الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى هذا النحو مضينا في النصف الأول من القرن الماضي وغير قليل من النصف الثاني لا نملك من وسائل التعبير النثري سوى هذه الوسيلة الضيقة، وسيلة السجع والبديع التي تخنق الكلام، وتحول بيننا وبين التعبير الحر عما نريد، وكأن ما نريد كان لا يزال شيئًا ضيقًا محصورًا، فانحصر نثرنا في هذه الصناعة الراكدة الجامدة، ولم يستطع التيار الغربي أن يحرره ولا أن يخلصه من أثقاله وأغلاله.
2-
حركة تحرر وانطلاق:
لا نمضي طويلًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى تجتمع دوافع حقيقية لتحرر النثر وانفكاكه من قيوده الغليظة؛ فإن أمورًا كثيرة متشابكة جدت، وعملت مع أمور أخرى كانت مختفية وظهرت. وتناولت هذه الأمور أو هذه الأسباب عناصر حياتنا من جميع أنحائها وغيَّرتها تغييرًا تامًّا.
وكان أول ما حدث من ذلك نشوء الرأي العام، وظهور فكرة الوطنية، وشعور المصريين بحقوقهم السياسية المسلوبة، وقد رأيناهم يشعرون بهذه الحقوق في عهد محمد علي، ويحاول جاهدًا أن يميتها في نفوسهم؛ ولكنها لم تمت؛ بل ظلت مختفية إلى حين. وكان مما عمل على بقائها ونمائها دخول المصريين في جيش محمد علي، فكان هذا الجيش حين ينتصر في حرب يشعر المصريون بأنفسهم وبمصريتهم. وليس هذا فقط، فقد أخذوا يتعلمون ويفدون على أوربا في البعوث، فكانوا يرون حياة سياسية تخالف حياتهم، فالناس في فرنسا مثلًا لا يُحْكَمُون بفرد مستبد؛ بل يشتركون معه في الحكم وفي إدارة بلادهم. وقد كشف رفاعة في كتابه "تلخيص الإبريز في تلخيص باريز" عن الفروق بين الحياة السياسية هناك وبينها في مصر، وأشار إلى أن فرنسا تُحْكم بدستور
قائم من وضع الشعب وتصميمه. ومما زاد شعور المصريين بأنفسهم كشف اللغة الهيروغليفية، وتبينهم لتاريخهم القديم، فاستشعروا من ذلك كله عزة وأنفة، وطلبوا الحياة الحرة الكريمة.
ولم يتقدم بهم حكم إسماعيل حتى رأوا رأي العين ضرورة الاشتراك معه في الحكم؛ فإنه يسير في طريق محفوف بالخطر، وإذا تُرك وأهواءه وسياسته المالية السيئة فإن البلاد ستقع حتمًا فريسة في أيدي الغربيين، وقد أخذوا فعلًا يضعون لها الشباك من صندوق دين ومن مراقبة مالية ومستشارين ماليين وغير ذلك من نُذر تنذر بالشر المستطير. وإسماعيل في غَيِّه، وبطانته التركية من حوله لا ترده ولا تهديه سواء السبيل.
وأحس المصريون بخطر هذا كله، وأنهم لا يعيشون معيشة كريمة في بلادهم، وأنه حري بهم أن يلوا شئونها، وأن يعيشوا أحرارًا تحت سمائها، واستقر ذلك في نفوسهم، فلا بد من التحرر أولًا من الحاكم المستبد الذي لا يحسن تصريف الأمور، وثانيًا من الترك الذين يؤلفون حاشيته، والذين يسيطرون على المناصب الكبرى في الجيش وغير الجيش.
ولم يقف تفكير المصريين عند وطنهم، فقد فكروا في دينهم، وما أصاب المسلمين من ضعف وانحلال، فإذا الغرب يستولي على بعض بلدانهم، وإذا الخلافة الإسلامية في تركيا تكاد تنقض لما يدبِّر لها الغرب عامة. ورأى المصريون عن بصيرة أنه يجب الرجوع إلى مصادر الإسلام الأولى، حتى يُنَقَّى الدين مما علق به من أوهام وخرافات، ورجعوا يدرسون كتبه القديمة وما كتبه المسلمون في العصر العباسي. وكان ذلك تحولًا مهمًّا، فإن الأزهر لم يكن يدرس سوى كتب العصور المتأخرة التي التوت أساليبها وتعقدت أشد ما يكون الالتواء والتعقيد.
واقترن هذا الاطلاع على المصادر الأولى في الدين باطلاع آخر على المصادر الأولى في الأدب، فإن المطبعة أخذت في نشر الكتب الأدبية القديمة من مثل كليلة ودمنة لابن المقفع، فرأى المثقفون نماذج جديدة في التعبير
تختلف اختلافًا بينًا عما كانوا يعرفونه، فليس فيها التكلف وليس فيها السجع والبديع؛ وإنما فيها الأسلوب المرسل الشفاف الذي لا يخفي شيئًا من المعنى ولا يستر دلالة من الدلالات. فشكوا فيما يألفون، سواء من جهة الأساليب الدينية الملتوية أو من جهة الأساليب الأدبية المقيدة بالسجع والبديع، وطلبوا طرق التعبير القديمة في الدين والأدب جميعًا.
