المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فنون مستحدثة: - الأدب العربي المعاصر في مصر

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌فهرس الموضوعات:

- ‌الفصل الأول: مؤثرات عامة:

- ‌ أحداث كبرى:

- ‌ تياران: عربي وغربي:

- ‌ المطبعة والصحف:

- ‌ الشعر وتطوره:

- ‌ استمرار التقليد:

- ‌ نهضة وإحياء:

- ‌الفصل الثالث: أَعْلام الشعر:

- ‌ محمود سامي البارودي 1838-1904م:

- ‌ إسماعيل صبري 1854-1923م:

- ‌ حافظ إبراهيم 1870-1932م:

- ‌ شوقي 1869-1932م:

- ‌ خليل مطران 1872-1949م:

- ‌ عبد الرحمن شكري 1886-1958م:

- ‌ عباس محمود العقاد 1889-1964م:

- ‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

- ‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

- ‌ علي محمود طه 1902-1949م:

- ‌الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه:

- ‌ تقيد بأغلال السجع والبديع:

- ‌ حركة تحرر وانطلاق:

- ‌ بين الجديد والقديم:

- ‌ تجديد شامل:

- ‌ فنون مستحدثة:

- ‌المسرحية:

- ‌الفصل الخامس: أعلام النثر:

- ‌ محمد عبده 1849-1905م:

- ‌ مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م:

- ‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

- ‌ مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:

- ‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

- ‌ إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م:

- ‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

- ‌ طه حسين 1889-1973م:

- ‌ توفيق الحكيم:

- ‌ محمود تيمور 1894-1973م:

الفصل: ‌ فنون مستحدثة:

5-

‌ فنون مستحدثة:

رأينا أدبنا يتطور تطورًا واسعًا بفضل الأضواء الغربية التي نفذت إليه، وبفضل تحوله من الطبقة الأرستقراطية، طبقة الملوك والأمراء ومن يلوذ بهم،

إلى الطبقة الديمقراطية، طبقة الشعب على اختلاف درجاتها.

وتحت تأثير هذا التطور عادت الخطابة السياسية إلى الازدهار ازدهارًا لعل العصور القديمة لم تعرفه، فإنها أخذت تستمد من معين الفكر الغربي الذي لا ينضب، وما وصل إليه من مبادئ في الحريات وفي الحقوق السياسية، كما أخذت تستمد من حياتنا وظروفها الماضية التعسة، ظروف الحكم السيئ والاحتلال البغيض. ولم يلبث أن ظهر عندنا خطباء سياسيون مفوَّهون مثل: مصطفى كامل وسعد زغلول. ثم أنشأنا الدستور القديم والأحزاب، ودعا كل حزب لنفسه، وظهر في كل حزب خطباء مختلفون يعدون بالعشرات، فكان ذلك كله سببًا في نمو هذا اللون من الخطابة السياسية وازدهاره.

وأخذنا عن الغرب نظام القضاء الحديث، كما أخذنا عنه الخطابة القضائية؛ إذ وُجد نظام المحامين والمدعين العامين، وأصبحت محاكمنا مثل المحاكم الغربية ميدانًا واسعًا يجول فيه الخطباء من رجال القانون. وتعقدت القضايا، وتعقد هذا اللون من الخطابة، واشتهر فيه كثير من الخطباء القانونيين. وبجانب هذين اللونين نشطت الخطابة الاجتماعية التي تُلْقى في النوادي والحفلات العامة، وتتناول جوانب اجتماعية وإنسانية مختلفة.

ففن الخطابة قد أصاب حظًّا واسعًا من الرقي في حياتنا الأدبية الحديثة؛ ولكن لا نستطيع أن نقول: إنه فن استحدثناه وأوجدناه دون أصول سابقة، فقد كانت عندنا خطابة سياسية واجتماعية أو حفلية في العصرين الجاهلي والإسلامي، حقًّا ذبلت الخطابة في العصور التالية؛ ولكنا نَرِثُ منها على كل حال تراثًا قيمًا.

