المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ علي محمود طه 1902-1949م: - الأدب العربي المعاصر في مصر

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌فهرس الموضوعات:

- ‌الفصل الأول: مؤثرات عامة:

- ‌ أحداث كبرى:

- ‌ تياران: عربي وغربي:

- ‌ المطبعة والصحف:

- ‌ الشعر وتطوره:

- ‌ استمرار التقليد:

- ‌ نهضة وإحياء:

- ‌الفصل الثالث: أَعْلام الشعر:

- ‌ محمود سامي البارودي 1838-1904م:

- ‌ إسماعيل صبري 1854-1923م:

- ‌ حافظ إبراهيم 1870-1932م:

- ‌ شوقي 1869-1932م:

- ‌ خليل مطران 1872-1949م:

- ‌ عبد الرحمن شكري 1886-1958م:

- ‌ عباس محمود العقاد 1889-1964م:

- ‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

- ‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

- ‌ علي محمود طه 1902-1949م:

- ‌الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه:

- ‌ تقيد بأغلال السجع والبديع:

- ‌ حركة تحرر وانطلاق:

- ‌ بين الجديد والقديم:

- ‌ تجديد شامل:

- ‌ فنون مستحدثة:

- ‌المسرحية:

- ‌الفصل الخامس: أعلام النثر:

- ‌ محمد عبده 1849-1905م:

- ‌ مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م:

- ‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

- ‌ مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:

- ‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

- ‌ إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م:

- ‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

- ‌ طه حسين 1889-1973م:

- ‌ توفيق الحكيم:

- ‌ محمود تيمور 1894-1973م:

الفصل: ‌ علي محمود طه 1902-1949م:

إني امرؤ عشت زما

ني حائرًا معذَّبا

فراشة حائمة

على الجمال والصبا

تعرَّضت فاحترقت

أغنية على الرُّبَى

تناثرت وبعثرت

رمادها ريح الصبا

وتلك صورة ناجي وحبه في دواوينه جميعًا، فهو فراشة تحوم دائمًا على مصباح الهوى، ولا تلبث أن تتلظى بنيرانه، وتحيل ألمها بهذا اللظى؛ بل احتراقها فيه، شعرًا يأخذ بمجامع القلوب؛ لصدقه وحرارته وقوة تأثيره.

وواضح من أكثر ما أنشدناه من أشعاره أنه كان يُعْنَى في شعره بالتجديد في عروضه، فأكثر من الرباعيات على طريقة عمر الخيام؛ ولكن هذا التجديد ليس شيئًا بالقياس إلى تجديده في مضمونه وما أذاع فيه من مشاعره وأحاسيسه إزاء حبه التعس المحروم.

ص: 161

10-

‌ علي محمود طه 1902-1949م:

أ- حياته:

في بلدة المنصورة المطلة على فرع دمياط بشمال الدلتا وُلد علي محمود طه سنة 1902 لأسرة متوسطة على حظ من الثقافة. وأرسله أبوه إلى "الكُتَّاب" فالمدرسة الابتدائية. وهنا نراه يحاول اختصار الطريق فلا يدخل التعليم الثانوي؛ بل يلتحق بمدرسة الفنون التطبيقية ويتخرج فيها سنة 1924، ويعين بهندسة المباني في بلدته.

وربما كانت النزعة الفنية هي التي جعلته يختصر طريق تعليمه، فعاش من أول الأمر لشعره الذي كان ينظمه في أثناء تعلمه، واختار لنفسه حياة

ص: 161

هيِّنة ليس فيها مشقة في التثقيف والتحصيل، وكأنه لم يكن ينزع به في أول حياته أمل كبير.

وكان أهله على شيء من الثراء، فلم يحس بشظف الحياة وما يكون فيها من حرمان وشقاء؛ بل لكأني به دُلِّل طفلًا، وظلت آثار هذا الدلال فيه رجلًا، فهو لا يعرف من الحياة إلا الهناءة والرغد.