وفي أثناء ذلك كان يشتد الاتصال بالغرب، فقد فُتحت قناة السويس، ونزل في مصر كثير من الأجانب، وأخذ المصريون يطلعون من قرب على الحياة الأوربية المادية. وكان ذلك يزيد من شعور المصريين بقوميتهم، وأن لهم شأنًا في العالم وعلاقاته الاقتصادية، كما كان يؤثر في أذواقهم وعقولهم؛ فإن العلاقات الحضارية يتشابك بعضها ببعض.
وجَدَّ المصريون منذ عصر إسماعيل في دعم اتصالهم بالغرب، فهم يكثرون من المدارس ويفتحون أبواب التعليم العالي على مصاريعها، ويؤسسون الأوبرا ويقيمون دار الكتب للقراءة والاطلاع المنظم. وبعث ذلك كله نهضة واسعة في مصر، نهضة غيرت الأذواق، وهيأتها لتطور واسع في الميادين الأدبية. وكانت تدفع هذه النهضة بقوة روحُ المصريين الجديدة وشعورهم بأن وراء ما يقرءون في الدين والأدب نماذج قديمة جديرة بالاحتذاء والتقليد، فأقبلوا عليها يقرءونها ويتأثرونها.
ولم يكن هذا التيار العربي القديم وحده هو الذي يغير في أذواقهم وعقلياتهم، فقد كان هناك تيار آخر يأتيهم من وراء البحر، لا بالأوربيين الذين يستوطنون ديارهم فحسب؛ بل بالعلم الأوربي والأدب الأوربي، وكان تصالهم بالعلم أسبق من اتصالهم بالأدب؛ ولكنه لم يُحْدث تبدلًا في حياتهم الأدبية؛ إنما حدث هذا التبدل حين أخذوا يتصلون مباشرة بالآثار الأدبية الغربية ويتذوقونها، ولم يكتفوا بذلك؛ فقد أخذوا يترجمونها، وشاركهم في هذه الترجمة عنصر عربي هاجر إلى ديارنا، هو عنصر السوريين واللبنانيين الذين وفدوا علينا فارين من اضطهاد العثمانيين أو لأغراض اقتصادية.
وكان هذا العنصر السوري اللبناني شديد الاتصال بالآداب الأجنبية؛ فإن البعوث الدينية المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية -أو بعبارة أخرى: الفرنسية والأمريكية- وصَلته بآدابها وصلًا محكمًا. فلما نزل بديارنا أخذ يعبر عن هذه الصلة بطريق الترجمة، وبذلك كانت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حَقلًا واسعًا للترجمة ونقل الآداب الغربية، فقد تُرجم كثير من القصص والروايات، وترجمت كتب لا تكاد تحصى في الاجتماع والقانون والاقتصاد وجميع فروع الفكر الغربي.
واضطرت هذه الترجمة الواسعة أصحابها اضطرارًا أن يهجروا الأسلوب الذي ترجم به رفاعة الطهطاوي وتلاميذه، أسلوبَ السجع والبديع، فقد رأوه يفسد المعاني التي يريدون نقلها وأداءها إفسادًا؛ لسبب بسيط وهو أنه لا يتسع لها، ولا يتيح للمترجم أن يعبر عنها إلا تعبيرًا مضطربًا، أو تعبيرًا ممتلئًا بعوائق السجع والبديع.
ولم يلبث هؤلاء المترجمون بعد رفاعة أن عرفوا عن طريق المطابع وما تنشر من آثار الأدب العباسي أن وراء هذا الأسلوب القاصر الذي ترجم به رفاعة أسلوبًا مرسلًا حرًّا آخر، يمكِّنهم من صياغة العبارات بحيث تؤدي المعاني الأوربية أداء سهلًا يسيرًا، فعوَّلوا على هذا الأسلوب، واتخذوه وسيلتهم إلى تصوير معانيهم، وخاصة أنهم رأوه يشبه الأساليب الغربية التي يترجمون منها، فإنها تصاغ في لغة سهلة تخلو خلوًّا تامًّا من أثقال السجع والبديع.
وعلى هذا النحو أخذ المترجمون يؤثرون الأسلوب العتيق الفصيح، وينفكون عن أسلوب رفاعة الثقيل الضيق. ولم يكتفوا بذلك؛ بل أخذوا يمرنون هذا الأسلوب على أداء المعاني الغربية الدقيقة، سواء في الفكر أو في الشعور، وأثبتوا أن لغتنا الفصيحة لا تستعصي على أداء هذه المعاني، فكانوا بذلك عاملًا مهمًّا من عوامل بعثها ونهوضها.
وحتى الآن لم نتحدث عن المطبعة والصحف، وقد كان لهما أثر بالغ في هذا التحرر من أسلوب السجع والبديع، فإن من كان يترجم مثلًا لم يكن
يترجم للطبقة المثقفة الممتازة؛ بل كان يترجم للجمهور، ولم يكن هذا شأن المترجمين في العصر العباسي والعصور السابقة، فإنهم كانوا يترجمون لطائفة محدودة من الأمة، وكانوا يقدمون لها ما يترجمون في نسخ خطية قليلة. ومعنى ذلك: أن الأدب والعلم جميعًا كانا أرستقراطيين، وكانا محتكرين في جماعة بعينها من جماعة الأمة، فلما عرفنا المطبعة وانتشر التعليم في طبقات الشعب أصبح الأدب والعلم شعبيين، وأصبح المترجمون يلاحظون أنهم لا يخاطبون الطبقة المثقفة العليا في الأمة؛ بل يخاطبون طبقاتها على اختلافها.