وإذا كانت الخطابة -باستثناء الخطابة القضائية- ليست جديدة كل الجدة، فإن هناك فنونًا نثرية أخرى استحدثناها وأنشأناها إنشاء، مستلهمين في إنشائها أعمال الغرب وما أقامه -ويقيمه- فيها من نماذج مختلفة؛ وهي: المقالة والقصة والمسرحية.

ص: 204

المقالة:

ونحن نعرف الآن أن المقالة قالب قصير قلما تجاوز نهرًا أو نهرين في الصحيفة، ولم يكن العرب يعرفون هذا القالب؛ إنما عرفوا قالبًا أطول منه، يأخذ شكل كتاب صغير، وهو يسمونه الرسالة مثل رسائل الجاحظ. ولم ينشئوه من تلقاء أنفسهم؛ بل أخذوه عن اليونان والفرس، وأدوا فيه بعض الموضوعات الأدبية التي خاطبوا بها الطبقة الممتازة من المثقفين في عصورهم.

أما المقالة فقد أخذناها عن الغربيين، وقد أنشأتها عندهم ضرورات الحياة العصرية والصحفية، فهي لا تخاطب طبقة رفيعة في الأمة؛ وإنما تخاطب طبقات الأمة على اختلافها، وهي لذلك لا تتعمق في التفكير حتى تفهمها الطبقات الدنيا، وهي أيضًا لا تلتمس الزخرف اللفظي، حتى تكون قريبة من الشعب وذوقه الذي لا يتكلف الزينة، والذي يؤثر البساطة والجمال الفطري، ومن أجل ذلك لم يكد أدباؤنا يكثرون من كتابتها بالصحف في أواسط القرن الماضي -أو بعبارة أدق: في ثلثه الأخير- حتى اضطروا إلى أن ينبذوا لفائف البديع وثياب السجع وبهارجه الزائفة، التي كانت تثقل أساليب رفاعة الطهطاوي وتعوقها عن الحركة.

وسُرعان ما وُجدت عندنا المقالة السياسية الطليقة من أغلال السجع والبديع، وأخذت تخاطب الناس من قريب، وتتحدث إليهم في شئونهم الوطنية، وجعلت تؤثر فيهم تأثيرًا قويًّا، كان من نتائجه قيام الثورة العرابية، ومن أجل ذلك حين حوكم زعماء هذه الثورة حوكم معهم كتاب المقالة حينئذ، فاختفى عبد الله نديم، ونُفي محمد عبده، وكان قد أُبعد جمال الدين الأفغاني، ولم يصبهم ما أصابهم من ذلك، إلا بسبب ما كتبوا من مقالات سياسية. وهي تغلب عليها النزعة الخطابية عند النديم؛ إذ كان خطيبًا مفوَّهًا من خطباء الثورة العرابية، وكأنها كانت متنفسًا عنده لثورته وحدة عاطفته الوطنية، وهو يمسح عليها أحيانًا بسخرية مرة. وكان أحيانًا يُجْري مقالاته في جوانب اجتماعية إصلاحية ماسحًا عليها بدعابة حلوة. وكان يسود مقالات محمد عبده ضرب

ص: 205

من الانفعال؛ ولكن في وقار ورصانة، وقد شفع مقالاته السياسية بمقالات إصلاحية في الدين والمجتمع الإسلامي، كتبها بقلم البصير الحاذق، محمسًا تارة، ودارسًا فاحصًا تارة ثانية.

وأخذ هذا اللون من المقالات ينمو مع نمو عقلنا ويرقى مع رقيه، وبَوْنٌ واسع بين مقالات هذا الجيل الأول والجيل الذي تلاه في عصر الاحتلال، من مثل مصطفى كامل والشيخ علي يوسف ولطفي السيد، فقد بث هذا الجيل الثاني في المقالة السياسية حياة وقوة. ومما لا شك فيه أن أقوى شيء قاومنا به الاحتلال البريطاني هو مقالات مصطفى كامل في صحيفة "اللواء" التي شحذت عزائمنا لمناهضة الاحتلال ومصارعته، وهو بحق زعيم حركتنا القومية في عصره غير مدافَع؛ إذ كان شعلة وطنية متقدة، وكان خطيبًا مفوهًا وكاتبًا سياسيًّا لا يشق غباره، فانبرى يوقظ فينا وعينا القومي صائحًا في سمعنا وسمع العالم الأوربي كله صيحاته المدوية في الحرية والاستقلال والحياة الكريمة. وكان الشيخ علي يوسف في صحيفة "المؤيد" يدافع دفاعًا حارًّا بقلمه الرصين عن الإسلام والشرق موغرًا صدورنا على الإنجليز الغاشمين، بينما كان لطفي السيد في "الجريدة" يدعو إلى تربية الشعب تربية قويمة حتى ينتزع حقوقه من المعتدين الآثمين. وكان بجانبهم مصطفى لطفي المنفلوطي الذي اشتهر في مقالاته الاجتماعية بأسلوبه العاطفي الفريد، وببث معاني الرحمة والفضيلة ووصف بؤس البائسين.

