الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحاضرة وتستوحي بيئاتها المختلفة. وهي في الوقت نفسه تدرس الآداب الأوربية دراسة عميقة، ولا تكتفي بدراستها؛ بل تحاول عرضها عرضًا حسنًا في العربية وتنقدها وتحللها تحليلًا واسعًا، كما تستوحيها وتستلهمها فيما تكتب وتُخْرج للناس.
ونحن مهما صورنا من جهود من قاموا على هذه الحركة لن تبلغ من هذا التصوير كل ما نريد؛ لأن عملهم كان واسعًا إلى أبعد الحدود، ويكفي أنهم مرَّنوا لغتنا المصرية الحديثة على التعبير عن أغراضنا وحياتنا في سهولة وبساطة، وجعلوا لها شخصية متميزة؛ بحيث نستطيع أن نقول في غير مغالاة: إنه أصبح لنا أدب مصري، نبت في وطن مصري، على أيدي طائفة من المصريين.
4-
تجديد شامل:
لم تعد مقاييسنا في النقد هي المقاييس القديمة، فقد تطورت حياتنا الأدبية تطورًا واسعًا بفضل هذه الجماعة المجددة التي أتقنت الآداب العربية والأجنبية، واشتقت لنفسها مُثلًا أدبية جديدة تلائم ذوقنا المصري وحياتنا الحديثة التي كادت أن تتغير تغيرًا تامًّا، فلم نعد نعيش كما كان يعيش أسلافنا لا في حياتنا المادية ولا في حياتنا السياسية والعقلية.
فقد أخذنا نرفع بقوة الحواجز التي كانت تفصلنا عن الغرب وحضارته، ولم نقف عند جوانب هذه الحضارة المعنوية؛ بل أخذنا نُقْبل قليلًا أو كثيرًا على جوانبها المادية، كلٌّ حسب قدرته وسَعَة يده. ولا نبالغ إذا قلنا: إنه لم يعد بين كثيرين من المصريين وبين الأوربيين؛ أي: فارق في المثل الأعلى للحياة المادية، فهم يعيشون على الطريقة الأوربية وما يشيع فيها من مرافق الحياة وأدوات زينتها ومظاهرها المختلفة. وطبعًا يصيب أهل المدن من ذلك أكثر مما يصيب أهل الريف؛ ولكن حتى هؤلاء يفيدون من تطور المواصلات ووسائلها الأوربية
من القطارات والسيارات. ومعنى ذلك: أن صورًا من حياتنا المادية القديمة تزول ويحل محلها صور غربية جديدة، ويتسع احتلال هذه الصور في حياة أهل المدن وبين الطبقات المثقفة. فحياتنا المادية قد تغيرت فعلًا تحت تأثير الحياة المادية الأوربية، وأصبحنا ندركها ونفهمها على أنحاء جديدة لم يعرفها الآباء والأسلاف إلا معرفة محدودة.
وأعمق من ذلك ما حدث في حياتنا المعنوية، فقد أنشأنا البرلمان وأخذنا نعيش في سياستنا على الطريقة الأوربية الديمقراطية، فنشأت الأحزاب، كما أخذنا نعيش في قضائنا وفي اقتصادنا على النمط الأوربي. وكذلك الشأن في حياتنا العسكرية وأسلحتها ونظمها الحديثة؛ بل لا نغلو إذا قلنا: إن حياتنا المعنوية على اختلاف صورها ومظاهرها تجري عندنا الآن منذ نهاية الحرب الأولى في هذا القرن على الطريقة الغربية.
وقل مثل هذا أو أكثر منه في حياتنا العقلية، فقد عملنا على نشر التعليم بين جميع الطبقات، وأنشأنا جامعة القاهرة، وفتحنا بجانبها ثلاث جامعات: جامعة عين شمس، وجامعة الإسكندرية، وجامعة أسيوط، ثم الجامعات الإقليمية.
ولم نأخذ في هذا التعليم بمناهجنا الموروثة؛ بل تركناها إلى المناهج الغربية الحديثة، كما تركنا علمنا الموروث إلى العلم الغربي الحديث، وقام على ذلك صفوة من الأساتذة المصريين في الجامعات يعاونهم صفوة من العلماء الغربيين.
