المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ محمد المويلحي 1858-1930م: - الأدب العربي المعاصر في مصر

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌فهرس الموضوعات:

- ‌الفصل الأول: مؤثرات عامة:

- ‌ أحداث كبرى:

- ‌ تياران: عربي وغربي:

- ‌ المطبعة والصحف:

- ‌ الشعر وتطوره:

- ‌ استمرار التقليد:

- ‌ نهضة وإحياء:

- ‌الفصل الثالث: أَعْلام الشعر:

- ‌ محمود سامي البارودي 1838-1904م:

- ‌ إسماعيل صبري 1854-1923م:

- ‌ حافظ إبراهيم 1870-1932م:

- ‌ شوقي 1869-1932م:

- ‌ خليل مطران 1872-1949م:

- ‌ عبد الرحمن شكري 1886-1958م:

- ‌ عباس محمود العقاد 1889-1964م:

- ‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

- ‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

- ‌ علي محمود طه 1902-1949م:

- ‌الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه:

- ‌ تقيد بأغلال السجع والبديع:

- ‌ حركة تحرر وانطلاق:

- ‌ بين الجديد والقديم:

- ‌ تجديد شامل:

- ‌ فنون مستحدثة:

- ‌المسرحية:

- ‌الفصل الخامس: أعلام النثر:

- ‌ محمد عبده 1849-1905م:

- ‌ مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م:

- ‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

- ‌ مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:

- ‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

- ‌ إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م:

- ‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

- ‌ طه حسين 1889-1973م:

- ‌ توفيق الحكيم:

- ‌ محمود تيمور 1894-1973م:

الفصل: ‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

الحياة من بين جنبيه قطعة قطعة:

"لقد كان خيرًا لي ولك يا بني أن أكِلَ إلى الله أمرك في شفائك ومرضك، وحياتك وموتك، وألا يكون آخر عهدك بي في يوم وداعك لهذه الدنيا تلك الآلام التي كنت أجشمك إياها، فلقد أصبحت أعتقد أنني كنت عونًا للقضاء عليك، وأن كأس المنية التي كان يحملها لك القدر في يده لم تكن أمر مذاقًا في فمك من قارورة الدواء التي كنت أحملها في يدي".

والمقالة جميعها على هذا النحو المؤثر الذي كان المنفلوطي يتقنه. ودائمًا تجد عنده هذا اللفظ الجزل الرصين، الذي كان يحرص فيه على أن تسيغه الأذن بما يحمل من هذه الموسيقى العذبة التي تؤثر في النفس، وتحدث في الذهن تلك اللذة الفنية، التي نطلبها في الآثار الأدبية.

ص: 234

3-

‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

أ- حياته وآثاره:

وُلد محمد المويلحي في القاهرة سنة 1858 لأسرة ثرية تأخذ بحظها من الثقافة، فهو حفيد سر التجار في عهد محمد علي. وكان أبوه إبراهيم يشتغل بالتجارة، إلا أنه كان يجد في نفسه ميلًا شديدًا إلى الأدب، فعكف على قراءة عيونه، وصحب كبار الأدباء في عصره، وتتلمذ لجمال الدين الأفغاني مع مَن تتلمذوا عليه. وكان يحذق الفرنسية والتركية، كما كان يحذق العربية. ولم يلبث أن اشتغل بالصحافة؛ فأخرج مع محمد عثمان جلال صحيفة "نزهة الأفكار" إلا أنها لم تستمر طويلًا. ونراه بعدها قريبًا من الخديو إسماعيل فيعيَّن عضوًا في مجلس الاستئناف، ولما نُفي الخديو إلى إيطاليا صحبه مدة من الزمن، ثم نزل في الآستانة، فأُكْرم هناك، وجُعل عضوًا في مجلس المعارف. وعاد مع أواخر القرن إلى مصر، فأخرج مجلة "مصباح الشرق"

ص: 234

وكانت أهم مجلة أدبية عندنا إلى أن تُوفي سنة 1906.