ولا نصل إلى الدورة الثالثة أو إلى الجيل الثالث الذي خلف هذا الجيل الثاني وهو الجيل الذي نشأ بعد الحرب الأولى في هذا القرن حتى تنشط المقالة السياسية عندنا نشاطًا واسعًا، وكان مما ضاعف هذا النشاط نشوء الأحزاب السياسية بعد تصريح 28 من فبراير 1922 وتعاركها عراكًا عنيفًا، ولعل خير من يمثل هذا الجيل: أمين الرافعي وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل وعبد القادر حمزة وطه حسين وإبراهيم عبد القادر المازني، أولئك الذين كانوا يخلبون قلوبنا بمقالاتهم السياسية، وهي تختلف باختلاف شخصياتهم ومقدراتهم البيانية.

ص: 206

وكانت ترافق هذه المقالة السياسية منذ نشأتها المقالة الأدبية التي تتناول شئون الأدب والثقافة، ولم تلبث أن أُفْردت لها مجلات خاصة أسبوعية أو شهرية مثل: المقتطف والهلال، وعلى طول السنين في هذا القرن تنشأ مجلات مختلفة مثل: السياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي والرسالة والثقافة.

وكان لهذا النوع من المقالة تأثير واسع جدًّا في حياتنا الأدبية في مصر والبلاد العربية. ويمكن أن نلاحظ فيها نفس الدورات الثلاث التي لاحظناها في المقالة السياسية، فهي تنشأ في القرن الماضي نشأة ساذجة، ثم تأخذ في التطور، ولا نصل إلى الجيل الثاني حتى نراه يودع فيها ما قرأه عند الغربيين في الأخلاق والاجتماع وشئون الفكر المختلفة. وقد عُنيت المقتطف منذ ظهورها في أواخر القرن بالحركة العلمية عند الغربيين وتصوير نظرياتها للجمهور المصري الخاص والجمهور العربي العام.

ولا نتقدم إلى الجيل الثالث -جيل هيكل والعقاد وطه حسين والمازني- حتى تصبح المقالة الأدبية أثرًا فنيًّا قيمًا حقًّا، فهي تمس القلوب وتثير العواطف، وقد اتسعوا بها إلى مباحث عميقة في الأدب والنقد والفنون الجميلة والنظريات الفلسفية والاجتماعية، مستهدين في ذلك بالمثل الإنسانية العليا مُثل الخير والحق والجمال. وسار في هذا الطريق غير كاتب من مثل توفيق الحكيم وغيره، ممن نقلوا إلينا في مقالاتهم روح الفكر الغربي ومذاهبه الاجتماعية والأدبية. ولم يدعوا مقالاتهم تفنى مع الصحف؛ بل جمعوها وطبعوها في كتب مختلفة حتى يتيحوا لها شيئًا من البقاء.

ولا بد أن نشير هنا إلى مقالات مصطفى صادق الرافعي وأحمد أمين الاجتماعية، وهي تمتاز عند أولهما باستبطان عقلي واسع ساعد عليه صممه المبكر، بينما تمتاز عند الثاني بمحصول فكري وافر ساعدت عليه ثقافته الواسعة، وهو فيها ينقد أحيانًا يعض جوانب المجتمع؛ ولكنه لا ينقدها في سخط عنيف، شأن الخطيب أو الواعظ، وإنما ينقدها في حديث هادئ ممتع.