وقد أقبلنا إقبالًا لا عهد لنا به على تعلم اللغات الأجنبية المختلفة، فنحن الآن لا نتعلم الإنجليزية أو الفرنسية فقط كما كان الشأن في أول القرن؛ بل أصبحنا نتعلم الألمانية والإيطالية والإسبانية، وأصبحنا ندخل إلى أوربا من جميع أبوابها ودروبها اللغوية، لا تمييز بين باب وباب ولا بين درب ودرب؛ بل لقد أصبح بين علمائنا من يحاضرون في الجامعات الأوربية والأمريكية، ويشاركون في التراث العقلي الإنساني مشاركة فعالة.
وكل هذا معناه: أن حياتنا العقلية تطورت تطورًا واسعًا لم نألفه من قبل،
وهو تطور ملأ عقولنا ونفوسنا بصور جديدة دفعت أدبنا المصري دفعًا إلى ما يشبه الانقلاب، وتستطيع أن تعود إلى التيارين اللذين يؤلفان ثقافتنا وأدبنا، وهما: التيار العربي القديم والتيار الغربي الحديث؛ لترى مدى عملهما في حياتنا الأدبية.
أما التيار الأول فقد أخذنا ننظمه ونخضعه لمناهج الأوربيين من المستشرقين الذين سبقونا إلى نشر تراثنا نشرًا علميًّا، وكانت تعوزهم الحاسة اللغوية الدقيقة، ولم نلبث أن اصطنعنا مناهجهم وأقبلنا على إحياء نصوصنا القديمة بسليقتنا العربية الموروثة، وأخذنا في نقدها وعرضها وتحليلها، وقرَّبناها من نفوس المثقفين وقلوبهم وعقولهم.
وعلى هذا النحو أصبحنا نستغل هذا التيار القديم بأوسع مما استغله أسلافنا في القرن الماضي وفي أوائل هذا القرن، فقد تملَّكنا حياة القدماء من شعراء وكُتَّاب، وأصبحنا نحسها كما كانوا يحسونها، ونتأثر بها في حياتنا الأدبية تأثرًا عميقًا.
أما التيار الغربي، فكان تأثيره في هذه الحياة أعمق وأعنف؛ لسبب بسيط؛ وهو أن الجامعات المصرية نظمت حياتنا العقلية تنظيمًا واسعًا، فنشأت أجيال متخصصة في كل فرع من فروع العلم الغربي والأدب الغربي قديمه وحديثه.
وأول ما نتج عن ذلك أن العربية أصبحت لسانًا لكثير من ألوان العلم الأوربي، وظهرت بيننا من العلماء طبقة تحسن التعبير العلمي، وتضيف إليه بفضل نمو التيار العربي إحسانًا واسعًا للتعبير الأدبي. وبذلك التحم عندنا الأدب بالعلم ولم يعد لشكوى سلامة موسى في مقاله ضد الرافعي موضع، فقد أصبح عندنا جيل من الأدباء يتخصص في العلم، فمنهم الطبيب مثل إبراهيم ناجي وأبي شادي وكامل حسين، والمهندس مثل علي محمود طه، والرياضي مثل علي مصطفى مشرفة، والكيميائي مثل أحمد زكي، والجغرافي مثل محمد عوض محمد. فلم يعد أدبنا منفصلًا عن الثقافة العلمية؛ بل أصبح يتعاون معها تعاونًا واسعًا.
وقل مثل ذلك في القانون وفي الفلسفة، فقد خرَّجت كلية الحقوق غير
كاتب وخاصة في المجال السياسي والصحفي، وكذلك خرَّجت كلية الآداب غير متفلسف، وكنا في أول القرن لا نَحْظَى بمتفلسف سوى لطفي السيد الذي عُني بفلسفة أرسططاليس، أما اليوم فعندنا جمهور كبير لا يقف بدراسته عند أرسططاليس ولا عند الفلسفة اليونانية؛ بل يمد دراسته حتى تشمل كل الإنتاج الفلسفي الأوربي والأمريكي. وأخذنا نحيط إحاطة دقيقة بنظريات علم الاجتماع وعلم النفس الحديثة وما يقال في الشعور واللاشعور أو العقل الباطن.
