المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م: - الأدب العربي المعاصر في مصر

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌فهرس الموضوعات:

- ‌الفصل الأول: مؤثرات عامة:

- ‌ أحداث كبرى:

- ‌ تياران: عربي وغربي:

- ‌ المطبعة والصحف:

- ‌ الشعر وتطوره:

- ‌ استمرار التقليد:

- ‌ نهضة وإحياء:

- ‌الفصل الثالث: أَعْلام الشعر:

- ‌ محمود سامي البارودي 1838-1904م:

- ‌ إسماعيل صبري 1854-1923م:

- ‌ حافظ إبراهيم 1870-1932م:

- ‌ شوقي 1869-1932م:

- ‌ خليل مطران 1872-1949م:

- ‌ عبد الرحمن شكري 1886-1958م:

- ‌ عباس محمود العقاد 1889-1964م:

- ‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

- ‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

- ‌ علي محمود طه 1902-1949م:

- ‌الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه:

- ‌ تقيد بأغلال السجع والبديع:

- ‌ حركة تحرر وانطلاق:

- ‌ بين الجديد والقديم:

- ‌ تجديد شامل:

- ‌ فنون مستحدثة:

- ‌المسرحية:

- ‌الفصل الخامس: أعلام النثر:

- ‌ محمد عبده 1849-1905م:

- ‌ مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م:

- ‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

- ‌ مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:

- ‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

- ‌ إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م:

- ‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

- ‌ طه حسين 1889-1973م:

- ‌ توفيق الحكيم:

- ‌ محمود تيمور 1894-1973م:

الفصل: ‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

9-

‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

أ- حياته:

في "شَبْرَا" أحد أحياء القاهرة وُلد إبراهيم ناجي سنة 1898 لأسرة مصرية مثقفة، وأخذ يختلف -مثل أقرانه- إلى الكُتَّاب، ثم المدرسة الابتدائية، فالمدرسة الثانوية. ووجد في أبيه الذي كان ينزع إلى قراءة الآثار الأدبية في العربية والإنجليزية موجِّهًا ممتازًا، فقد كانت له مكتبة حافلة بالكتب القيمة في اللغتين، وكان يعرض عليه طرائفهما، ويقرأ معه في كتبهما، فكان يقرأ معه في دواوين الشريف الرضي وشوقي وخليل مطران وحافظ إبراهيم، وكان يقرأ معه آثار الكاتب الإنجليزي ديكنز، ويشرح له ما يغمض عليه من قصصه وأساليبه.

وكان أهم شاعر أُعجب به ناجي في نشأته خليل مطران، وقد تعرف عليه مبكرًا، وكان لذلك أثره في شعره وشاعريته. ولما أتم دراسته الثانوية التحق بكلية الطب، وتخرج فيها سنة 1923 وهو يحذق الإنجليزية. وتعلم الفرنسية وأخذ يقرأ في بعض آثارها الأدبية، وعُين طبيبًا بوزارات مختلفة، وكان آخر منصب تولاه إدارة القسم الطبي بوزارة الأوقاف. وحياته من هذه الجهة كانت حياة هادئة، ليس فيها ما يعكر الصفاء غير أنه كان منهومًا بمتاع الحياة، فعاش مضطربًا قلقًا، لا يستقر على حال.

وفتحت له معرفته باللغتين الإنجليزية والفرنسية نافذتين كبيرتين، وكان شغوفًا بالقراءة، فعبَّ ونهل ما شاء من الآداب الغربية، وخاصة آداب الرومانسيين الذين كانوا يتفقون وهواه وأحلامه بالحب والحياة. ووسَّع قراءته، فشملت آداب الرمزيين ومن خلفوهم في القرن العشرين من الشعراء، كما شملت علم النفس ونظرياته الحديثة.

ص: 154

ولما أسس الدكتور أحمد زكي أبو شادي جماعة أبولو سنة 1932 اختاره وكيلًا لها، ونهض معه بإخراج مجلة أبولو المعروفة، فكان ينشر فيها أشعاره كما كان ينشر أبحاثه في بعض أدباء الإنجليز، ونقل قصيدة شللي "أغنية الريح الغربية" في شعر عربي مرسل.