ص: 207

القصة:

ليست القصة جديدة على أدبنا كل الجدة، ففي الأدب الجاهلي قَصَصٌ كثير يدور على أيام العرب وحروبهم. وفي القرآن الكريم قصص مختلف عن الأنبياء ومن أرسلوا إليهم، وقد تُرْجم في العصر العباسي كثير من قصص الأمم الأجنبية، ومن أشهر ما ترجم حينئذ كتاب كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة.

ولكن يلاحظ أن القَصص العباسي وما خلفه من قَصَص عند الشعوب الإسلامية اتخذ اللغات العامية غالبًا لسانًا له، ولم يدخل منه في أدبها الكبير: الأدب العربي الفصيح سوى المقامات، وهي قصص قصيرة تصور مغامرات أديب متسول يخلب سامعيه بحضور بديهته وبلاغة عباراته. وفي الحق أن بديع الزمان مخترعها ومَن جاءوا بعده مثل الحريري لم يفكروا في صنع قصة حقيقية أو أقصوصة؛ إنما فكروا في غرض تعليمي هو جمع طوائف من الأساليب المنمقة الموشاة بزخرف السجع والبديع.

وبذلك انقطع الطريق بين القصة الطويلة وبين العربية الفصيحة، فلم تدخلها؛ إنما دخلت في اللغات الدارجة، وشاركتْ لغتنا العامية في هذا النشاط؛ بل لقد سارعت إليه وحاولت أن تتفوق فيه. ويتضح ذلك من كثرة القصص المصرية في قصصنا الشعبي الوسيط، فقد ألفنا قصة عنترة وقصة الهلالية وقصة الظاهر بيبرس وذات الهمة وسيف بن ذي يزن وفيوز شاه. ومَصَّرنا ألف ليلة وليلة فكتبناها بعاميتنا، أو صُغْناها بها، وأضفنا إليها قصصًا جديدة مثل قصة علي الزيبق وأحمد الدنف.

فكان لنا في العصور الوسطى قَصَصٌ شعبي، ولكن لم يكن لنا قصص فصيح. ولما اتصلنا بأوربا وأخذنا نتأثر بآدابها اتجه أدباؤنا إلى القصص الغربي، وحاولوا أن يترجموه، وكان رفاعة الطهطاوي هو الرائد لهذه الحركة، فترجم "مغامرات تليماك" لفنلون وسماها "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك". ولعل في نفس العنوان وتغييره إلى هذه الصورة المسجوعة ما يدل على عمل رفاعة

ص: 208

في ترجمته، فإنه نقل القصة إلى أسلوب السجع والبديع المعروف في المقامات، ولم يتقيد بالأصل الذي ترجمه إلا من حيث روحه العامة، أما بعد ذلك فقد أباح لنفسه التصرف فيه. تَصَرَّفَ في أسماء الأعلام، وتصرف في المعاني، فأدخل فيها آراءه في التربية وفي نظام الحكم، كما أدخل الأمثال الشعبية والحِكَم العربية.

فلم يكن رفاعة مترجمًا فحسب؛ بل كان ممصرًا للقصة، واستمر هذا التمصير طويلًا من بعده، حقًّا أخذ أدباؤنا يتحررون من لغة السجع والبديع، ومعنى ذلك: أنهم ملكوا من وسائل التعبير ما لم يكن يملكه رفاعة ومعاصروه؛ ولكنهم ظلوا يميلون إلى التمصير فيما يترجمون من قصص، حتى تقترب من ذوق القارئين؛ بل إن منهم من آثر التمصير إلى اللغة العامية مثل محمد عثمان جلال. ولكن الممصِّرين من أصحاب الفصحى هم الذين رجحت كفتهم، ومن أشهرهم في أوائل هذا القرن حافظ إبراهيم والمنفلوطي، وقد ترجم أولهما البؤساء لفيكتور هيجو، وبعبارة أدق: مصرها تمصيرًا، فإنه لم يحتفظ منها إلا بالخطوط الأساسية، أما بعد ذلك فقد أباح لنفسه التصرف في الترجمة وإضافة فقرات ليست في الأصل. وربما كان عمل المنفلوطي في التمصير أوسع من عمله، فإنه لم يكن يعرف شيئًا من اللغة الفرنسية؛ وإنما اعتمد على نفر قرءوا له بعض القصص مثل "بول وفرجيني"، وحاول أن يؤدي ما سمعه منهم في اللغة العربية، فكانت قصة "الفضيلة"، ومثلها القصص الأخرى التي نشرها، وكلها تكاد تفقد الصلة بالأصل، كما تفقد حبكته القصصية، فليس الغرض الأول القصص؛ وإنما الغرض تصوير الانفعالات العاطفية والاسترسال في أسلوب بليغ.