ولا يكتفي علماؤنا والمثقفون منا بالتأليف؛ بل يضيفون إلى ذلك ترجمة الفكر الغربي بجميع ألوانه وصوره. ويأخذ هذا العمل الخصب في ثقافتنا شكل سيول متدفقة، تنحدر إلينا من كل صوب. ويستوفي المجال الأدبي من ذلك حظوظًا واسعة، فقد أقبل أدباؤنا يترجمون عيون الأدب الغربي، وينقلون آثار القوم نقلًا واسعًا، وقلما فاتهم كاتب أو شاعر غربي دون أن ينقلوا بعض أعماله، وللرعيل الأول مثل: المازني وخليل مطران وطه حسين وأحمد حسن الزيات في ذلك جهد مشكور، وقد جاءت في إثرهم جهود واسعة قام بها الشباب الذي أتقن اللغات الأجنبية في جامعاتنا؛ إذ حملوا على عاتقهم هذا العبء وأدوه أداء يستحق الثناء، وإنهم ليتراءون في شكل صفوف تنقل من جميع اللغات الأوربية: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية، وكأنما تعهدوا ألا يتركوا أثرًا غربيًّا جليلًا دون أن ينقلوه. ولم يقفوا عند نقل آثار بعينها لأدباء الغرب، فقد نقلوا جوانب من تاريخ القوم الأدبي العام، وبسطوا مذاهبهم الأدبية من كلاسيكية ورومانسية وواقعية إلى رمزية وسريالية وطبيعية. وتنهض معهم بهذا الجهد الخصب البلاد العربية وخاصة لبنان، فلها عمل واسع في هذا الاتجاه.
على كل حال، أساغ شبابنا في هذه المرحلة الأخيرة من أدبنا الحديث الآداب الغربية وتمثلوها خير تمثيل وأذاعوها بيننا في صورها وفنونها المختلفة؛ بل لقد فتحوا لنا أبوابها على مصاريعها، ولم يعد بين أدبنا وآداب القوم أيُّ فاصل
أو حاجز، فقد طُمست وانمحت جميع الفواصل والحواجز، وكأنما كانت قائمة على أقواس وهمية.
وعلى هذا النحو اتصلت حياتنا الأدبية بالآداب الغربية؛ بل أصبحت سلسلة من الاتصالات، وهي سلسلة أحكم حلقاتها الأولى هيكل وطه حسين والمازني والعقاد بما ترجموا ثم بما أنتجوا، فقد عُني كل منهم بأن يحدث نماذج أدبية مطابقة لنماذج الغربيين، ووجهوا عنايتهم إلى النموذج القصصي خاصة. وتبعهم الشباب الذي خضع في معيشته وتفكيره للحضارة الغربية ينوِّع في تأثره بنماذج الغربيين ويستحدث لنفسه نماذج جديدة في القصة والمسرحية وكل ما يلهج به الغرب من فنون على نحو ما هو معروف عند توفيق الحكيم ومحمود تيمور ونجيب محفوظ ويحيى حقي وغيرهم كثيرون ممن يجيدون هذا الفن القصصي إجادة رائعة.
وبلغ من جودة ما أنتج هؤلاء الأدباء أن أخذت قصصهم تترجم إلى اللغات الأجنبية؛ بل لقد أخذت بعض المسرحيات تترجم وتمثَّل على مسارح الغرب على نحو ما نعرف عن بعض مسرحيات الحكيم التي مثلت في النمسا وإيطاليا وفرنسا. فلم نعد نأخذ من الغرب فقط؛ بل أصبحنا نأخذ ونعطي، وأصبحنا نُقرأ في اللغات الأجنبية. وبذلك تم الاتصال بيننا وبين الغرب، فلم يعد أدبنا منعزلًا يعيش وحده؛ بل أصبح أدبًا عالميًّا إنسانيًّا، وأصبح يسمو إلى مرتبة الآداب العالمية الحية الكبرى. ومن ثم لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن أدبنا المصري الحديث إنما يتم بمعناه الكامل بعد الحرب الأولى في هذا القرن. حقًّا سبقت مقدمات منذ أوائل القرن؛ ولكنها كانت خطوات في سبيل إيجاد هذا الأدب الذي تنوع في موضوعه كما تنوع في شكله وأساليبه.
