الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيرجع إلى أنه لم يكن قد بلغ من النضج العقلي ما يمكِّنه من تذوق هذا اللون الجديد من الشعر، وأما ثانيهما فيرجع إلى شكري نفسه؛ لأنه لم يستطع أن يوازن بين جديده وبين الصياغة القديمة كما وازن شعراء النهضة.
ومع ذلك فله -مع العقاد والمازني- فضل هذه المحاولة الجديدة التي أخرجت شعرنا من دوائر التقليد القديمة، وجعلته يطوف في مجالات أرحب وأوسع، من العواطف الإنسانية العامة، والتأمل في الكون والحياة البشرية تأملا فيه شره عقلي شديد إلى التفكير في كل فكر والإحساس بكل إحساس.
7-
عباس محمود العقاد 1889-1964م:
أ- حياته وآثاره:
وُلد عباس محمود العقاد بأسوان في سنة 1889 لأسرة مصرية متوسطة، وقد أخذ يختلف -منذ نشأته الأولى- إلى "الكُتَّاب"، ثم إلى المدرسة الابتدائية، وتخرَّج فيها سنة 1903، وكان يلفت معلميه بذكائه ومواهبه الأدبية.
وكأنه رأى أن يختصر الطريق، فرحل عن بلدته وهو في السادسة عشرة من عمره، ولم يُكمل دراسته في المدارس والمعاهد الرسمية؛ بل أخذ يكلمها بنفسه معتمدًا على ذهنه الخصب، والتحق ببعض الوظائف الحكومية، ثم تركها إلى القاهرة وعمل بالصحافة.
ولا نكاد نمضي في الحلقة الثانية من هذا القرن حتى نجده في المدرسة الإعدادية يعلم بها التلاميذ مع صديقه إبراهيم عبد القادر المازني، وارتبط بهذه الصداقة عبد الرحمن شكري، وبذلك تألف هذا الجيل الذي كان يفهم الشعر على طريقة جديدة في ضوء ما يقرأ من الأدب الإنجليزي؛ بل الآداب الغربية المختلفة.
ويخرج شكري الجزء الثاني من ديوانه سنة 1913، فيقدم له العقاد كما يقدم لديوان
المازني الذي أخرجه في سنة 1914، وتتم لمصر على أيدي هذا الجيل دورة جديدة في شعرها. وقد أخذ المازني والعقاد يكتبان في النموذج الجديد ويهاجمان النموذج القائم عند حافظ وشوقي. وتصدى المازني لحافظ في مجلة عكاظ سنة 1914، وتصدَّى العقاد لشوقي في كتاب "الديوان" سنة 1921.
وأخرج العقاد أول ديوان من دواوينه سنة 1916، وتعاقبت دواوينه حتى بلغت أربعة، وطُبعت في سنة 1928 مجموعة باسم "ديوان العقاد". ولا تضع الحرب الأولى أوزارها حتى نجد المازني والعقاد جميعًا يتركان التعليم إلى الصحافة، ويتعرف العقاد على سعد زغلول، ويصبح كاتب حزب الوفد ولسانه في الجمهور.
وكان يكتب في جريدة البلاغ الوفدية، فنهض فيها بالمقالة السياسية، مقتبسًا كثيرًا من آراء المفكرين والفلاسفة الغربيين، وخاصة في مجال الحرية وحقوق الشعب السياسية. وقاد في هذه المقالة معارك مع كُتَّاب الأحزاب الأخرى مثل هيكل كاتب الأحرار الدستوريين، وهي معارك ارتقت بفن الهجاء العربي القديم، فلم يعد هجاء شخصيًّا؛ بل أصبح هجاء حزبيًّا يستمد من المبادئ العامة ومن فكر راقٍ نشيط.
