آثار الفكر والشعور الغربيين أداء واضحًا صريحًا بسبب ما علق بها من أعشاب السجع والبديع انبرت تُغيِّر الوسائل التعليمية لتلك الآداب، وأنشأت هذه المدرسة التي نهضت بتعليم لغتنا وتبسيطها حتى تستطيع أن تحمل آثار الغرب الرائعة في العلم والأدب.
وكان ما قدمنا سببًا في أن نتهيأ حقًّا للتأثر بالآداب الغربية، فمن جهة أخذنا نمرن لغتنا على أن تفي بما نريد التعبير عنه من ألوان الفكر وصور الشعور،
ومن جهة ثانية أخذنا في التحضر، وأخذ ذوقنا يقترب من ذوق الغربيين.
وفي هذه الأثناء -أو في هذا الثلث الأخير من القرن التاسع عشر- كانت تهاجر إلى مصر صفوة من اللبنانيين والسوريين الذين تخرجوا في مدارس اليسوعيين والبعوث الدينية الأوربية والأمريكية المختلفة، وكانوا قد ضاقوا باضطهاد العثمانيين لهم، وكان منهم من ابتغى رزقًا في بلاد أخرى. على كل حال، كانوا يريدون أن يعيشوا معيشة كريمة، فيها اعتراف بحريتهم وبحقوقهم الفردية، فهاجروا إلينا، ووجدوا منا ما ابتغوه من حرية وإخاء ومساواة وعيش كريم.
ولم يلبثوا أن عملوا معنا في نهضتنا الأدبية، وكانوا قد سبقونا إلى العناية بالآداب الغربية في عقر ديارهم، ومرجع ذلك إلى البعثات الدينية التي علمتهم؛ فإنها لم تكن تعنَى مثل محمد علي بنقل العلم إلى سوريا ولبنان؛ بل كادت تقصر عنايتها على الحياة الأدبية الغربية، ومن ثَم كان اتصال هؤلاء المهاجرين بتلك الآداب أقوى من اتصال المصريين في هذه الحقب من الزمن، فهم سبقونا إلى الاتصال المنظم بالأدب الغربي، ولم يهتموا مثلنا أولًا بالعلم؛ إنما اهتموا به في زمن متأخر وبعد تأسيس الجامعة الأمريكية عندهم. وقد نهضوا بصحافتنا خير نهوض، وحمل إلينا سليم النقاش وغيره ما عرفوه من فن التمثيل الأوربي، فدعموا بذلك اتجاهنا نحو الآداب الأوربية.
وأخذ هؤلاء المهاجرون والمصريون جميعًا يعملون في حقل غربي جديد، وأقصد حقل الترجمة، ولا أريد ترجمة العلم الغربي، فمصر قد سبقت إليه منذ أوائل القرن؛ وإنما أريد ترجمة الآداب الأوربية بمعناها الواسع، فكان محمد عثمان جلال وغيره من المصريين يترجمون لموليير وغير موليير، وكان نجيب حداد وغيره من هؤلاء المهاجرين يترجمون لكورني وشكسبير وغيرهما من الغربيين، وترجم سليمان البستاني الإلياذة لهوميروس مزاوجًا فيها بين البحور العربية ومبقيًا على كل سماتها وخصائصها الملحمية.
وكثُرت حينئذ الترجمة للمسرحيات والقصص الغربية، حتى بلغت مئات،
وفي فهارس دار الكتب المصرية ما يصور هذا النشاط. ومن غير شك، كانت هذه الروايات المترجمة والمعربة تغير في ذوق الجمهور، وتصله بالآداب الأوربية، وتعده لكي يقتحم ميادينها مؤلِّفًا كما اقتحمها مترجمًا ومعربًا.
ونمضي في القرن العشرين، فإذا الاحتلال الإنجليزي جاثم على صدر مصر، ومع ذلك تزداد موجة هذه الترجمة حِدَّة وشِدَّة، كما تزداد قابلية اللغة العربية لإساغة الآداب الغربية وهضمها وتمثُّلها تمثلًا دقيقًا. وكل ذلك بفضل هؤلاء الأعلام الذين بدءوا الترجمة في القرن الماضي ومرَّنوا لغتنا تمرينًا هائلًا على نقل الأفكار والمشاعر الأوربية.
ولا نكاد نتقدم في هذا القرن حتى تُجْمَع تبرعات ضخمة لتأسيس الجامعة المصرية، وتفتح هذه الجامعة أبوابها في عام 1908، وتُلْقَى بها محاضرات في الأدب والتاريخ والفلسفة، يلقيها أساتذة مصريون وأوربيون من المستشرقين أمثال جويدي ونالينو.