وإنما قدمنا هذه المقدمة لندل على أن محمدًا نشأ في بيت ثراء وأدب، وقد ألحقه أبوه بمدرسة الأنجال التي كان يلتحق بها أبناء الطبقة الأرستقراطية، وكان في الوقت نفسه يدرس في الأزهر ليتقن اللغة العربية، كما كان يختلف إلى دروس جمال الدين ومحمد عبده، ووجد في أبيه أستاذًا أصيلًا تلقى عنه أصول الأدب علمًا وعملًا. ووظفه أبوه في دواوين الحكومة، غير أنه اشترك في ثورة عرابي، ففُصل من وظيفته بعد إخفاق الثورة. ونراه يخرج من مصر إلى أبيه في إيطاليا، ويستدعيه جمال الدين إلى باريس؛ ليساعده في إخراج صحيفة "العروة الوثقى" ويلبِّي دعوته. وتسنح له الفرصة ليتقن الفرنسية ويصادق بعض أدباء فرنسا من مثل "إسكندر ديماس الصغير". ويقال: إنه تعلم -وهو مع أبيه- الإيطالية وبعض مبادئ اللغة اللاتينية.

ويمضي في إيطاليا وفرنسا ثلاث سنوات، ثم يبرحهما إلى الآستانة قبل نزول أبيه بها، ويشتغل بإخراج رسالة الغفران لأبي العلاء وغيرها من الكتب. ويعود إلى القاهرة، فيشترك في تحرير الأهرام والمؤيد والمقطم. ويعود أبوه ويُخرج مجلة "مصباح الشرق" فيعاونه فيها، وينشر بها قصته "حديث عيسى بن هشام" في حلقات متتابعة، ويجمع هذه الحلقات ويذيعها سنة 1906. ونراه يعين مديرًا للأوقاف في سنة 1910، وهو مع ذلك يحرِّر صحيفة "المقطم" ويكتب مقالات مختلفة في شئون السياسة والاجتماع في روح ثائرة ضد الاحتلال، وألف كتابًا سماه "أدب النفس" وهو رسائل في الأخلاق وشئون الحياة، وما زال يتابع هذه الكتابات حتى توفي سنة 1930.

ومع ثقافته الواسعة بالآداب الفرنسية كان محافظًا شديد المحافظة. وتتضح هذه المحافظة في سلسلة مقالات نشرها في "مصباح الشرق" حين أخرج شوقي ديوانه الأول سنة 1898، وزعم في مقدمته أنه سيحاول التجديد على ضوء ما قرأ في الآداب الغربية، وأشاد بشعر الطبيعة عند القوم. وتساءل المويلحي في مقالاته: ما الجديد الذي يريد شوقي إدخاله إلى العربية؟ وقال له: إنك تنظم

ص: 235

بهذه اللغة فلا بد أن ترجع في ألفاظك إليها لأنك تتحدث بها، وقد قرأنا مثلك في الآداب الغربية، فلم نجد للقوم معاني يتفوقون بها على الشرقيين؛ بل إننا معشر الشرقيين نفوقهم في المعاني، وحتى موضوعات شعرهم التي تتغنَّى بها مثل "الطبيعة" للعرب فيها كثير، وما على الشاعر المجدد من أمثالك إلا أن يتصفح دواوين القدماء، فيجد فيها -لا في الغرب- ضالته التي ينشدها.

ونظن ظنًّا أن هذا النقد الخاطئ كان له أثر سيئ في شوقي، فإنه شك في الجديد الذي جاء به، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه هو الذي رده إلى معارضة الشعراء القدماء؛ ليثبت تفوقه عليهم، وليقتنع محمد المويلحي وأضرابه من المحافظين بأنه لا يقل عنهم إبداعًا ومهارة.

ص: 236

ب- حديث عيسى بن هشام:

رأينا محمد المويلحي رغم ثقافته بالآداب الغربية محافظًا شديد المحافظة، ومع ذلك حاول أن يدخل القصة المعروفة عند الغربيين في مجال أدبنا الحديث؛ ولكن كيف يدخلها؟ هل يدخلها بصورتها الغربية أو يبحث عن صورة عربية يقدمها فيها؟

ولم نكن حتى هذا التاريخ قد صنعنا محاولات قصصية سوى "علم الدين" لعلي مبارك، وهي رحلة تقع في أربعة أجزاء، قام بها الشيخ علم الدين مع مستشرق إنجليزي، فطافا معًا بجوانب الحياة المصرية ثم رحلا إلى بلاد الإنجليز. وصور علي مبارك مشاهداتهما هنا وهناك. وقد وُضعت الرحلة في شكل مسامرات بلغت خمسًا وعشرين ومائة. وفيها يصف الكاتب حياة الشيخ علم الدين في الأزهر كما يصف حياتنا في حفلات الزواج، وفي المواسم والأعياد، ويلم بحياة الإنجليز. وفي أثناء ذلك تُنْثَر فوائد متفرقة في العلوم الشرعية والفنون الصناعية وأسرار الكون والخليقة. وربما استلهم علي مبارك في هذه الرحلة كتاب "إميل" للكاتب الفرنسي جان جاك روسو؛ إذ أجرى على لسانه آراءه وأفكاره.