وأحدث ذلك تطورًا واسعًا في أسلوب الترجمة والكتب الأدبية، فقد أخذ المترجمون والأدباء يلائمون بين أسلوبهم وطبقات الشعب، حتى تفهم عنهم ما يريدون أن يقولوه، وحتى لا تجد مشقة في هذا الفهم. ومن هنا أخذت الأساليب الأدبية تجنح إلى البساطة ومراعاة السهولة، فالكاتب يسعى بجهده إلى تبسيطها وتيسيرها، حتى تروج في الجمهور.
فنحن إذن لم نرجع إلى الأسلوب القديم الفصيح أو الأسلوب المرسل الحر فحسب؛ بل أخذ المترجمون والأدباء يبسِّطون أسلوبهم تبسيطًا لا ينزل به إلى مستوى العامة أو إلى الابتذال، وفي الوقت نفسه لا يعلو عليهم؛ بحيث يشعرون بشيء من العسر في قراءته وفهمه، هو أسلوب بسيط سهل؛ ولكنه عربي فصيح.
وما عملته الصحف في هذا الاتجاه كان أوسع وأعمق بحكم أنها تخاطب كل الطبقات في الأمة لا تميز بين طبقة وطبقة؛ بل لعل عنايتها بالطبقات الدنيا تزيد على عنايتها بالطبقات العليا؛ فإنها تريد أن تنتشر في أوسع جمهور ممكن، وأن تغري هذا الجمهور على فَهْمِها والاستمتاع بها حتى يطلبها.
وجمهور الكِتَاب المترجم والمؤلف من هذه الناحية أضيق كثيرًا من جمهور الصحيفة، فالكِتَاب يخاطب الطبقات المثقفة التي تقرأ، عاليها ودانيها، أما الصحيفة فإنها تريد أن تخاطب الكثرة الساحقة في الأمة؛ ومن أجل ذلك يحتاج الصحفي دائمًا إلى التبسيط في الأسلوب والتفكير بأكثر مما يحتاج مؤلف الكتاب، ومهما كانت الفكرة التي يتناولها مرتفعة في نفسها، فإنه لا بد أن يبسِّطها
إلى أقصى حد، حتى تكون واضحة أمام القراء، وحتى لا يجدوا أدنى مشقة في فهمها وتصورها، ولا بد أن يُصَفِّي لفظها، ويختار لها لغة سهلة يسيرة، حتى تقترب من الذوق البسيط السهل في الأمة، وحتى يفهم القارئ ما يقرؤه ويعيه وعيًا صحيحًا.
فطبيعي لهذا السبب ولما قدمنا من أسباب وبواعث أن يهجر الأدباء والكُتاب اللغة القديمة التي كان يكتب بها رفاعة الطهطاوي، وأن يهجروا معوقاتها من سجع وبديع، فإن هذا كله لا يلائم المعاني الغربية الكثيرة التي يترجمونها ولا يلائم الذوق الشعبي المتواضع الذي يخاطبونه في الكتب والصحف جميعًا؛ إنما الذي يلائم ذلك هو الأسلوب الحر الطبيعي.
وقد أخذوا يمرنون كلمات هذا الأسلوب على أن تحمل إلينا الآداب والثقافات الغربية من جهة، كما أخذوا يمرنونها على هجر الموضوعات الضيقة، التي كان يُعْنَى بها كتابنا وأدباؤنا في العصور الوسطى، وهي موضوعات شخصية في جملتها لا تكاد تتجاوز موضوعات الشعر من تهنئة بفتح أو ظفر، ومن تعزية أو وصف، ونحو ذلك من موضوعات النثر القديم.
فقد أحلوا محل هذه الموضوعات المحدودة موضوعات عامة، وبعبارة أخرى: أحلوا الأمة محل الأفراد القدماء، فلم يعد الكاتب يتوجه بكتابته إلى شخص معين؛ بل أصبح يتوجه إلى طبقات الأمة على اختلاف درجاتها. ومعنى ذلك: أنه أصبح أديبًا ديمقراطيًّا بعد أن كان أرستقراطيًّا يوجه حديثه إلى أرستقراطيين من أمراء ووزراء وغير أمراء ووزراء؛ لينال مكافآتهم وجوائزهم فيما يعرض له من شئونهم الشخصية، وليمكنوه من المعيشة والحياة.
فقد انتهت هذه الدورة أو الدورات في نثرنا -أو كادت- وأخذ هذا النثر يسعى إلى محيط أوسع، هو محيط الشعب الذي يكسب عيشه منه مباشرة بما ينشر من الكتب وبما يكتب في الصحف. ونتج عن هذا التحول أشياء كثيرة، فإن الكاتب لم يعد عبدًا مسترقًّا لأشخاص بأعينهم، أو لهذا الأمير أو هذا الوزير؛ بل رُدَّتْ إليه حريته، فهو يكتب كما يريد، لا كما كان يريد له الأمراء والوزراء ومن إليهم من الحكام، يكتب آراءه وأفكاره كما أحسَّها
وشعر بها دون أن يخضع لفرد من الأفراد مهما كان شأنه.