وفي سنة 1934 نشر ديوانه "وراء الغمام"، ووالَى من هذا التاريخ أبحاثه في الشعر الغربي الحديث، وكان كثيرًا ما يحاضر في نزعاته الأخيرة بهذا القرن، وكان يعجب أشد الإعجاب بالشاعر الإنجليزي لورانس "د. هـ"، كما كان يعجب بالشاعر الفرنسي بودلير، وطبعت له بعد وفاته دراسة عن هذا الشاعر مصحوبة بترجمة طائفة من قصائده المبثوثة في ديوانه "أزهار الشر". وأسهم مع إسماعيل أدهم في كتاب "توفيق الحكيم الفنان الحائر". وشارك في النهوض بمسرحنا، فترجم للفرقة القومية مسرحية "الجريمة والعقاب" لديستويفسكي، كما ترجم لها المسرحية الإيطالية "الموت في أجازة". وفي سنة 1944 نشر ديوانه الثاني "ليالي القاهرة". وفي أثناء ذلك كان يكتب كثيرًا في علم النفس، وله فيه رسالة بعنوان "كيف تفهم الناس"، وأيضًا له كتاب بعنوان "رسالة الحياة"، ضمنه طائفة من خواطره في الأدب والنفس والعقل والحضارة والنقد والشباب. وترك مخطوطات كثيرة لآثار مترجمة عن شكسبير وغيره، وحاول كتابة القصة بأخرَة.

وكان كثير الاتصال بالناس، مشرق الروح، أنيس المجلس، تحس وأنت تجلس معه كأنه عصفور فزع، فهو كثير التلفت، لا يهدأ له قرار، ولكنه يملأ الجو من حوله مرحًا بفكاهته الخفيفة وعذوبة روحه القلقة. وأنشأ رابطة الأدباء في سنة 1946، ولما أنشئت جميعة أدباء العروبة اختير وكيلًا لها. وما زال يشدو بصوته الشجي في الجمعيات والمجالس وعلى واجهات الصحف حتى لبَّى داعي ربه في مارس سنة 1953. وقد نشرت له دار المعارف بعد وفاته ديوانه الثالث "الطائر الجريح".

ص: 155

ب- شعره:

رأينا ناجيًا يبدأ حياته الأدبية بالتزود من شعر جماعة النهضة، وكان يعجب منهم خاصة بخليل مطران، ويظهر أنه أصيب به في شكل حمى، حتى قيل: إنه كان يحفظ أكثر شعره. وكان أهم ما يعجبه عنده شعره الوجداني، والتفت من ذلك إلى المعين الغربي الذي ينهل منه مطران، فأقبل على أصحاب المنزع الرومانسي يقرأ في شعرهم وآثارهم وتحمس لهم كما تحمس لأستاذه؛ إذ أعجب إعجابًا شديدًا بمنجهم الذاتي الذي يقوم على تصوير خلجات النفس إزاء الحب والطبيعة دون العناية بحياة المدينة أو حياة الناس من حولهم. فهم شعراء فرديون، يؤمن كل منهم بنفسه ويصدر عنها في شعره، فالفرد هو كل شيء، وشعره إنما هو تجارب نفسية خاصة به، يصور فيها حبه ومشاعره وخواطره الوجدانية دون أن يحسب للمجتمع أي حساب، فهو ليس تعبير المجتمع؛ وإنما هو تعبير النفس.

وكان خليل مطران يوازن بين التعبير عن النفس والتعبير عن المجتمع، فكان ينظم في الأحداث السياسية رامزًا وغير رامز، وكان ينظم في أحداثه الوجدانية، وكثيرًا ما كان يتخلى عن نفسه وعن المجتمع لينظم في التاريخ. أما ناجي فقد أسلم زمام شعره لنفسه ولحمى الرومانسيين، وسرعان ما ظهر على شعره "طفح" هذه الحمى.

وأخرج في هذا التعبير أو هذا الاتجاه أول دواوينه "وراء الغمام"، وفيه قصيدتان مترجمتان هما: التذكار لألفريد دي موسيه، والبحيرة للامرتين. وكأنه يضع في يدنا مفتاح النغم الذي ينصب في ديوانه، فالشاعران من زعماء الرومانسية في فرنسا وشعرهما يفيض بالحب اليائس الحزين، وخاصة دي موسيه الذي لازمه في مغامراته سوء الطالع، والذي يصور في شعره نفسًا مضطربة قلقة، وكأنه يشرب الحياة من كوب ماء مرير.