ص: 236

وقد اختار لرحلته الأسلوب المسجوع.

كان هذا هو المثال الوحيد أمام المويلحي، فرأى أن ينتفع به في قصته؛ ولكن مع هدف جديد، فإن رحلة علي مبارك كُتبت قبل عصر الاحتلال، ولم تكن قد برزت مشاكلنا الاجتماعية على ألسنة المصلحين من مثل: محمد عبده وقاسم أمين، وأيضًا لم نكن قد اندفعنا اندفاعًا شديدًا في تقليد الحضارة الغربية المادية، فقد أخذ الاتصال بيننا وبين أوربا يشتد بعد الاحتلال، وأخذ كثيرون منا يقلدون الغربيين حتى في العادات بدون ملاحظة ما بيننا وبين القوم من أسوار فاصلة في المشارب والأذواق.

وإذن فليتغير هدف القصة، فلا يكون تعليميًّا كما هو الشأن في "علم الدين"؛ بل يكون إصلاحيًّا في ضوء ما يكتبه المصلحون من أمثال: النديم وقاسم أمين ومحمد عبده، وفي ضوء ما يُكْتَب عن تطرفنا في استيراد المدنية الغربية.

ولكن كيف توضع هذه القصة وفي أي إطار؟ إن المويلحي محافظ، وقد رأيناه يأخذ على شوقي محاولته التجديد على أسس النماذج الغربية، فليبحث لقصته عن إطار عربي خالص، حتى لا يخرج على ذوقه ولا على ذوق أمثاله من المحافظين المتعصبين الذين يأبون محاكاة النماذج الأدبية الغربية. وفكر في ذلك طويلًا، وسرعان ما هداه تفكيره إلى إطار المقامة الذي صنعه بديع الزمان، وهو إطار يقوم على راوٍ يسمى عيسى بن هشام، يصف طائفة من الحِيَل لأديب متسول يسمى أبا الفتح الإسكندري، وكل حيلة تسمى مقامة، وفي كل مقامة يظهر هذا الأديب براعته البيانية بما يصوغ من أسلوب مسجوع، كان يعد تُحْفَة التحف في عصورنا الوسطى.

ورأى المويلحي أن يتخذ لقصته هذا الإطار. فراوي قصته هو نفس راوي مقامات بديع الزمان؛ ولذلك سماها حديث عيسى بن هشام؛ ولكن بطل بديع الزمان أديب متسول، فهل يكون بطل المويلحي على نمطه أديبًا متسولًا؟ لقد رأى أنه إن صنع ذلك لن تتاح له الفرصة لكي يُلم بما يريد من موضوعات اجتماعية، وفكَّر، وهداه تفكيره إلى أن يتخذ بطله من جيل سابق لجيله،

ص: 237

مستلهمًا في ذلك قصة أهل الكهف التي وردت في القرآن الكريم، وما تشير إليه من أن سبعة دخلوا أحد الكهوف فماتوا، وظلوا في موتهم ثلاثمائة سنة وازدادو تسعًا، ثم بُعثوا من رقادهم، فكانوا معجزة خارقة في مدينتهم.

فألهمت هذه القصة المويلحي أن يختار بطل قصته أحمد "باشا" المنيكلي ناظر الجهادية الذي تُوفي سنة 1850. فبينما كان عيسى بن هشام يطوف بالمقابر في ليلة قمراء مستعبرًا مفكرًا في سُنَّة الموت والحياة إذا به يخرج عليه من أحد القبور هذا الدفين، ويكون بينهما حوار يعرف منه عيسى بن هشام حقيقته وهويته. ويعود معه إلى القاهرة، ويرافقه في رحلة كبرى بعالم الأحياء المصري في فترة الاحتلال. ويلاحظ المنيكلي أن كل شيء قد تغير في هذا العالم بالقياس إلى ما كان في عصره زمن محمد علي، فقد أصبح المصريون يعيشون في عالم جديد، هو خليط من نظم تقليدية ونظم غربية، وهو عالم مليء بالعيوب الخلقية والاجتماعية.