وشيء آخر أتى من تحول الكاتب إلى الجماعة الكبرى جماعة الأمة، فإنه أخذ يُرضي هذه الجماعة وشعورها وذوقها، مما كان سببًا في نشوء رأي أدبي عام يعلن رضاه وسخطه على حياتنا الأدبية. وتحت تأثير هذا الرأي تطور أسلوب النثر وتحرر من أغلال السجع والبديع كما قلنا آنفًا.
وشيء أعمق من هذا كله وأبعد أثرًا في حياتنا الأدبية في أثناء النصف الثاني من القرن الماضي، فإن أدبنا أخذ يُعْنَى بتصوير الجماعة وتصوير ميولها السياسية وغير السياسية؛ لسبب بسيط؛ وهو أن الأدباء تحولوا إلى الجماعة يخاطبونها ويقدمون أدبهم إليهم، فكان لا بد أن يخاطبوها في شئونها التي تهمها وحياتها التي تعيشها أو تريد أن تعيشها.
ونحن لا نصل إلى عصر إسماعيل حتى يتكامل وَعْيُ هذه الجماعة، وحتى تريد أن تنال حقوقها السياسية المسلوبة، وقد أخذت تنظر في جوانب حياتها المختلفة سياسية وغير سياسية، وتطمح إلى إصلاحها من جميع أنحائها. وكان من أهم ما فكرت فيه الدين نفسه وأممه وخلافته العثمانية التي ترمز إليه، والتي كان لهم سلطان شرعي في مصر وغير مصر من الأقطار الإسلامية.
ولم يلبث الأدباء أن لبوا هذه الغايات الشعبية عند الأمة، فأصدر عبد الله أبو السعود صحيفة "وادي النيل"، وأصدر إبراهيم المويلحي جريدة "نزهة الأفكار". وصدرت جريدة "الوطن". وأخذ السوريون واللبنانيون المهاجرون إلى مصر يشاركون في هذا النشاط الصحفي؛ فأصدر أديب إسحاق وسليم نقاش صحيفة "مصر"، وأصدر سليم وبشارة تقلا "صحيفة الأهرام"، وسليم الحموي "الكوكب الشرقي"، وسليم عنحوري "مرآة الشرق"، وتنحى عنها فتولى تحريرها إبراهيم اللقاني. وبجانب ذلك أصدر يعقوب صنوع صحيفته "أبو نظارة"، كما أصدر عبد الله نديم صحيفته "التنكيت والتبكيت"، وحين اشتد الحماس الوطني قُبيل ثورة عرابي حوَّلها سياسية ثائرة وسماها "الطائف".
وهذه الصحف المختلفة كانت تصور عواطف المصريين السياسية، وتنادي
بالإصلاح في الأداة الحكومية قبل أن يستفحل الخطب ويتفاقم الأمر، فإن الأوربيين فرضوا على إسماعيل رقابة مالية، ورقابة المال تؤدي إلى رقابة الحكم. وأخذت صحفنا تنقد الحاكم وتندِّد بسياسته السيئة، وسُرعان ما تحولت ثائرة عليه ثورة غاضبة.
واقترن بهذه العواطف السياسية المتأججة في نفوس المصريين عاطفة دينية قوية تدعو إلى إصلاح الدين وتنقيته مما أَلَمَّ به من خرافات. ولم يلبث الشيخ محمد عبده أن مزج بهذه الدعوة دعوة عامة إلى إنقاذ الإسلام والمسلمين مما حل بهم من تأخر واضمحلال، وفكر في وطنه وما أصابه من جَوْر حكامه وسوء أحواله الاجتماعية.
ومما لا شك فيه أن جمال الدين الأفغاني هو الذي دفع الشيخ محمد عبده دفعًا قويًّا في هذا الاتجاه؛ إذ كان يلزمه في بيته وفي غَدواته وروحاته، وهو يلقي دروسه الدينية والفلسفية، داعيًا إلى الإصلاح السياسي والديني والاجتماعي، ومهيجًا الخواطر ضد الحكام الذين يختانون أمانة أوطانهم الإسلامية بما يُطلقون من أيدي المستعمرين الأوربيين في شئونها المالية وغير المالية. وقد أخذ يمرن تلاميذه -وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده- على الخطابة وإنشاء المقالات في الصحف. وتحولت إلى التلميذ النابغ جميع تعاليم أستاذه في السياسة وغير السياسة، وتأججت في صدره حماسة لاهبة لخدمة دينه ووطنه. وهيئت الفرصة له ليذيع آراءه الإصلاحية في الجمهور؛ إذ تولى تحرير "الوقائع المصرية" لأول عهد توفيق.
واشترك في الثورة العرابية، حتى إذا أخفقت حُكم عليه بالنفي ثلاث سنوات، فذهب إلى بيروت ثم تركها إلى باريس، وكان قد سبقه جمال الدين إليها، وأصدرا هناك صحيفة "العروة الوثقى" يذيعان فيها على مصر والعالم الإسلامي ما يوقد نار الحمية الإسلامية في النفوس، وكانا يؤمنان بوجوب توحُّد المسلمين تحت راية الخلافة العثمانية، حتى يقفوا رجلًا واحدًا أمام الأوربيين وجشعهم الاستعماري البغيض.
وعلى هذا النحو كانت الموضوعات التي يتناولها كُتَّابنا في عصر إسماعيل
وقبل الاحتلال الإنجليزي سنة 1882 موضوعات سياسية ودينية واجتماعية، وهي موضوعات عامة، لم يكن يستمدها الكُتاب من عواطف فردية أو شخصية؛ وإنما كانوا يستمدونها من عواطف الشعب، فقد أصبح الشعب هو كل شيء، وأصبحت ميوله الإطار الذي توضع فيه المقالات الصحفية المختلفة.