ص: 156

وعلى هذا النسق فهم ناجي الشعر، فلم يصور عواطف الناس السياسية والوطنية من حوله؛ بل انصرف إلى نفسه يتغنى بحب شقي عاثر، وهو غناء كله ألم وشجن وارتياب وقلق وهم، غناء عاشق، يخفق دائمًا في حبه، ولا يجد في نفسه ولا في يده منه إلا الذكرى الممضة المحرقة، ومن خير ما يصور ذلك قصيدتاه:"الناي المحترق" و"العودة"، وفيها يتغنى بذكرياته الحزينة لمعاهد شبابه، وما كان له فيها من حب ذبل قبل أوانه، على مثل ما نرى في قوله:

رفرف القلب بجنبي كالذبيح

وأنا أهتف يا قلب اتئد

فيجيب الدمع والماضي الجريح

لِمَ عدنا؟ ليت أنا لم نعد

لم عدنا؟ أولم نطو الغرام

وفرغنا من حنين وألم

ورضينا بسكون وسلام

وانهينا لفراغ كالعدم

موطن الحسن ثوى فيه السأم

وسرت أنفاسه في جَوِّه

وأناخ الليل فيه وجثم

وجرت أشباحه في بهوه

والبِلى أبصرته رأى العيان

ويداه تنسجان العنكبوت

صحت: يا ويحك تبدو في مكان

كل شيء فيه حي لا يموت

كل شيء من سرور وحزن

والليالي من بهيج وشَجِي

وأنا أسمع أقدام الزمن

وخُطى الوحدة فوق الدَّرَج

وهذا النغم الذي يزخر بالألم نجده في كل صفحة من صفحات "وراء الغمام"، فليس فيه تفاؤل وليس فيه فرح بحاضر ولا مستقبل؛ إذ لا يبدو في ظلام حياته خيط من الأمل؛ بل هو دائمًا غارق في لجج من الشقاء والحرمان. وقد يقف بالطبيعة كما في قصيدته "خواطر الغروب"؛ ولكنه لا يقف بها منفصلة عما في نفسه؛ بل يستغلها لتصوير ما يعتلج في قلبه من مشاعر الأسى والحزن؛ كقوله في القصيدة:

ما تقول الأمواج؟ ما آلم الشمـ

ـس فولت حزينة صفراء

تركتنا وخلفَتْ ليل شك

أبديٍّ والظلمة الخرساء

ص: 157

ويخص "الشك" بقصيدة يبكي فيها قرب حبيبه. فهو يبكي نعيمه كما يبكي شقاءه، إن حياته كلها أنات ودموع، وهو دائمًا يبث عطفه على المرأة، فهي عنده مخلوق نبيل طاهر، وتمثل ذلك أوضح تمثيل قصيدته "قلب راقصة"، وفيها يقص تجربة واقعية له، وكيف أنه دخل أحد المراقص فرأى راقصة يهفو لها قلب الناظرين، وهي ترقص رقصة الذبيح من الألم، والجمهور من حولها يتهلل فرحًا وبشرًا، وما يزال بها حتى يجعلها طاهرة النفس، فقد صهرتها وصفَّتها ناران: نار الصبر ونار الألم:

تمضي وتجهل كيف أكبرها

إذ تختفي في حالك الظُّلَمِ

روحًا إذا أثمت يطهِّرها

ناران نار الصبر والألم

وكل هذا شعر ورمانسي خالص، وهو شعر -كما في هذه القصيدة- يصور تجربة حقيقية، ولناجي السبق في هذا الباب؛ إذ أخرج جوانب من شعرنا من الباب القديم باب الرؤية والخيال إلى باب الحقيقة والتجربة الواقعة. ويتسع هذا الجانب عنده في ديوانه الثاني "ليالي القاهرة" وهو اسم استعاره من "ليالي دي موسيه" المشهورة في الأدب الرومانسي الفرنسي، والتي يصور فيها صاحبها ما ألَمَّ به من آلام الحب، تلك الآلام التي انبعثت من قلبه، وتحولت قصائد رائعة تصور الحب واليأس منه والحسرة والفراغ.