وحتى الآن لم نتحدث عن الصحف وأثرها في هذا الأدب المصري الجديد، ومعروف أن الصحافة نشطت عندنا بعد الحرب الأولى من هذا القرن نشاطًا واسعًا، وكلما مضينا مع السنين ازداد هذا النشاط واتسع من جميع الجهات، فمن حيث النوع ظهرت صحف يومية كثيرة ومجلات أسبوعية وشهرية لا حصر
لها، ومن حيث عدد المحررين زاد عددهم جدًّا، وخاصة في الصحف اليومية الكبيرة. وبعد أن كانت كثرتهم من أوساط المثقفين أصبح كثير منهم يحمل الشهادات العالية والجامعية.
ومنذ نشأت الأحزاب أخذت الصحف تستكتب الأدباء حتى يقبل الجمهور على شرائها، ولم يكتب الأدباء في الأدب وحده؛ بل كتبوا في السياسة، ودخلوا في خصوماتها الحزبية، ونقلوا هذه الخصومات -كما قدمنا- إلى معارك في الأدب القديم والحديث. ومن هنا اتصلت الصحافة مباشرة بحركتنا الأدبية وتفاعلتا معًا، وتأثرت كل منهما بالأخرى تأثرًا واضحًا، أما الصحافة فإن دخول الأدباء فيها هذب لغتها ومكنها من التعبير السياسي الدقيق الذي يصور خوالج القارئين وعواطفهم السياسية.
وأما الحركة الأدبية، فإنها أخذت تحاول التطابق والتلاؤم مع القراء حتى لا يسخطوا على الصحيفة ولا ينصرفوا عن قراءتها. ونتج عن ذلك أن أدباءنا أخذوا يبسِّطون أدبهم وييسِّرونه حتى يفهمه الجمهور، وأكثره من العامة التي لا ترتفع أفهامها، والتي لا تعرف العمق والصعوبة؛ وإنما تعرف اليسر والسهولة.
ومن الطريف أن أدباءنا كانوا يعرضون على هذا الجمهور مقالات في الأدب العربي القديم وفي الأدب الغربي الحديث، وكانوا ما يزالون يبسِّطون في مقالاتهم؛ حتى يقتربوا من أذهان العامة، وحتى تفهم عنهم ما يقولون.
ولم يكد الزمن يتقدم حتى بدا للعِيَان أن أدباءنا ينشئون لغة جديدة بين العربية والعامية، فيها فصاحة الأولى وجزالتها، وفيها سهولة الثانية وقربها من الأفهام. وعلى هذا النحو أثرت صحافتنا في لغة أدبنا الحديث؛ بل هي التي جددت هذه اللغة تحت تأثير الجمهور الذي تخاطبه، ومن ثم نشأت محاولات جديدة في تبسيط أساليبنا، ونجح أدباؤنا في هذا التبسيط إلى أقصى حد ممكن، فقد مرنوا اللغة القديمة التي كانت تبدو أساليبها وصيغها كأنها صخور ثابتة، وألانوها وأتاحوا لها نموًّا وسَعَة شديدة، وكادوا لا يبقون من الأساليب القديمة إلا ما صقله اللسان المصري، وشاع، وفهمته العامة.
وأتاحت الصحافة لهذه اللغة المصرية الجديدة أن تنتشر لا في مصر وحدها؛ بل في العالم العربي جميعه؛ إذ يقبل عليها الجمهور القارئ في البلاد العربية في الأردن ولبنان وسوريا والعراق والحجاز والسودان وبلاد المغرب. فأصبحت اللغة الأدبية المصرية هي اللغة الشائعة في البلاد العربية، وتفوقت على كل ما قابلها من لغات، وكان لذلك أثره في أن تصبح مصر زعيمة الشرق العربي، وأن يكون لها بين البلاد العربية مكانة ممتازة في الأدب والثقافة.