وفي هذه الفترة -أي: في العشرة الثالثة من هذا القرن- رأى العقاد وهيكل وطه حسين والمازني أن ينقلوا إلى قرائهم مباحث الأدب والنقد الغربية، ويشفعوها بنظرات تحليلية في المفكرين الغربيين. وكان ذلك سببًا في ظهور ملاحق أدبية للصحف اليومية، فأخرج هيكل السياسة الأسبوعية، وأخرج العقاد أو أخرجت جريدة البلاغ الوفدية مجلة البلاغ الأسبوعية، ونتج عن ذلك نهضة أدبية واسعة. وأخذ هؤلاء الكُتاب يجمعون مقالاتهم الممتازة في كتب وينشرونها، فنشر العقاد غير كتاب مثل:"مراجعات في الآداب والفنون" و"مطالعات في الكتب والحياة" و"الفصول"، وهي تصور هذا الجهد العقلي الخصب الذي اضطلع به في حياتنا الأدبية، فقد نقل إلينا كثيرًا من الأفكار الأوربية التي لم تكن تعرفها العربية، وسلَّط عليها من شخصيته ما طبعها بطابعه الخاص.
وفي أثناء حكم صدقي "1930-1934" دخلت مصر في ظلال عهد استبدادي أُلغي فيه الدستور والحياة النيابية، فثارت ثائرة كُتاب الأحزاب وعلى رأسهم العقاد، فكتب كتابه "الحكم المطلق في القرن العشرين" وهو أغنية بارعة في الديمقراطية وصلاحيتها للأم الشرقية. وتناول في بعض مقالاته الملك الطاغية فؤادًا، وقُدِّم بسببها إلى المحاكمة، وحُكم عليه بالسجن تسعة أشهر. وقد وصف حياته في السجن بكتابه "عالم السجون والقيود". وبعد خروجه من السجن نشر ديوانه "وحي الأربعين"، كما نشر بحثًا له في "شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي"، ونشر أيضًا بحثًا في ابن الرومي كما نشر قصته "سارة" وديوانه "هدية الكروان"، غير مقالاته المختلفة في المقتطف والهلال.
وتوالت الأحداث فانشق النقراشي وأحمد ماهر على حزب الوفد، فانضم إليهما، وظل يكتب في جريدة الأساس حتى امتنعت عن الظهور. وعُين عضوًا في مجلس الشيوخ وفي مجمع اللغة العربية. ووالى نشاطه فأخرج دواوينه:"عابر سبيل" و"أعاصير مغرب" و"بعد الأعاصير".
واتجه إلى كتابة التراجم والسير، فكتب في "محمد" و"المسيح" عليهما السلام، وفي أبي بكر الصديق وعمر وعلي، كما كتب في مجالات كثيرة، فتارة يكتب عن الفلاسفة الغربيين والفلاسفة الإسلاميين، وتارة يكتب في موضوعات عامة مثل "عقائد المفكرين في القرن العشرين". ومن طريف كتبه "الله" وله أيضًا "إبليس" و"أبو نواس". وبلغ ما كتبه نحو ستين مؤلفًا كلها تمتاز بحيوية التفكير.
وعباس العقاد بدون ريب عَلَمٌ من أعلام نثرنا الحديث، وقد ظفر نثرنا عنده ببراعة فائقة على أداء المعاني في لفظ جزل رصين، فيه قوة ومتانة، وفيه دقة تشعرك بسيطرة صاحبها على المادة اللغوية، فهو يعرف كيف يصوغ كلمه، وكيف يلائم بينها ملاءمة، يجد فيها قارئوه اللذة والمتعة.
والعقاد يمتاز بهذا الأسلوب الرصين منذ أخذ يكتب مقالاته في أوائل هذا القرن، وهو أسلوب يدل على ما وراءه من ثقافة عميقة بآدابنا العربية، استطاع
أن يشتق لنفسه خلال التعمق فيها صياغته البديعة، التي لا ينبو فيها لفظ؛ بل تجري الألفاظ في نسق محكم مطرد.