ومكث طويلًا في وظيفته وفي بلدته يتنقل في محيطها وفي البلاد المجاورة لها وخاصة دمياط؛ فقد كان كثير النزول بها وببلدة "السنانية" التي تقابلها، وهي بستان كبير يمتد إلى مصيف رأس البر، وتقابلها على الضفة اليمنى للنيل بحيرة المنزلة. وكل هذه الأماكن مصورة في ديوانه الأول "الملاح التائه". وقد أخذ يسعى للتعرف على الأدب الفرنسي والاطلاع على روائعه وآثاره، ونراه يراسل مجلتي أبولو والرسالة. ويحاول أن يتصل بالنهضة الأدبية في القاهرة منذ سنة 1933، فترحِّب به دوائر الأدباء.

وفي ديوان "ليالي الملاح التائه" ما يدل على أنه زار إيطاليا في سنة 1938، وأخذ منذ هذا التاريخ يتردد على سويسرا والنمسا وأواسط أوربا، وكان لذلك أثره في شعره؛ إذ وصف كثيرًا من المشاهد التي رآها هناك.

ويترك وظيفته في وزارة الأشغال ليعمل مدير الْمَعْرِض الخاص بوزارة التجارة، ثم يعين مديرًا لمكتب الوزير، ثم يلحق بسكرتارية مجلس النواب، ويقيم في هذه الفترة بالقاهرة، ويغرق إلى أذنه في مباهج الحياة. ويكثر من الرحلات الصيفية إلى أوربا. ويخرج مع استقالة الوزارة الوفدية من الحكومة. ويعين في سنة 1949 وكيلًا لدار الكتب ولكن القدر لم يمهله، فلبى نداء ربه في نفس العام مبكيًّا عليه من أصدقائه وعارفيه؛ إذ كانت فيه نواحٍ إنسانية تستحق التقدير، وطالما أعان إخوانه وزملاءه من الأدباء، وكان بيته منتدًى حقيقيًّا لصحبه، وحوَّله إلى ما يشبه متحفًا فنيًّا؛ إذ ملأه باللوحات الباهرة. ومما يؤثر له أنه أهدى مكتبته قبل وفاته إلى مكتبة بلدته "المنصورة"، ولعل في هذا ما يدل على ضرب من الوفاء لقديمه وذكرياته.

ص: 162

ب- شعره:

يتبين مما قدمناه من حياة علي محمود طه أنه نشأ في إحدى بلدان الوادي الجميلة، وتيقظت مواهبه الشعرية في وقت مبكر، إلا أنها لم تتغذَّ تغذية كاملة بأصول الشعر العربي، وأكبر الظن أن قراءاته في هذا الشعر لم تكن تتجاوز دواوين حافظ وشوقي ومطران إلا في القليل النادر، فقد كان يقرأ أحيانًا في البحتري وغيره من شعراء العصر العباسي.

وقراءاته في الآداب الغربية لم تكن واسعة؛ إذ لم تتح له ثقافة عالية، ومع ذلك تعلم بنفسه اللغة الفرنسية، إلا أنه لم يتقنها؛ إنما كان يتقن الإنجليزية، وهو على كل حال لم يكن واسع الثقافة بآثار الغربيين، وإن كان قد حاول أن يتأثرهم. وكان أهم من أعجب به "لامرتين" وأضرابه من شعراء الرومانسية. وقرأ أو عرف أشياء مختلفة عن أصحاب الرمزية الفرنسية مثل:"بودلير" و"فرلين".

ومن هذا كله تتكوَّن شخصيته الأدبية، وهي شخصية ترجع في جوهرها إلى ملكاته أكثر مما ترجع إلى قراءاته، وكان يقرأ كثيرًا في أدباء شعراء المهاجر، وهم يتأثرون تأثرًا عميقًا بالنزعة الرومانسية الغربية، كما كان يقرأ كثيرًا في مجلة أبولو وما بها من أبحاث أدبية.