وتتوالى علينا مشاهد القصة، فمن وصف للمُكارين إلى وصف لرجال الشرطة ووصف للمحاكم على اختلاف أنواعها، ومن وصف لحياة الحكام والتجار والأغنياء ومباذلهم إلى وصف لدور اللهو والتمثيل، وفي أثناء ذلك يوصَف ما في الحياة الحديثة من تقدم في العمران وفي العلم وخاصة الطب. ويكاد الإنسان يظن أن المويلحي لم يترك جانبًا من حياتنا حينئذ إلا تناوله بالوصف والنقد، ويسوق ذلك في سخرية مرة تصور ضعف المصريين وانقيادهم لأهوائهم وملذاتهم.

والمويلحي يرسم في تضاعيف ذلك بعض الشخصيات رسمًا بارعًا، ومن بديع رسومه رسم "العمدة" الذي يُبْرز فيه ثراءه وغفلته حين ينزل القاهرة، فيُلم به بعض السماسرة وبعض القوَّادين، ويُغْوونه، ويخدعونه عن ماله وشرفه، فإذا هو يسقط سقوطًا مزريًا في ملذاته. وبنفس البراعة والمهارة في رسم الشخصيات وتحليل طباعها يرسم "المحامي الشرعي" الذي قصده المنيكلي مع عيسى للمطالبة بوقف له، ويدور الحوار بين المحامي وعيسى على هذا النحو:

ص: 238

المحامي: قولا لي ما حقكم فيه الوقف؟ وما شرط الواقف؟ وكم يقدر ثمن العين لتقدر قيمة الأتعاب بحسبه؟

عيسى بن هشام: إن لصاحبي هذا وقفًا عاقته عنه العوائق، فوضع سواه عليه يده، ونريد رفع الدعوى لرفع تلك اليد.

المحامي: سألتك: ما قيمة العين؟

عيسى بن هشام: لست أدري على التحقيق؛ ولكنها تبلغ الألوف.

المحامي: لا يمكن أن يقل مقدم الأتعاب حينئذ عن المئات.

عيسى بن هشام: لا تَشْطُطْ أيها الشيخ في قيمة الأتعاب، وارفق بنا، فإننا الآن في حالة عسر وضيق.

غلام المحامي: وهل ينفع في رفع الدعوى اعتذار بإعسار؟ ألم تعلم أن هذا شغل له "اشتراكات" ولكتبته والمحضرين "تطلعات"؟ وأنَّى لكما بمثل مولانا الشيخ، يضمن ربح الدعوى وكسب القضية بما يهون معه دفع كل ما يطلبه في قيمة أتعابه؟ وهل يوجد مثله أبدًا في سعة العلم بالحيل الشرعية ولطف الحيلة في استمالة محامي الخصم واستجلاب عناية القضاة؟

عيسى بن هشام: دونك هذه الدراهم التي معنا، فخذها الآن ونكتب لك صكًّا بما يبقى لحين كسب القضية، وليس يفوتك شيء من ذلك ما دام ربحها مضمونًا لديك على كل حال.

المحامي -بعد أن استلم الدراهم بعدِّها: أنا أقبل منك هذا العدد القليل الآن ابتغاء ما ادَّخره الله لعباده من الأجر والثواب في خدمة المسلمين. وعليك بشاهدين للتوكيل.

ويستمر الحوار على هذا النحو، فنطَّلع منه على طباع المحامين الشرعيين وجشعهم وطرق احتيالهم. ولم يسجع المويلحي في هذه القطعة؛ ولكن هذا إنما يأتي شذوذًا، فالأصل في الكتاب كله السجع على طريقة المقامات. وهو

ص: 239

يمضي فيصف المحكمة الشرعية حين وصلها عيسى بن هشام مع صاحبه على هذا النمط:

"ولما وصلنا إلى هذه المحكمة وجدنا ساحتها مزدحمة بالمركبات، تجرها الجياد الصاهلات، وبجانبها الراقصات من البغال والحمير، عليها سُرُج الفضة والحرير، فحسبناها مراكب للعظماء والأمراء، في بعض مواكب الزينة والبهاء، وسألنا: لمن هذي الركاب؟ فقيل لنا: إنها لجماعة الكُتَّاب، فقلنا: سبحان الملك الوهاب، ومن يرزق بغير حساب. ونحونا نَحْوَ الباب، في تلك الرحاب، فوجدنا عليه شبحًا حنتْ ظهرَه السنون، فتخطته رسل المنون، قد اجتمع عليه العمش والصمم، ولَجَّ به الخرف والسقم. وعلمنا أنه حارس بيت القضاء، من نوازل القضاء. ثم صعدنا في السلم فوجدناه مزدحمًا بأناس، مختلفي الأشكال والأجناس، يتسابُّون ويتشاتمون، ويتلاكمون ويتلاطمون، ويُبرقون ويُرعدون، ويتهددون ويتوعدون، وأكثرهم آخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصادمون بالحيطان ويتساقطون على الأرض. وما زلنا نزاحم على الصعود في الدَّرَج، والعمائم تتساقط فوقنا وتتدحرج، حتى منَّ الله علينا بالفرج، ويسر لنا المخرج، في وسط الجمع المتلاصق، والمأزق المتضايق".