ولم يتمثل الآداب العربية وحدها، فقد تمثل أيضًا الآداب الغربية تمثلًا دقيقًا، نفذ من خلاله إلى ثراء عريض في معانيه، وهو ثراء لا يستمد فيه من الغرب فحسب؛ بل يطبعه بملكاته، فإذا هو له وإذا هو من صنعه، صنع عقله المشتعل الذي يستقل -رغم محصوله الواسع من الثقافات- بتفكيره وإلحاحه في هذا التفكير إلحاحًا يستحدث في تضاعيفه كثيرًا من الخواطر والآراء.
واقرأه في كل ما يكتب فيه من سياسة وأدب وفلسفة ونقد واجتماع وتحليل للشخصيات فسيروعك عقله الخصب، الذي لا يزال يلح على الفكرة بتوليداته واستنباطاته؛ حتى تتحول من بذرة صغيرة محدودة إلى شجرة باسقة الظلال. وحقًّا قد نجد عنده أحيانًا ضربًا من الصعوبة؛ ولكنها ليست الصعوبة التي تنشأ من الغموض في أفكاره، وإنما الصعوبة التي تنشأ من العمق فيها، فإذا تعمقت معه أصبت لذة لعقلك وشعورك معًا.
فنثره في بعض جوانبه يحتاج منك إلى التمهل والروية، وهما لا يضيعان عبثًا؛ بل تجد فيهما متعة حقًّا، وهي متعة لا تأتي فقط من طرافة تفكيره وعمقه البعيد؛ وإنما تأتي أيضًا مما يشفع به كتاباته من منطق حاد، يأخذ بزمام قارئه، فلا يستطيع منه إفلاتًا؛ بل يذعن ويخضع لأدلته الصارمة. ومن ثم كان إذا ناضل في أي رأي سرعان ما ينتصر؛ بفضل براهينه وأسلحته المنطقية وملاءمته بين هذه البراهين والأسلحة ملاءمة دقيقة إلى أبعد حدود الدقة.
ومن أهم ما يميزه مواقفه الثابتة في الحياة وفي الآراء الأدبية، فهو يقف دائمًا عند رأيه ويثبت ثباتًا، كأنه حصن من حصونه، يعيش فيه، ويعيش له، ويذود عنه ذياد العربي الأصيل عن عِرْضِه. ويروعك عنده دائمًا أنه يؤمن بوطنه وعروبته، وأنه يشعر في أعماقه بأنه يستمد حياته من حياة أمته، فهي دائمًا نصب عينه لا تغيب؛ بل هي دائمًا النبع الروحي لأحاسيسه ومشاعره، بكل ما تموج به من أحداث سياسية وكل ما تُزْهى به من أمجاد ماضية. وقد نال في سنة 1960 جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهًا بأعماله الأدبية.
ب- شعره:
يتضح مما قدمنا من حياة العقاد أن عناصر كثيرة تُسهم في تكوين شعره وشخصيته الأدبية، فهو مصري، يستشعر أمجاد المصريين في ضميره وقلبه، وهو عربي، وقد توفر على قراءة الأمهات العربية في النثر والشعر والفلسفة والتصوف، وهو غربي التفكير، تزوَّد من آداب الغرب بكل ما استطاع من غذاء عقلي، فهو مع إيغاله في قراءة الأدب الإنجليزي يتوغل في قراءة الآداب الغربية المختلفة عن طريق اللغة الإنجليزية التي يتقنها، كما يتوغل في قراءة الآثار النقدية.
وعرفنا أنه لم يكمل دراسته العالية؛ ولكنه عوضها بأستاذ صارم من نفسه، دفعه إلى تعهد عقله بالقراءة والتثقيف وشحذ مواهبه بالإدمان الطويل على النظر في آثار الشعراء المختلفين. ونراه في مطالع شبابه يقود مع شكري والمازني معارك التجديد في شعرنا. ومن الغريب أنهما خرجا من الميدان مع الحرب العالمية الأولى، أما هو فثبت فيه إلى اليوم، وكأنه يقوم عنده على دعائم ثابتة، وليست هذه الدعائم إلا روحه القوية التي تؤمن دائمًا بمثل أعلى، ثم تسعى إلى تحقيقه في جهاد متواصل لا يعرف التواني ولا الفتور.