وفي هذا ما يدل على أن مصر انتقلت في حياتها العقلية نقلة كبيرة، فهي لا تدرس العلم والأدب الغربي لإنشاء جيش أو طبقة من موظفي الدواوين أو معلمي اللغات في المدارس؛ وإنما تدرسهما من أجل أنفسهما، فلا غاية وراءهما سوى البحث الحر والمتعة بهذا البحث متعة خالصة، متعة تعلو على الغايات الحكومية واليومية التافهة.
واستجابت مصر -أو استجاب شباب مصر- لهذا الطموح الكبير الذي راود جلة المصريين ممن فكروا في تأسيس هذه الجامعة؛ أمثال: مصطفى كامل، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ولطفي السيد. ولم تلبث الجامعة أن أرسلت بطلابها إلى أوربا لاستكمال البحث والدرس، فدخلوا ميادين العلوم والآداب هناك بقوة ورُوح عظيمة.
ونشطت حركة البعوث لا في الجامعة وحدها؛ بل أيضًا في وزارة المعارف حينئذ، وكان جيل من مدرسة المعلمين العليا أخذ ينبعث عن نفس الطموح ونفس الآمال في تثقيف نفسه ثقافة واسعة بالآداب الغربية. واتجه بعض المصريين المثرين
إلى نفس الغاية النبيلة.
ولا نصل إلى الحرب الكبرى في أوائل هذا القرن حتى تظهر ظهورًا بينًا تباشير هذا كله، فقد اقتحم هذا الشباب الجامعي وغير الجامعي أسوار الحضارة والثقافة الأوربية، وحصل منها لنفسه ووطنه على كل ما كان يريد من كنوز عقلية وأدبية.
وكان إخوانهم المصريون الذين لم تُتَحْ لهم فرصة السفر يدأبون على الترجمة والنهل من معين هذه الآداب الغربية. وسُرعان ما ظهرت نتائج هذا كله بعد الحرب الأولى، فإذا جيل كبير قد تم لمصر تثقفُه بالآداب الغربية ثقافة منظمة، ولم يكتفِ بذلك؛ بل أخذ يثبت شخصيته.
وانتقل هذا الجيل بالترجمة نقلة دنت من حد الكمال بما أُوتي من قدرة لغوية وأدبية، وكان للتجارب الطويلة التي قام بها المترجمون طوال القرن الماضي أثر لا يُنكر في إحسان هذا الجيل لوسائله اللغوية، ومن المحقق أن المترجمين القدماء عانوا طويلًا في الحصول على الألفاظ العربية المقابلة للألفاظ الأجنبية سواء في الآداب والعلوم؛ ولكن من المحقق أيضًا أن هؤلاء المترجمين المعاصرين أوفوا من دقة الترجمة وجمال أسلوبها على الغاية التي كانت تطمح إليها مصر وتنتظرها.
وحصولنا على هذه الغاية عند لطفي السيد وطه حسين وإبراهيم المازني وأضرابهم يحمل في أطوائه تزاوجًا رائعًا بين الآداب الغربية والعربية، فلم تعد لغتنا تنفر من هذه الآداب، ولم تعد تستعصي عليها؛ بل لقد استقرت في ذهنية أبنائها، وأصبحت كأنها من تراثها وتراثهم.
ولم نلبث أن تطورنا بجامعتنا المصرية بعد ثورتنا الوطنية الأولى، وما حصلنا عليه من استقلال مقيد ببعض الشروط، فإذا نحن نضعها تحت إشراف الحكومة سنة 1925، وتتسع فتشمل بجانب الآداب: الطب والعلوم والحقوق، ثم تضم بعد ذلك: الهندسة والزراعة والتجارة والطب البيطرى.
وبذلك تبلغ الجامعة المصرية كل ما كان يقدره لها المصريون في أوائل
القرن من نجاح، وتستقدم العلماء والأدباء الأوربيين، وما هي إلا دورات قليلة من الزمن حتى يصبح لمصر علماؤها المتخصصون في جميع فروع العلم، وأدباؤها الذين يلمون بجميع ضروب الآداب الغربية القديمة والحديثة.
وتُحقِّق الجامعة كل ما كان يُطْلَب منها من بحوث علمية وأدبية ممتازة، ويخرج منها جيل يُتم مع الأساتذة الرائدين هذه الدورة الرائعة في تاريخ علمنا وأدبنا، فيترجم الغربيون ما نحدثه كما ترجمنا، ونترجم ما يحدثونه.