وتعم الكآبة مصر وتخمد مؤقتًا هذه الجذوة القوية فيها لأول عهد الاحتلال؛ ولكن لا نمضي طويلًا حتى تسترد هذه الجذوة قوتها واشتعالها، فيصدر العفو عن الشيخ محمد عبده وعبد الله نديم اللذين اشتركا في الثورة العرابية، وتصدر صحيفة "المؤيد" يصدرها الشيخ علي يوسف، معبرًا فيها عن نزعتنا الوطنية، ويصدر عبد الله نديم صحيفة "الأستاذ" يناوئ فيها الاستعمار، ويصدر مصطفى كامل صحيفة "اللواء" ويبعثها نارًا ضد الاستعمار والمستعمرين، ويؤلف "الحزب الوطني"، ويصارع الإنجليز صراعًا قويًّا عنيفًا. ويتألف حزب الأمة، ويُصدر صحيفة "الجريدة" ويحررها لطفي السيد، ولم يكن هذا الحزب ثائرًا ثورة الحزب الوطني؛ بل كان يميل إلى الاعتدال في الكفاح، وقد خرج بفكرة أن مصر للمصريين، فينبغي ألا نفكر في الخلافة العثمانية والعثمانيين؛ بل ينبغي أن نقصر تفكيرنا على أنفسنا ومصالحنا. وكان مصطفى كامل يعطف على الخلافة الإسلامية، وهو عطف كان يصور فيه عواطف الشعب المصري الذي كان يعد هذه الخلافة رمزًا لدينه، ولم يكن مصطفى كامل يتعدَّى ذلك، فوجهته وطنه واستقلاله وتخليصه من براثن الاحتلال. وأعلنها حربًا شعواء على الإنجليز لا تضعف ولا تلين كما يلين حزب الأمة وأنصاره، واندفعت الأمة المصرية وراءه غاضبة ناقمة.
وهذه الحركة الوطنية التي كانت تصدر عن روح الأمة وما صحبها من ترجمة أو من التيار الغربي الذي أخذ يعمل في مجرى حياتنا الأدبية، كل ذلك كان مصدر نشاط أدبي خصب، سواء من حيث اللغة التي نعبر بها عن أدبنا، أو من حيث الموضوعات التي كان يتناولها.
أما اللغة، فقد تحررت من عوائق السجع والبديع. على أنه ينبغي ألا
نطلق هذا القول إطلاقًا عامًّا، فقد كان لا يزال يوجد محافظون يتأثرون في كتابتهم بالسجع وما يتصل به من البديع، وكانوا قليلين؛ ولكنهم ظلوا قائمين في حياتنا الأدبية منذ ثورتنا اللغوية التي نَحَّت هذه العوائق بعيدًا عن الأسلوب الفصيح، وظلنوا ينتجون آثارًا تخضع لذوقهم المحافظ، لا في القرن الماضي فحسب؛ بل أشواطًا من هذا القرن.
وكان يوجد ثائرون على اللغة العربية، لا في صورتها المعقدة عند أصحاب السجع والبديع فقط؛ بل أيضًا في صورتها السهلة الميسرة عند أصحاب الأسلوب المرسل، وكانوا يرون أن من الخير أن نهجرها جملة ونستخدم مكانها لغتنا العامية. وظهر هذا الاتجاه قويًّا عند من تثقفوا بالآداب الغربية، فقد رأوا أصحاب هذه الآداب يهجرون في عصر النهضة اللغة اللاتينية التي كانوا يعبرون بها عن أفكارهم وعواطفهم، ويتخذون مكانها لغاتهم المحلية، وأنشئوا بهذه اللغات آدابهم المختلفة من فرنسية وإنجليزية وغير فرنسية وإنجليزية. فقالوا: ما لنا وللغة قديمة ليست لغتنا ولا ملكًا لنا، ولا هي أداة طيِّعة للتعبير الحر الطليق عن عواطفنا ومشاعرنا، وها هي يبدو عجزها عن أداء المعاني الغربية الكثيرة التي نريد أن نؤيدها؟ وقالوا أيضًا: إنها ليست اللغة المصرية الصميمة؛ بل هي منا كاللغة اللاتينية من الأوربيين، فلن يقدر لها البقاء، بل لا بد أن تحل محلها اللغات العامية في البلاد العربية المختلفة. وكان ممن يدافع عن هذا الاتجاه محمد عثمان جلال الذي ترجم بعض روايات موليير إلى لغتنا الدارجة، فاتسعت هذه الدعوة، ولا يزال لها أنصار إلى يومنا الحاضر.