ونحن نلقاه في ديوانه الأول المؤلف من أربعة أجزاء كما نلقاه في ديوانه الأخير "بعد الأعاصير" بنفس الشخصية. ومن يطلع على ديوانه الأول يستطيع أن يلاحظ فيه قصيدة نونية نظمها على نمط قصيدة لابن الرومي وأخرى نظمها خمرية على نمط ابن الفارض؛ ولكن النمط الأول هو الذي كان يتفق مع روح جماعته الأدبية المتشائمة. ولعل ذلك ما جعله يخص ابن الرومي بكتاب، فقد شُغف به منذ فجر حياته الشعرية؛ لأنه وجد عنده نفس الأنغام التي كانت تعجب بها مدرسته، أنغام الحزن والشكوى من الدهر والناس.
وليس معنى ذلك أن العقاد كان يُعْنَى بمعارضة ابن الرومي والصب في قوالبه
على مثال ما عُنِيَ شوقي بمعارضة البحتري مثلًا. فالعقاد يستقل في شعره وقوالبه عن ابن الرومي وغيره على نحو ما يستقل خليل مطران عن شعراء العرب، فهو مثله يستوعب الصياغة القديمة؛ ولكنه لا يفنى فيها ولا يتحول إلى قوالبها يصب فيها أو يسكب ما في نفسه، فحسبه أن يتمثلها، ثم تصبح ملكًا له يستخدمها كما تشاء ملكته الفنية دون أن يظهر عنده اتباع أو تقليد واضح إلا في القليل النادر.
وهو من هذه الناحية يُعْنَى بأسلوبه عناية واسعة، وهي عناية تقوم على الجزالة والمتانة واستخدام اللفظ الفصيح؛ بل لا بأس أحيانًا من استخدام اللفظ الغريب، ولعل ذلك ما جعله يكثر في هوامش ديوانه الأول من شرح الكلمات؛ ولكنها غرابة في حدود ضيقة؛ إذ يغلب على أساليبه الوضوح، كما تغلب عليها المرونة. ويدخل في هذا الاتجاه محافظته على الأوزان العروضية القديمة، فهو ليس ممن يرون التجديد في الأوزان ولا ممن ينزعون إلى استخدام الموشحات الأندلسية وإن كان يستخدم الشعر الدوري كثيرًا؛ لكنه على كل حال شكل قديم. وكأنما كان يرى التجديد في المعاني دون الألفاظ والعروض، وهذا ما يجعل لشعره الجديد إطاره المستقل، وهو إطار لا يخرج على الأوضاع القديمة؛ بل يستغلها ويوسع في جنباتها لتحتمل تجربته الحديثة.
ومن غير شك هو من هذا الجانب يختلف عن شكري الذي حاول التحلل أحيانًا من القوافي القديمة، كما حاول التحلل أحيانًا من اللغة الجزلة الفصيحة. وهو يختلف عنه من ناحية ثانية، فإنه لا يبلغ مبلغه من البؤس والتشاؤم والحزن العميق؛ بل تتألق أمام عينيه في ظلمات يأسه الآمال، فهو حزين، ولكنه طامح، وهو طموح ينتهي عنده إلى تمرد على الحياة، وسخرية مرة بها وبالناس، بل هو طموح ينتهي عنده في كثير من الأحوال إلى فرح بالحياة وما فيها من متع ونعيم.
ومن أهم ما يميزه استيعابه للفكر الغربي، وهو يعلنه منذ ديوانه الأول ولا يخفيه، فقصيدته الرابعة فيه معربة عن شكسبير وعنوانها "فينوس على جثة أدونيس"، ونمضي في الديوان فنجده يترجم له قطعة من مسرحية "روميو وجولييت"، كما نجده يترجم قطعة عن الشاعر الإنجليزي كوبر بعنوان "الوردة"، ويترجم عن بوب قطعة بعنوان "القدر".