وواضح أن هذا الوصف يعتمد إلى حد ما على محاولة الإغراب باللفظ الفصيح والسجع، وكأن المويلحي يحتال للمواقف، حتى يعرض مهارته البيانية على طريقة بديع الزمان والحريري في مقاماتهما، وله في ذلك طرائف كأن يصف روضًا من الرياض أو يصف الأهرام أو يصف الصباح، وفيه يقول:

"جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، من قديم في الزمان وحديث، إلى أن صارت الليلة في أخريات الشباب، واستهانت بالإزار والنقاب، ثم دب المشيب في فودها، وبان أثر الوضح في جلدها، فعبثت بالعقود والقلائد، من الجواهر والفرائد، ونزعت من صدرها كل منثور ومنظوم، من درر الكواكب ولآلئ النجوم، وألقت بالفرقدين من أذنيها، وخلعت خواتيم الثريا من يديها، ثم إنها مزقت جلبابها، وهتكت حجابها. وبرزت للناظرين عجوزًا شمطاء،

ص: 240

ترتعد متوكئة على عصا الجوزاء، وتردِّد آخر أنفاس البقاء، فسترها الفجر بملاءته الزرقاء، ودرجها الصبح في أرديته البيضاء، ثم قبرها في جوف الفضاء، وقامت عليها بنات هديل، نائحة بالتسجيع والترتيل، ثم انقلب المأتم في الحال عرس اجتلاء، وتبدَّل النحيبُ بالغناء، لإشراق عروس النهار، وإسفار مليكة البدور والأقمار".

والمويلحي في مثل هذا الوصف إنما يحاول صنع قطعة أدبية على الطريقة القديمة، التي كان يُعْنَى أصحابها بسرد عبارات مختارة دون تحديد ما يصفون، وكأنه يصف كل صباح لا صباحًا بعينه شاهده وأثَّر في نفسه تأثيرًا خاصًّا، فأفرده بالوصف والتصوير.

غير أن هذه القطع تمتد في حوار طويل بين المنيكلي وعيسى بن هشام أو بين أحدهما وبعض شخصيات القصة أو بين الشخصيات نفسها. ومن الحق أنه وسَّع جنبات المقامة القديمة التي كانت تعتمد على مثل هذا السرد اللفظي في قطعة الصباح، وخرج بها إلى حوار واسع؛ تأثر فيه بطريقة الغربيين في قصصهم. فالحوادث تتطور والشخصيات تصوَّر بنزعاتها النفسية في المواقف المختلفة. ومن حين إلى حين نشاهد ضروبًا من الصراع كما نشاهد ضروبًا من السخرية المستمدة من طباع الشخصيات ومن مفارقات الحوادث ومفاجآتها. وهو في حواره وشخصياته وحوادثها يستمد من الواقع المحلِّي ونُظُم بيئته المصرية، إلا أن ذلك كله وُضع في إطار المقامة الضيق بسجعه.

ومع ذلك استطاع المويلحي أن يكتب في هذا الإطار نحو ثلاثمائة وسبعين صحيفة. وفي الطبعة الرابعة للكتاب أضاف إلى رحلة المنيكلي وعيسى بن هشام في عالم الأحياء المصري رحلة ثانية إلى باريس؛ ليشاهد المنيكلي معالم المدنية في الغرب وليرى بعض معارضها. ويعودان إلى مصر وقد اقتنع المنيكلي بأن المدنية الغربية ليست شرًّا خالصًا، وأنه لا بأس من أن نستمد منها؛ ولكن على أن يوافق ما نستمده تقاليدنا وطباعنا وأمزجتنا وروحنا الشرقية، وبعبارة أدق: على أن نمصِّره على نحو ما مصَّر المويلحي القصة الاجتماعية في حديث عيسى بن هشام.

ص: 241