ولم تنجح حينئذ لأسباب بعضها سياسي وبعضها ديني وبعضها أدبي خالص، فقد دعا بعض الإنجليز إليها في محاضرات عامة بمصر وفي بعض كتاباتهم، كما دعا إليها بعض المستشرقين، فأحس الشعب وأدباؤه خطرًا فيها، وأنها إن صحت كانت كارثة سياسية يريدها المحتل، حتى تنسى الأمة ماضيها العربي والإسلامي. وأيضًا فإن هذه اللغة العربية التي يدفعها محمد عثمان جلال وإخوانه لغةُ القرآن الكريم، أو بعبارة أخرى: لغةٌ مقدسةٌ يقدسها الشعب. فكان صعبًا
-إن لم يكن مستحيلًا- على الشعب أن يتحول عنها، وحتى إن كان لا يحسنها فإنه ينبغي أن يسعى إلى إحسانها. وسبب ثالث، ولكنه لا يأتي من قبل السياسة ولا من قبل الدين، وإنما يأتي من قبل الأدباء أنفسهم، فإن كثرتهم رأت ألا تنزل إلى لغة الشعب، حتى يظل لها شيء من التفوق اللغوي الذي يفصل بينها وبين العامة. وربما كان من أهم الأسباب أيضًا أن هؤلاء الأدباء من صحفيين وكُتاب ومترجمين استطاعوا أن يؤدوا باللغة الفصيحة كل ما أرادوه من معانٍ وأفكار، فهي ليست قاصرة ولا عاجزة؛ بل أثبتوا أن فيها قوة لتحمُّل المعاني فضلًا عما فيها من براعة وجمال.
ولهذه الأسباب مجتمعة أخفقت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن الدعوة إلى استخدام العامية في حياتنا الأدبية، واقتصرت على الصحف الفكاهية التي لا تزال تخرج بها إلى اليوم. وبالمثل أخفق الاتجاه المحافظ إلى أسلوب السجع والبديع، وانتصر الأسلوب الجديد، الأسلوب العربي المرسل، ووثب به الكُتاب وثبات واسعة في التعبير والتصوير.
ولا بد أن نذكر هنا "دار العلوم" التي أنشأها علي مبارك؛ لتساعد على تعليم هذا الأسلوب الذي ارتضته مصر؛ إذ لم يكن يعلم العربية سوى الأزهر، ولكن علماءه كانوا محافظين، وكانوا مرتبطين بأسلوب السجع والبديع من جهة، وبكتب النحو المعقدة من جهة ثانية، فرأى علي مبارك أن ينشئ هذه المدرسة؛ لتعلم المصريين العربية بأسلوب يتمشى والنهضة الحديثة، وقامت "دار العلوم" بما أريد منها في هذا الطور من التحرر في اللغة والانطلاق من الأسلوب المسجَّع المعقد، فكانت تُخْرج للمدارس المدنية طائفة من المعلمين ييسرون العربية على الطلاب، ويُعدونهم إعدادًا صالحًا لهذه الدورة الجديدة.
على كل حال، فَكَّ المصريون، أو بعبارة أدق: فكت كثرتهم أنفسها من أغلال أسلوب السجع التقليدي، ورجعت إلى الأسلوب المرسل تعبر به عن ذات نفسها، واكتفت من هذا الأسلوب بإطاره، أما نماذجه فقد نبذتها نبذًا، لا لأنها سيئة في نفسها؛ بل لأنها لا تلائم حياتها؛ إذ كانت نماذج شخصية
أو ديوانية، وكانت لا تتصل بالجمهور ولا بعواطفه، ولا تمس حياته السياسية والاجتماعية.
لذلك كان طبيعيًّا ألا يلتمس الكُتاب المصريون في القرن الماضي نماذجهم عند القدماء، فقد أخذوا يوجدون لأنفسهم نماذج تتصل بحياتهم وما اختلف عليها من أحداث وتهيأ لها من ظروف صحفية وغير صحفية. وقد دفعتهم الصحافة التي حاولوا أن يجاروا بها الصحافة الغربية إلى إنشاء فن المقالة، وهو فن لم يعرفه العرب القدماء؛ إنما عرفوا الرسائل التي تتناول بعض الموضوعات في سعة، وهي أشبه ما تكون بكتيب صغير، فلما وُجدت الصحف، وحاول الكُتاب أن يكتبوا في الموضوعات التي تهم الجمهور استحدثوا هذا النموذج الأدبي القصير، وأخضعوه للضرورات الصحفية من حيث القصر ومن حيث تبسيط الفكر حتى يفهمها الناس وتسهيل اللغة حتى لا تكون عسيرة عليهم.
وأخذ الكُتاب يمرنون هذا النموذج الجديد ليصور آراءهم في السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، وفي الإصلاح الديني والاجتماعي، وفي كل شأن من شئون الحياة. وكلما تقدمنا مع الزمن قطعنا مرحلة في هذا التمرين، ونحن لا نصل إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حتى يتكون لنا في هذا النموذج طبقة ممتازة من الكُتاب مثل: علي يوسف ومصطفى كامل وفتحي زغلول وقاسم أمين وعبد العزيز محمد وأحمد لطفي السيد ومحمد عبده، وغيرهم ممن كانوا يصارعون الفساد الاجتماعي والفساد السياسي والفساد الديني.
وكان لهذه الطبقة من الكُتاب المفكرين أبعد الأثر وأعمقه في حياتنا المصرية، فهم الذين حملوا راية الإصلاح في كل جانب من جوانب حياتنا العامة، ولا تزال دعواتهم الإصلاحية حية مؤثرة في نفوسنا، فقد أشعرونا بحقوقنا وواجباتنا وما يتعلق بحياتنا من أسباب التأخر والانحطاط، وعلمونا كيف نعيش في وطننا أحرارًا، وكيف ننهض إلى تحقيق استقلالنا وتحقيق حياة كريمة لنا. وبذلك أثاروا فينا العناصر الكامنة من قُوانا، وكان لمصطفى كامل الفضل الأول في دفعنا إلى مصارعة الاحتلال مما جنينا آثاره في ثورة سنة 1919، ثم
في ثورتنا الأخيرة المباركة.