وهذه القطع المترجمة ليست أكثر من رموز إلى ثقافته بالآداب الغربية، وهي ثقافة تتعمقه، ومع ذلك استطاع أن يتحرر منها كما تحرر من ثقافته العربية؛ ليجد نفسه وشخصيته وروحه المصرية الجديدة. وهي روح تبرز عنده -كما يمثلها ديوانه- في اتجاهين، أما أولهما فالوقوف بآثار الفراعنة وإشادته بحضارتنا القديمة، ومن خير ما يصور ذلك قصيدتاه "أنس الوجود" و"تمثال رمسيس". وأما ثانيهما فوصف عواطفنا السياسية والوطنية، وأروع ما يصور ذلك قصيدته "يوم المعاد" التي نظمها بعد رجوع سعد زغلول من منفاه، وفيها يقول:
ما يبتغ الشعب لا يدفعه مقتدر
…
من الطغاة ولا يمنعه مغتصب
فاطلب نصيبك شعب النيل واسم له
…
وانظر بعينيك ماذا يفعل الدأب
ما بين أن تطلبوا المجد المعد لكم
…
وأن تنالوه إلا العزم والطلب
وهو في الاتجاهين جميعًا يختلف عن زميله شكري الذي لم يكن يُعْنَى بالتغني بأمجادنا القديمة وعواطفنا الوطنية إلا نادرًا؛ إنما كان يُعْنَى قبل كل شيء بنفسه وخواطره الذاتية.
ومما يمتاز به العقاد أيضًا في ديوانه الأول أن الوَحْدَة العضوية للقصيدة تتكامل عنده، فلم تعد أنغامها تتبدد بين موضوعات مختلفة؛ بل أحكم التآلف بينها؛ بحيث أصبح للبيت في القصيدة مكانه الذي لا يعدوه، فهو جزء من كل، أو هو عضو من جسد واحد، ومن الصعب أن ينقل إلى غير مكانه أو ينزع من موضعه.
وليس هذا وحده ما يمتاز به العقاد في تجربة المدرسة الجديدة، فقد نَمَّى بناء القصيدة العام تسعفه في ذلك ثقافته الواسعة بالآداب الغربية، ولسنا نقصد البناء اللفظي؛ وإنما نقصد البناء المعنوي، وما يزخر به شعره من تأملات وتوليدات عقلية يرسلها على كل ما حوله خاضعًا للمنطق خضوعًا شديدًا.
وأهم الموضوعات التي تستنفد شعره في ديوانه الأول بأجزائه الأربعة الحب
والطبيعة، أما الحب فنراه يعبر فيه تعبيرًا دقيقًا عن المشاعر والإحساسات الدفينة، ومن خير قصائده فيه "نفثة" التي يستهلها بقوله:
ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا
…
عذب المدام ولا الأنداء ترويني
وقصيدته التي نظمها في قطعتين بعنوانين متواليين "مولد الحب، وموت الحب"، وفيها قارن بين مولد الحب ونهايته السريعة مقارنة طريفة.
وتحتل الطبيعة الصامتة والمتحركة حيزًا واسعًا في الديوان، وقد خص النيل بقصائد كثيرة لعل أهمها "على النيل". ووقف كثيرًا عند الليل، وله قصيدة بديعة في الصحراء وقصائد مختلفة في البحر، ويحرك القمر ببهائه فيه كثيرًا من العواطف الحية. ونراه يولع بتصوير فصول السنة، كما يولع بعالم الزهور وخاصة بالوردة. ويقف طويلًا أمام عالم الطير تملؤه الرحمة كما يملؤه العطف والشفقة. وهو في كل ذلك يحلق بأفكاره في مدى بعيد من الحس والشعور والتأمل العقلي الواسع. ولا يخلو شعره من الفكاهة على نحو ما في قصيدته "ثقيل" كما لا يخلو من الأفكار الفلسفية الدقيقة على نحو ما نرى في قصيدتيه "الدنيا الميتة" و"الموسيقى".