على أننا لا نكاد نتقدم في هذا القرن حتى يستجيب بعض أدبائنا إلى هذا الفن الغربي، ويحاولوا أن يحدثوا فيه نماذج لهم، وسبق أن تحدثنا عن محاولتين: محاولة في إطار المقامة هي حديث عيسى بن هشام، ومحاولة جديدة خالصة هي محاولة زينب لمحمد حسين هيكل، والمحاولة الثانية هي التي تعد بحق أول محاولة كاملة لنا في صنع قصة بالمعنى الغربي الحديث. وتلتها بعد سنوات محاولة

ص: 209

محمد تيمور تأليف مجموعة من الأقاصيص باسم "ما تراه العيون"، وهي أقاصيص قصيرة تمتاز بواقعيتها وبما تحمل من إحساس دقيق بالمفارقات، كما تمتاز بحبكتها القصصية. وقد كثر بعد الحرب الأولى من يكتبون الأقصوصة كتابة فنية بارعة، نذكر منهم محمود تيمور، كما نذكر محمود لاشين في مجموعتيه "سخرية الناي" و"يحكى أن"، وهو يمتاز بروحه المصرية الصميمة وقدرته على رسم الشخوص وإحاطتها بإطار من الواقعية والفكاهة.

أما القصة الاجتماعية الطويلة التي بدأها هيكل، فإنها خطت خطوات واسعة مع نهضتنا الأدبية بعد الحرب الأولى من القرن؛ إذ وُجد لها غير كاتب أصيل، وأصبح لكل كاتب فيها أسلوبه ومميزاته الشخصية التي ينفرد بها عن أقرانه. ومن أهم من لمعت أسماؤهم فيها طه حسين والمازني، وامتاز الأول بتصوير حياتنا المصرية في كثير من قصصه مثل: الأيام ودعاء الكروان وشجرة البؤس، وتناول قصة شهر زاد المعروفة في ألف ليلة وليلة وعرضها بأسلوبه البارع عرضًا طريفًا.

أما المازني، فيُعْنَى في قصصه بالجانب النفسي في الرجل والمرأة، ويستمد من الحياة اليومية المصرية وتجاربها التي تعيها مخيلته، ويشفع ذلك بتحليل واسع لمجتمعنا وعاداته وعلاقات أهله وأمزجتهم وما يضطربون فيه من مشاعر وأحاسيس. وهذا الاتجاه إلى التحليل النفسي يستمده من كُتَّاب الغرب النفسيين، وتشيع عنده كما تشيع عندهم النظريات النفسية المعروفة من عُقَد وتعويض وما إلى ذلك، على نحو ما نرى في قصة "إبراهيم الكاتب" و"عود على بدء".

وللعقاد قصة تسمى "سارة"، وهي تقترب من ذوق المازني، وإن كانت تمتاز بتحليل عقلي واسع، إلا أنها تمزج هذا التحليل بتحليل نفسي، وتسيطر على التحليلين جميعًا شخصية العقاد التي تبالغ في المنطق وفي إبراز الأسباب والنتائج.

وهذا الاتجاه إلى التحليل النفسي في القصة يكاد يقف عند هذين الكاتبين، فالجيل التالي لهما يسير أكثر ما يسير في اتجاه هيكل وطه حسين الذي يعتمد

ص: 210

على التحليل الاجتماعي لا على التحليل النفسي، وفي مقدمة هذا الجيل توفيق الحكيم ومحمود تيمور ونجيب محفوظ.