وحاول محمد عبده محاولة تجديدية جريئة في الدين، وهو أهم مصلح ديني عرفته مصر الحديثة، وقد أخذ يدعو إلى تخليصه من الأوهام والخرافات، والبحث فيه بحثًا حرًّا على نمط البحث القديم عند المعتزلة، فباب الاجتهاد فيه لم يغلق، ولا ضير أبدًا في أن نبحث فيه وفي أصوله على ضوء الفكر الحديث. وأخذ يثبت في مقالاته وأبحاثه أنه دين عالمي حي، وأنه لا يتعارض مع المدنية الحديثة، ورد ردودًا قوية على من يهاجمونه من المستشرقين والمستعمرين. وقام بتفسير القرآن الكريم تفسيرًا جديدًا يتفق وهذه الروح. وأصلح القضاء الشرعي حين عُهد إليه بالإفتاء في عهد عباس الثاني كما أصلح مناهج التعليم في الجامعة الأزهرية.
وحمل قاسم أمين راية الإصلاح الاجتماعي، وقد رأى أن من أهم أسباب تأخرنا عن الغرب حجابَ المرأة وجهلها وشل هذا الجزء الحي في مجتمعنا وإهدار جميع حقوقه في الزواج بل في الحياة. وكتب في ذلك مجموعة من المقالات نشرها في صحيفة "المؤيد"، ثم جمعها في كتاب بعنوان "تحرير المرأة"، وأتبعه بكتاب آخر سماه "المرأة الجديدة"، وفيه دافع ثانية دفاعًا حارًّا عن حرية المرأة، ورسم خطوط هذه الحرية، وأنه ينبغي أن تخرج إلى حياتنا العامة، وأن تشترك في أعمالها ومسئولياتها المختلفة. وكان ذلك ثورة في أول القرن، وخاصة في البيئات المحافظة، وكُتب لهذه الثورة أن تنجح نجاحًا هائلًا بعد الحرب الأولى حين رُدت إلينا حريتنا، فخلعت المرأة الحجاب وتعلمت، وأصبحت تشارك في الأعمال الحكومية والمهن الحرة من طب وغير طب.
وعلى هذا النحو كانت كانت هذه الطبقة من كُتابنا تجدد حياتنا وعقولنا وتدفعنا خطوات إلى الأمام، وكان كثير من أفرادها قد أتقن اللغات الأجنبية، وأخذ نفسه بقراءة آثار المفكرين الغربيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فاندفع يقتبس من هذا الفكر الغربي الحي النشيط فيما يكتب لقومه من مقالات، وأهم من يوضح هذا الاتجاه فتحي زغلول وأحمد لطفي السيد، وقد ترجم الأول كتاب
"سر تقدم الإنجليز السكسونيين"، ونشره مقالات مسلسلة في صحيفة "المؤيد" سنة 1899، أما لطفي السيد فعُنِيَ بترجمة بعض آثار أرسططاليس. فكان الأول باعثًا على البحث في عيوبنا الاجتماعية، وكان الثاني رائدًا لاتصالنا بالفلسفة الغربية وأبحاثها في القديم والحديث. ولكن ليس ذلك هو المهم عندهما، فقد دفعا هما وأمثالهما -ممن تثقفوا في عمق الثقافة الغربية- نموذجنا النثري الجديد -نموذج المقالة- إلى أن يصبح نموذجًا فكريًّا نشيطًا، بما اقتبسوا له من أفكار الغربيين في السياسة والأخلاق والاجتماع.
وفي أثناء ذلك كان ينمو عندنا فن قديم ويتطور، وهو فن الخطابة، ومعروف أن العرب كانت لهم خطابة نشيطة في العصرين الجاهلي والإسلامي، وأنهم عرفوا الخطابة السياسية عند زياد بن أبيه ونظرائه، كما عرفوا الخطابة الدينية عند الحسن البصري وأقرانه. وازدهر هذان اللونان في العصر الأموي، وسرعان ما ذبلا وفقدا النضرة والحياة في العصر العباسي ثم في العصور التالية، فقد ضغط العباسيون على الناس وحرموهم الحديث في شئونهم السياسية. وجمد العقل العربي فلم يتطور الخطباء بالخطابة الدينية في صلاة الجمعة والأعياد؛ بل اكتفوا بنماذج ابن نباتة معاصر سيف الدولة في القرن الرابع الهجري، وأخذوا يبدئون فيها ويعيدون دون تغيير أو تبديل.
جاء عصرنا الحديث إذن والخطابة السياسية ميتة، والخطابة الدينية كأنها الأخرى ميتة، فلما أخذنا نسترد حريتنا وننقل القضاء الغربي إلى ديارنا عادت الخطابة السياسية إلى النشاط، وأنشأنا خطابة جديدة عرفها الأوربيون هي الخطابة القضائية. فوُجد المحامون ووجد المدَّعون، ونبغ في الطرفين مجموعة كبيرة من نابهي الخطباء القضائيين.
وبذلك تنهض مصر بهذين اللونين من الخطابة في الأدب العربي الحديث، فهي التي أتيح لها أن تنشط فيهما؛ إذ كانت الحريات مكبوتة في البلاد العربية الخاضعة لتركيا، ولم يُنْقَلْ إليها النظام القضائي الغربي، فكنا السابقين في هذين اللونين.