وأقبلت البلاد العربية تقرأ لأدبائنا لا ما يكتبونه في الصحف فحسب؛ بل ما يكتبونه أيضًا في الكتب والآثار المختلفة. فلم يصبح أدبنا متاعًا خاصًّا بنا؛ بل أصبح متاعًا مشتركًا بينا وبين العالم العربي، وتبع ذلك شيوع لغتنا العلمية في هذه الديار التي أصبحت سوقًا كبيرة لكل ما ننتجه في الحياة الأدبية والعلمية.
على أن الصحابة بين الحربين إن كانت قد أعطت أدبنا كل هذه المميزات، فإنها تجنت عليه من بعض الوجوه، ولعل أول ما يلاحظ من ذلك أنها عملت على السرعة في إنتاجنا الأدبي، حتى أصبحت هذه السرعة من أهم خصائصه، وهي سرعة دفعت إلى السطحية في بعض جوانبه، ومرجعها إلى وقت الصحيفة التي تصدر فيه، فهي لا تستطيع الانتظار؛ بل لا بد للكاتب أن يسرع حتى تنشر مقالته في أول عدد، وقد قُيِّدت حريته الشخصية إلى حد ما، فهو لا يستطيع أن يكتب ما يخالف رأي الصحيفة، وقيدت حريته الأدبية، فهو لا يستطيع أن يكتب كما يريد؛ بل له في الصحيفة نهر أو نهران، وليس له أن يزيد ولا أن ينقص سطورًا.
ولم يتحكم رؤساء التحرير للصحف في السرعة وحدها ولا في الحرية الشخصية والأدبية وحدهما؛ بل تحكموا أيضًا في الموضوع، فليس للأديب أن يكتب في أي موضوع يشاء؛ بل عليه أن يكتب في الموضوعات المقترحة التي كان يفرضها قلم التحرير. وكان عليه أن يخفف أسلوبه حتى يكون أسلوبًا صحفيًّا، يفهمه الجمهور بدون عناء ولا مشقة.
وتدخل الإذاعة في حياة أدبائنا، وترافقها هذه الضرورات الصحفية، فالوقت محدود، والجمهور أكثره من الطبقات العامة؛ بل لعل الإذاعة تتقدم الصحافة في ذلك، فالصحف لا يقرؤها إلا من يحسنون القراءة، أما الإذاعة فيسمعها القارئون والأميون، وهي لذلك تحتاج تبسيطًا أوسع مما تحتاجه الصحافة.
وكل هذا يحدث تغيرات جوهرية في أدبنا الحديث، وهي تغيرات لم يكن يعرفها أدبنا قبل هذه الحقبة الأخيرة؛ بحيث نستطيع أن نقول: إنه نشأ عندنا أدب صحافي وإذاعي لم يكن يعرفه أسلافنا، وهو أدب سريع ليس فيه عمق وليس فيه تأنٍّ ولا إبداع إلا ما يأتي عفوًا. ويتناول هذا الأدب جميع فنوننا الحديثة من مقالة وقصة ومسرحية، وكلها تطبع بطابع السرعة والمسافة القصيرة في الزمان والمكان.
وينبغي ألا نعمم في أحكامنا، فإن بين أدبائنا طائفة ظلت تحاول الاحتفاظ بحريتها وجودة إنتاجها، قد تشترك في هذا الأدب السريع؛ ولكنها تحاول جاهدة أن تحتفظ له بقيم الفن السامية، وكأنها لا تريد أن تنزل إلى الجمهور؛ بل تريد أن ترفعه إليها مستهدية بمثل الفن العليا وغاياته الرفيعة من الخير والحق والجمال.
وهذه الطائفة هي التي تحتل الصفوف الأولى في حياتنا الأدبية المعاصرة، وهي التي تمثل أدبنا المصري بمعناه التام، فهو أدب يُستقى من مصدرين: الأدب العربي القديم والأدب العربي الحديث، ويحيلهما غذاء عقليًّا وروحيًّا قد شقي أصحابه فيه، وأرَّقوا ليلهم في كتابته، وبذلوا فيه صفوة أيامهم وخلاصة حياتهم.