أما توفيق الحكيم، فاعتمد في قصصه على بعض حوادث وتجارب رآها في حياته كما نرى في "يوميات نائب في الأرياف"، وحاول أن يتناول بعض مشاكلنا القومية الوطنية كما في "عودة الروح". وهو يطبع قصصه بطوابع إنسانية عامة، وإن كان يحاول في الوقت نفسه محاولة جادة أن يصور معالم الروح المصرية الشرقية.

ويُعْنَى محمود تيمور في قصصه بعيوبنا الاجتماعية، وهو يلتقي بطه حسين وتوفيق الحكيم في كثير من قصصه؛ ولكن له أسلوبه وشخصيته المستقلة. أما نجيب محفوظ، فيُعْنَى بتصوير الطبقات الوسطى والشعبية وما تخضع له من الظروف المختلفة في البيئة والمجتمع مما ينتهي بها أحيانًا إلى الانحراف الاجتماعي أو الخلقي.

وبجانب القصة الاجتماعية الطويلة وُجدت عندنا القصة التاريخية منذ مطالع هذا القرن، فقد ألف جورجي زيدان نيفًا وعشرين قصة تصور الأحداث العربية الكبرى، وهي ليست قصصًا بالمعنى الدقيق؛ إنما هي تاريخ قصصي، تدمج فيه حكاية غرامية، وهو تاريخ يحافظ فيه الكاتب على الأحداث دون أي تعديل، ودون أن تحليل للمواقف والعواطف الإنسانية. غير أننا لا نتقدم طويلًا بعد الحرب العالمية الأولى حتى تأخذ هذه القصة عندنا في النضج، وكان أول من أوفى بها على الغاية من الكمال الفني محمد فريد أبو حديد في قصته "زنوبيا"، وقد أتبعها بقصصه الأخرى: الملك الضليل والمهلهل ثم "جحا في جانبولاد". وهو في قصصه جميعًا يتقن البناء القصصي ورسم شخوصه والنفوذ إلى دخائلها وخباياها النفسية. ويلقانا في هذا المجال كثيرون مثل: علي الجارم ومحمد سعيد العريان ومحمد عوض محمد.

ولا بد أن نشير هنا إلى أن سنوات الحرب الأخيرة أتاحت لفن القصة عندنا ازدهارًا واسعًا، فقد أُغْلق البحر الأبيض أمام أدبائنا، فلم تعد تَرِدُ إليهم القصص

ص: 211

الغربية، فعكفوا على أنفسهم أكثر مما كانوا يعكفون، فإذا هذا الفن ينضج على أيديهم نضجًا لا يعتمدون فيه على استيحاء أنماط غربية؛ إنما يعتمدون على أنفسهم وعلى بيئتهم المصرية العربية. وبذلك أصبح فنًّا عربيًّا متوطنًا في بيئتنا لا فنًّا غربيًّا نستورده ونقيس على أمثلته ونماذجه.

وإذا كنا قد استطعنا قبل الحرب الأخيرة أن نسمي طائفة ممن لمعوا فيه، فإننا لا نستطيع الآن أن نحصيهم عدًّا؛ إذ وجد الشباب نفسه بعد ثورتنا المجيدة وأحس حياته وكل ما فيها من وقائع اجتماعية وأخذ يعبر عنها أقوى تعبير وأجمله في قصصه وأقاصيصه.

وتبرز الآن أسماء كثيرة في عالم القصة والأقصوصة جميعًا، فقد أصبحت عندنا قصة مصرية فعلًا، وأصبح لنا قصاصون مصريون مبدعون، ولكل منهم أسلوبه ومنهجه وطريقته.

وإذا كنا لاحظنا الميل الشديد إلى تمصير القصص الغربية قبل الحرب الأولى من هذا القرن، فإن هذا الميل انتهى وحل محله ذوق جديد من الترجمة الحرفية الدقيقة، وقد قامت دور نشر كثيرة على هذه الترجمة مثل لجنة التأليف والترجمة والنشر ودار الهلال ودار المعارف وغير ذلك من هيآت ومؤسسات، وتضطلع وزارة التربية والتعليم بجهود خصبة في هذا الاتجاه. ومعنى ذلك: أنه أصبح في لغتنا قصص غربية حقيقية، وهي تعد بالمئات، كما أصبحت عندنا قصص مصرية حقيقية لا تقل عن السابقة جمالًا وروعة.

ص: 212