مصر إذن هي التي سبقت البلاد العربية إلى إنشاء الخطابة القضائية وإحياء الخطابة السياسية وبَعْث حياة رائعة فيها بما كان يقرأ خطباؤها عن الثورات الغربية ومبادئها في الحرية والإخاء، وبما كانوا يقرءون عند كُتاب الغرب المختلفين في الحقوق الإنسانية.
ومصر هي التي صنعت نموذج المقالة، وحقًّا أسهم في هذه الصناعة إخواننا السوريون واللبنانيون الذين هاجروا إلينا مثل أديب إسحاق؛ ولكن من الحق أيضًا أننا لم نصل إلى فاتحة هذا القرن حتى كان لنا كُتاب متميزون حملوا خير حمل عبء النهوض بالمقالة سياسية وغير سياسية؛ بل لقد دفعوها أشواطًا حتى أصبحت ثرية بالفكر الحي النشيط.
ومن الواجب أن نذكر هنا المنفلوطي، وهو لم يكن يكتب في السياسة؛ إنما كان يكتب في الاجتماع، فكان ينشر في صحيفة "المؤيد" مقالات تتناول بعض جوانب المجتمع بعنوان "النظرات"، ينظر فيها في بعض مساوئنا الاجتماعية، وقد جمعها ونشرها بنفس العنوان. وليس المهم الموضوع فكثيرًا ما طرقه كُتابنا؛ إنما المهم الإطار الذي صاغه فيه، فقد عُني بأسلوبه وأدى معانيه فيه أداء فنيًّا بديعًا، ولم يحاول ذلك في أسلوب السجع الذي أهملناه؛ وإنما حاوله في الأسلوب المرسل الجديد؛ ولكنه عُنِيَ عناية بارعة بهذا الأسلوب، عُنِي باختيار ألفاظه وانتخابها، ووفَّر لها ضروبًا من الموسيقى بحيث تسيغها الآذان وتقبل عليها. وكان شبابنا في أول القرن يعجب بهذا الأسلوب إعجابًا شديدًا، وظل ذلك الإعجاب يرافقنا طويلًا.
ولم تكن المحاولات التي حاولناها في هذه الدورة من حياتنا قبل ثورتنا وقبل نهاية الحرب الأولى تقتصر على المقالة والخطابة، فقد أخذ كُتابنا يحاولون محاولة أخرى في لون جديد لم نكن نعرفه، وكان قد تُرجم إلينا منه آثار غربية كثيرة، وهو لون القصة، وقد صنعنا فيه حينئذ بعض محاولات لعل أهمها "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي و"زينب" لمحمد حسين هيكل.
أما المحاولة الأولى، فتصور كيف كان بعض كُتابنا لا يزالون يستوحون
النماذج القديمة. ومن أهم هذه النماذج -كما نعرف- المقامة، وهي قصة قصيرة لأديب متسول، يرويها راوٍ عنه في أسلوب مسجَّع، وقلما زادت عن صحيفتين أو ثلاث. وهذا النموذج القصير تحول عند المويلحي إلى قصة اجتماعية طويلة ليست لأديب متسول؛ وإنما هي لأحمد "باشا" المنيكلي الذي تُوفي في عصر محمد علي، ثم بُعث أو رُدت إليه الحياة في أواخر القرن، فنفض عنه تراب القبر، وخرج فالتقى بعيسى بن هشام راويته، وأخذ يعيش في حياة مصر الجديدة حينئذ، فوجد كل شيء تغير، وأخذ يقارن بين الحاضر والماضي في نظام الشرطة والقضاء وعادات الناس مصورًا ذلك في صورة نقد اجتماعي واسع، وهو نقد صاغه في أسلوب المقامات المسجوع، وكأنه يكتب مقامة طويلة.
وهذه القصة تدل في وضوح على أنه كان لا يزال بين كُتابنا من يكتبون على الطريقة التقليدية؛ ولكنهم كانوا يحاولون أن يلائموا بينها وبين حياتنا الحديثة، على نحو ما يصنع المويلحي في هذه القصة؛ إذ يخوض في الشئون الاجتماعية التي كان يكتب فيها المصلحون من مثل: قاسم أمين وفتحي زغلول. ومن المؤكد أن أمثال المويلحي الذين كانوا يصطنعون الأسلوب المسجوع كانوا يدخلون في الظلال شيئًا فشيئًا؛ ليحل محلهم ذوق جديد.
وخير ما يصور هذا الذوق حينئذ المحاولة الثانية أو القصة الثانية التي ألفها هيكل وهو في باريس سنة 1910، ثم نشرها في صحيفة "الجريدة" وهي محاولة جديدة كل الجدة، فليس فيها شيء من أسلوب المقامات، ليس فيها عيسى بن هشام راوي بديع الزمان، وليس فيها سجع ولا بديع؛ وإنما فيها لغة سهلة قريبة من لغتنا اليومية؛ بل لا بأس عند مؤلفها من اقتراض بعض ألفاظ عامية تدعو إليها ضرورات القصة.
وهي قصة مصرية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، تصور حياة ريفنا المصري وطبقاته الغنية والفقيرة وما يقوم بين هذه الطبقات من عوائق اجتماعية. وتتضح في القصة دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة، كما يتضح فيها ريف مصر، لا بفلاحيه