ويبدأ ديوان "ليالي القاهرة" بسبع قصائد تحت هذا العنوان تصور ظلام القاهرة في الحرب العالمية الثانية وما حدث للشاعر فيها من تجارب حب. ونراه يقول في إحداها وقد سماها "لقاء في الليل":

يا لحظة ما كان أسعدها

وهناءة ما كان أعظمها

مر الغريب فباعدتْ يدها

وخلا الطريق فقرَّبت فمها

وهو يصور هنا ما يكون بين العاشقين من عناق الأيدي، وما يعتريهم من الخوف والقلق أن يراهم الناس، وهم لذلك يهابونهم. ولا تظن أنه يجد في هذا المتاع وما يماثله ما يداوي قلقه المستحوذ على كيانه أو ما يحقق

ص: 158

له السعادة المنشودة، فهمومه لا تزال تصيح في قلبه، وقد رسم خطوطها في لوحتين أو قصيدتين كبيرتين هما:"الأطلال" و"السراب". والأطلال قصة حب عاثر لعاشقين تحابَّا، وتقوض حبهما، فأصبح العاشق أطلال روح وأصبحت عشيقته أطلال جسد، ويصور ناجي وقائع هذا الحب كما حدثت على نحو ما نرى في قوله على لسان العاشق:

يا غرامًا كان مني في دمي

قدرًا كالموت أو في طعمه

ما قضينا ساعة في عُرْسه

وقضينا العمر في مأتمه

ما انتزاعي دمعة من عينه

واغتصابي بسمة من فمه

ليت شعري أين منه مهربي

أين يمضي هارب من دمه

أما قصيدة السراب، فهي قصيدة الهزيمة في الحب، وهي هزيمة لا حدود لها؛ إذ تشمل كل عَلاقاته الاجتماعية من مودة وصداقة. وهو يستغل عناصر الطبيعة في هذه القصيدة لتصور أحزانه ومتاعسه من مثل قوله فيها:

عندي سماء شتاء غير ممطرة

سوداء في جنبات النفس جرداء

خرساء آونة هوجاء آونة

وليس تخدع ظني وهي خرساء

وكيف تخدعني البيداء غافية

وللسوافي على البيداء إغفاء

أأنتِ ناديتِ أم صوت يخيل لي

فلي إليك بأذن الوهم إصغاء

ومن قصائده الطريفة في هذا الديوان قصيدته "رسائل محترقة"، وهو فيها يعاني من حب أخفق فيه، ويشتد به العناء والانفعال، فيهجم على رسائل صاحبته، ويحرقها منشدًا:

أحرقتُها ورميتُ قلـ

ـبي في صميم ضرامها

وبكى الرماد الآدمـ

ـي على رماد غرامها

وعلى هذا النحو نمضي في قراءة هذا الديوان، فلا نجد إلا الأنات والصيحات، وهي أنات وصيحات تقترن بإحساس الانعزال في الحياة، وأن الشاعر غريب

ص: 159

في دنياه.

وكنا نود لولم يسلك في هذا الديوان كثيرًا من أشعار المناسبات التي اضطرته إليها المجاملات، حتى يكون كامل التعبير عن هذه الشخصية الفذة التي يصرخ الألم والحزن في أعماقها. ولعل من الغريب أن نجد عنده أحيانًا دعابات مثل قطعته "هجو شاعر"، وهي أيضًا من باب المناسبات، ولا تتصل بالنغم الأساسي للديوان.

ونمضي في ديوانه الثالث "الطائر الجريح" الذي نُشر بعد وفاته، فنجده كديوانيه السابقين يتأوه الطعين، ولا مسعف ولا معين؛ إذ لم يعد له من حبه سوى الألم العميق، وهو يتفجر على لسانه شعرًا حارًّا ملتهبًا، شعرًا يصيح فيه كطائر جريح حقًّا، وقد تغلغلت جراحه إلى الشغاف، وكل ما حوله ينذر بالحزن والهم، يقول في قصيدته "قصة حب":

يا للمقادير الجسام ولي

من ظلمها صرخات مجنون

باكي الفؤاد مشرَّد الأمل

وقف الزمان وبابه دوني

لقد سُدَّت أمامه جميع أبواب الأمل في استعادة حبه، ولم يبقَ له منه إلا صرخات وإلا ذكريات كأنها حديث خرافة، أو كأنها أضغاث أحلام، يقول في "بقية القصة":

حلم كما لمع الشهاب توارى

سدلت عليه يد الزمان ستارا

وحبيس شجو في دمي أطقلته

متدفقًا ودعوته أشعارا

فقد ولَّى حبه أو حلمه، ولم يعد له منه إلا أشباح الهجر وأطياف الحرمان تمر به مواكبها صاخبة، وقد مدت من حوله قضبان سجن مظلم يشكو فيه غربته ووَحْدَته وحبه الشقي التعس، واقرأ قصائده:"بقايا حلم" و"في ظلال الصمت" و"ظلام" و"الطائر الجريح" فستراه يصور لك لوعته في هذا الحب؛ بل احتراقه في لهيبه كفراشة، يقول في القصيدة الأخيرة:

ص: 160