وهذه الأنغام التي نستقبلها من ديوانه الأول المكوَّن من أربعة أجزاء هي نفس الأنغام التي نستقبلها بعد ذلك في دواوينه التي أخرجها من بعده، أو هي على الأقل أغلب تلك الأنغام. فقد أخرج ديوانًا سماه "وحي الأربعين"، وأكثره تأملات في الحياة وخواطر في الحب والطبيعة. وتلاه بديوان سماه "هدية الكروان"، نظم فيه كثيرًا من القصائد في هذا الطائر المصري الذي يملأ ليالي الوادي بأناشيده العذبة وترتيلاته الشجية، وأمُّ هذه القصائد قصيدته:
هل يسمعون سوى صدى الكرْوان
…
صوتًا يُرفرف في الهزيع الثاني
وهي من قصائد ديوانه الأول، جعلها فاتحة قصائده في هذا الديوان والنبع الذي يستمد منه أنغامه وألحانه فيه. ولا نشك في أنه يستلهم في هذه القصيدة
وذلك الديوان قصيدة شللي الشاعر الإنجليزي "إلى قبرة"، وهي من روائع هذا الشاعر وبدائعه، وفيها يشبه القبرة بالفرح المجرد. وليس معنى ذلك أن العقاد يقتبس من شللي أو ينقل، فهو يلهمه ويوحي إليه، أما بعد ذلك فمعانيه في قصائده له. وقد نحس نفس الإحساس إزاء كثير من قصائده بدواوينه المختلفة في الطبيعة والحب، ففيها جميعًا أثر قراءاته في الآداب الغربية؛ ولكنها مطبوعة بشخصيته، وتستمد من أفكاره وأحاسيسه ما يجعلها مصرية عربية صميمة.
ورأى في الغرب منزعًا نما بعد الحرب العالمية الأولى؛ إذ انصرف بعض الشعراء عن الحب والطبيعة والميثولوجيا القديمة إلى حياتهم الحاضرة، وحولوا كل ما فيها مما يُعد يوميًّا عاديًّا أو تافهًا إلى شعر لا يقل عن شعر الحب والطبيعة جمالًا وجلالًا. وفي داخل هذا الاتجاه أصدر ديوانه "عابر سبيل"، وفيه نراه يأخذ بعض الموضوعات اليومية ويفيض عليها من تأملاته العقلية والنفسية، على نحو ما نرى في قصيدته "كواء الثياب ليلة الأحد"، وهو يستهلها بقوله:
لا تنم لا تنم
…
إنهم ساهرون
ومن قصائده في هذا اللون الجديد التي تؤثر في قارئها حقًّا قصيدة "صورة الحي في الأذن" و"نداء الباعة قبل انصرافهم في الساعة الثامنة". ونجد بجانب هذه القصائد متفرقات لعل أروعها قصيدته التي حيَّا فيها "دار العمال" ونعى ظلم الأغنياء لهم، بينما ينعمون بعرق جبينهم وجهد أيديهم.
وأخرج في الحرب العالمية الثانية ديوانه "أعاصير مغرب"، وسماه هذا الاسم إشارة إلى ظهوره وعالم الدنيا مضطرب بأعاصير الحرب وعالم نفسه مضطرب بأعاصير مختلفة من حب وغير حب. وهو موزع فيه بين العالَمين، وفيه كثير من الرثاء وشعر المناسبات، ولعل أروع قصائده فيه قصيدته في المذياع أو كما سماه "صَدَّاح الأثير"، وهو يفتتحها بقوله:
ملأ الآفاق صداح الأثير
…
لا فضاء اليوم بل صوت ونور
وآخر دواوينه "بعد الأعاصير"، وأكثره مراثٍ ومناسبات، وضمنه مرثية ومقالة بديعة في صديقه المازني.