الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني:
الشعر وتطوره:
1-
استمرار التقليد:
كان الشعر يجري في مصر في أثناء النصف الأول من القرن التاسع عشر على الصورة السيئة التي كان يجري عليها في أثناء العصر العثماني، وهي صورة رديئة مسفة سواء في الأغراض والمعاني والأساليب، أما الأغراض فكانت ضيقة تافهة، وكانت المعاني مبتذلة ساقطة، وأما الأساليب فكانت متكلفة، مثقلة بأغلال البديع وما يتصل بها من حساب الجمل الذي كانوا يؤرخون به حوادث شعرهم وقصيدهم.
ولم يكن أمام الشعراء مُثل فنية عليا يحلمون بها؛ إنما كل ما كان يحلم به الشاعر أن يتعلم فن العروض وصياغة النظم، ثم يعالج هذه الصناعة على نحو ما يعالج طلاب المدارس الثانوية تمارين النحو والبلاغة، فشعرهم أشبه ما يكون بكراريس التطبيق، ليس فيه رُوح ولا حياة ولا عاطفة حقيقية أو شعور؛ وإنما فيه المحاكاة والتقليد.
ونحن حين نقرأ هذا الشعر الآن لا نقرؤه لنجد فيه متعة أدبية، ولا لنغذي عواطفنا ومشاعرنا، ولا لنزيد من ثروتنا الذهنية؛ وإنما لنؤرخ طورًا من أطوار حياتنا الأدبية. وكان المظنون أن يتغير شعراؤنا منذ الحملة الفرنسية، ومنذ أخذنا نتصل بالحياة الغربية ونكوِّن لأنفسنا حياة عقلية جديدة، ولكن يظهر أن هذه الحياة لم تتعمق إحساس الشعراء، فظلوا في حياتهم الفنية مع القديم، وظلوا يَحْجُلون في هذه السلاسل الممقوتة من البديع الذي لا تقبله النفس، ولا يطمئن إليه الذوق، ولا
يأنس له العقل؛ لأنه لا يحوي معنًى؛ وإنما هو زخارف لفظية تخنق الشعور، وتقتله قتلًا.
وقد أخذت مصر مع أوائل القرن التاسع عشر في النهوض؛ ولكن محمد علي وجَّه هذا النهوض إلى العلم والفن التطبيقي ولم يعنَ بالشعر والشعراء؛ فقد كان تركيًّا في ثياب مصرية؛ بل لقد كان تركيًّا في ثياب تركية، فكسد الشعر في سوقه وسوق خليفتيه: عباس وسعيد، وأيضًا فإنه قتل الروح المصرية الناشئة -ونقصد الروح القومية- فلم تتفتح عيون المصريين لعهده على حياة كريمة.
ومن أجل ذلك لم يتحرر -في رأينا- الشعر المصري من قيوده الغليظة؛ إذ لم توجد بواعث تدفعه إلى هذا التحرر، لا بواعث من قِبَلِ حرية قومية ولا من قبل حرية شخصية؛ فإن المصريين أُخذت أراضيهم؛ إذ ألغى محمد علي الملكية الزراعية إلغاء تامًّا، وسخرهم في الأرض يفلحون ويزرعون، وكأنهم ليسوا أكثر من أدوات تستغل لضرائبه ورغباته.
ومعنى ذلك أن المصريين لم يفرغوا لحياة روحية، أو بعبارة أخرى: لحياة أدبية؛ فقد كان الحاكم يضيِّق عليهم في الرزق، ولم يكن يتيح لهم ما ينبغي من حرية، فطبيعي ألا تنهض حياتهم الفنية حينئذ؛ لأنها لا تزال تسير في نفس الدروب والمسالك الضيقة التي كانت تسير فيها في أثناء الحكم العثماني، ولا يزال الشعراء يشعرون بكثير من الضنك والفقر والبؤس.
ولا بد لجودة الإنتاج الأدبي أو لنهوضه أن ييسَّر لأصحابه شيء من لين العيش ويُسْر الحياة، وشيء من الحرية الفردية التي تردُّ إليهم كرامتهم، وتشعرهم أنهم أحياء، وهي حرية تستمد من حرية الشعب نفسه تلك الحرية التي تمكنه من تحقيق آماله ومطامحه واعتداده بوجوده، فيحس كل شخص أنه يعيش معيشة كريمة، ويتعاون مع مواطنيه في بعث الحياة في كل مرفق وكل شأن من شئون أمته.
وقد حقق محمد علي لمصر كثيرًا مما كانت تحلم به في السياسة والعلم،
ولكنه لم يكن يريد بذلك مصر؛ إنما كان يريد شخصه ومطامعه في تحقيق إمبراطورية ضخمة، فلم تكن مصر هي الموضوعة نصب عينيه؛ إنما كانت أحلامه هي التي تدفعه إلى النهوض بالجيش وإعداد حياة علمية من أجله؛ ولذلك لم يحقق للمصريين حرياتهم الفردية والسياسية، ولا حقق لهم رخاء ماديًّا ينتهي بهم إلى رخاء أدبي، فوقف الأدب ووقف الشعر معه عند حياة جامدة خاملة.
واقرأ في دواوين الشعراء الذين عاصروا محمد علي وعباسًا الأول وسعيدًا من مثل: إسماعيل الخشاب، والشيخ حسن العطار، والشيخ محمد شهاب الدين، والسيد الدرويش؛ فلن تجد سوى صور لفظية قد تدثرت بثياب غليظة من محسنات البديع، ولن تجد شعورًا ولا عاطفة. وفيمَ الشعور والعاطفة وكل شيء في الحياة المصرية خامد هامد؟ ولقد تبلدت الحياة، ولم تصب فيها تيارات قومية ولا نفسية جديدة، فجمد الشعر والشعراء، ولم يعد هناك إلا التقليد، وهو تقليد قاصر يقف عند النماذج العثمانية وما يقترب منها، تقليد يشهد بقصور الأدب وضعف الذوق والعجز عن التعبير الحر الصادق.
وعن أي شيء يعبِّر الشاعر وكل ما يتصوره من الشعر أنه نظم لمعانٍ معروفة، وكل ما له من فضل تكديس ألوان البديع بل إثقاله، وإضافة أثقال جديدة من مثل أن ينظم الشاعر قصيدة من حروف معجمة أو مهملة، أو تُقرأ أبياتها من آخرها إلى أولها على نحو ما تقرأ من أولها إلى آخرها، أو ينظم قصيدة تأتلف من أوائل الحروف في أبياتها أبياتًا أخرى، أو يستخرج منها تاريخًا بحساب الجمل.
وليس وراء هذا جميعه إلا الفساد؛ فقد أصبح الشعر حسابًا وأرقامًا وتمارين هندسية عسيرة الحل؛ فإن ترك ذلك الشاعر فإلى الاقتباس والتضمين والتشطير والتخميس لقصائد معروفة. وليس للشاعر من فضل في هذا العمل إلا أنه يُجري كلامًا على آلات العروض والقوافي، وهو كلام مفكك؛ إذ يرص الشاعر الألفاظ على نحو ما يصنع عمال المطابع، فتتألف صناديق من الحروف؛ ولكن لا تتألف أبيات من الشعر؛ وإنما تتألف ألعاب بهلوانية.