فالأربعون سنة الأخيرة من تاريخنا الحديث تسجل نصرًا مؤزرًا لنهضتنا الأدبية الطويلة منذ منتصف القرن الماضي إلى هذا اليوم الذي نعيش فيه، لا لسبب إلا لأن هذين التيارين: العربي والغربي، اللذين كانا يبدوان منفصلين طوال الحقب السالفة اتَّحَدَا اتحادًا متينًا.
ولهذا مظهر واضح لا في حياة من برعوا في فَهْم الآداب الأجنبية؛ وإنما فيمن نزعوا إلى قديمنا الخالص من مثل: المنفلوطي والرافعي، فإنهم أقبلوا على التزود من الآداب الغربية المترجمة، حتى يحدثوا لأنفسهم صورًا أدبية جديرة بالتقدير من مواطنيهم، وكأنهم عرفوا أنه تولَّد عندنا رأي أدبي عام ينكر التمسك بالنموذج القديم الذي لا يلائم عصره وحياته، ويطلب النموذج الجديد الذي يطابق هذه الحياة وذلك العصر، حتى يستطيع أن يسيغه، وحتى يستطيع أن يتذوق ما فيه من جمال. ومن أجل ذلك استعان المنفلوطي ببعض القصص المترجمة أو بقصص ترجمت له؛ ليكتب ماجدولين وغيرها من أقاصيصه.
بل أكثر من ذلك رأينا بعض الأزهريين الذين أَلِفُوا التيار العربي الخالص ونماذجه يطلبون اللغات الأجنبية ويتعلمونها؛ حتى يقفوا على صور آدابها، وحتى يدخلوا في هذا النطاق الحيوي الجديد.
وكل ذلك معناه التحام التيار الغربي بالتيار العربي داخل بلدنا في حدة وقوة لم يسبق لهما مثيل ولا نظير في تاريخنا الحديث. وأخذنا ندعم ذلك من وجوه كثيرة؛ فمن جهة أنشأنا معهدًا للموسيقى وآخر للتمثيل، كما خطونا بالفنون الجميلة خُطُوات واسعة.
والحق أننا استطعنا أن نقيم لأنفسنا نهضة حقيقية، وكان عمادنا في ذلك اتساع بالتعليم، حتى نادى بعض مفكرينا بأنه ضرورة، وأن من الواجب أن يتمتع به كل مصري يتمتع بالهواء والماء.
وأصبح هذا التعليم يغزو القرى المصرية لا بسعيها إليه في المدن المجاورة؛ بل بنزوله في شوارعها وبين جدرانها، وهو تعليم يسري فيه هذا التيار الغربي؛ بل إننا نغلو حين نسميه بهذا الاسم، فلم يعد هناك تيار غربي بمعنى انفصالي، فقد اتحد هذا التيار مع التيار العربي الموروث، وأنتجا حياة عقلية جديدة كما أنتجا أدبًا جديدًا.
وفي أعلى هذا التعليم تتألق أشعة العلم والأدب وأضواؤهما في جامعاتنا المصرية المختلفة ممثِّلة هذا الرقي العلمي والأدبي الذي أصبناه، أو قل: الذي أحرزناه، فقد كنا قبل الأربعين سنة الأخيرة نشعر بأننا في حياتنا العقلية والأدبية نتقدم ونتأخر شأننا في حياتنا السياسية.
أما في هذه الأربعين سنة الأخيرة، فقد مضينا قُدمًا في مختلَف مناحي حياتنا السياسية والعقلية، وكان من مظاهر ذلك تنظيم حياتنا العلمية والأدبية عن طريق الجامعات التي أخذ علماؤنا وأدباؤنا فيها يسيغون كل ما هو عربي وكل ما هو غربي في نهم شديد للمتاع الفكري. وحتى الترجمة نُظِّمت فقامت عليها جمعيات مختلفة كلجنة التأليف والترجمة والنشر، وقامت عليها الحكومة ورعتها خير رعاية.
ولم نترجم فقط من الفرنسية أو الإنجليزية؛ بل ترجمنا بعض عيون الأدب من الألمانية والإيطالية والروسية. وطبيعي أن يتوج هذا المجهود بالثمرة المنتظرة؛ وهي إقامة أدب مصري إنساني، أقامته سواعد شوقي وشكري والعقاد والمازني ولطفي السيد وطه حسين وهيكل وتوفيق الحكيم وغيرهم ممن أحدثوا لنا هذا الأدب، فإذا هو لا يقف عند حدود بيئتنا المصرية وتراثنا القديم، ولا عند البيئة الغربية وتراثها القديم والحديث؛ بل تتسع هذه البيئة، فتصبح بيئة إنسانية كبرى، تشيع فيها الغايات السامية للأدب الحقيقي، وهي غايات الحق والخير والجمال.