ومع هذه القراءات غير المتعمقة هنا وهناك لم تنكسر نفسه؛ إذ كان يؤمن بشخصيته وأتاح له هذا الإيمان أن يحتل مكانة بارزة في صفوف الشعراء الذين عاصروه؛ إذ استطاع أن يكوِّن لنفسه أسلوبًا شعريًّا براقًا.

وهو من هذه الناحية أكثر شعرائنا بعد شوقي توفيقًا في صياغته الشعرية، وكأنما كانت لديه خبرة تمكِّنه من أن يقتنص الكلمات الشعرية في القصيدة التي يصنعها، فإذا هي كعقد من الجواهر تتألق فيه حَبَّاته. ويظهر أنه عرف عن شعراء الرمزية

ص: 163

أنهم يعنون عناية شديدة بموسيقاهم، فاستقر ذلك في نفسه، وصدر عنه في شعره؛ ولكن لا تظن أنه نظم قصائد رمزية يجاري بها أصحاب هذا المذهب في شعرهم المجنح الغامض.

وليس من شك في أنه فهم المذهب الرومانسي بخير مما فهم المذهب الرمزي؛ لوضوحه وعدم غموضه والتوائه؛ ولكنه على كل حال أفاد من المذهب الرمزي هذه العناية الشديدة بموسيقاه وبالكلمات الشعرية، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه وقع فريسة لهذه الكلمات، فقد استولت عليه بتموجاتها المختلفة وما ترسله من إشعاعات. وشعر كأن هذه كل مهمته، فما عليه إلا أن يطلق هذه الكلمات في تجربة تسمى قصيدة، فإذا هي كالشِّباك السحرية تصيد له المعجبين من كل مكان.

وقد يكون السبب في ذلك ضعف ثقافته الفكرية، فحاول ملء هذا الفراغ بطنين ألفاظه الخلابة التي تستهوي قارئه برنينها، وتؤثر على حواسه بإيقاعاتها. وهذه هي أروع خصائصه، فهو يؤلف القصيدة وكأنه يؤلف جوقات موسيقية، وهي جوقات لفظية، ليس فيها فكر عميق ولا استبطان في الإحساس؛ وإنما فيها هذا الشرر اللفظي الذي يجعل أشعاره -بل ألفاظه- تتوهج توهجًا.

وأول دواوينه التي نشرها "الملاح التائه"، وهو يصور منزعه الرومانسي، فأكثره في الحب والطبيعة، وقد ترجم فيه قصيدة البحيرة للامرتين أحد أصحاب هذا المنزع المشهورين في فرنسا، ووضع في مقدمة قصيدة له تسمى "الله والشاعر" عبارة من عباراته يناجي فيها ربه، وهو بذلك يضع في يدنا الدليل المادي على تأثره بنزعة لامرتين وشعره في الطبيعة والحب.

ويُكثر في هذا الديوان من ذكريات الشباب وتأثره بالطبيعة في دمياط وببلدة السنانية وجمال مشاهداته في بحيرة المنزلة وما رآه هناك من العراك بين البر والبحر، ومن خير قصائده في ذلك "على الصخرة البيضاء"، وهو في كل قصيدة يذيع حيرة حُلوة، فهو تائه في الكون ضال في مجالي الطبيعة. وعلى الرغم من بساطة تأملاته ووضوح أفكاره -فوجهها دائمًا مكشوف- نجد

ص: 164

عنده جمال الأسلوب الشعري المصفى، حتى لكأنه ناي يصدح أو قيثارة تشدو وتغني.

وهو لا يهدف إلى رسم صورة الطبيعة أو الريف المصري من حيث هو؛ إنما يهدف إلى وصف شعوره وحسه وحيرته في الحياة، مازجًا ذلك في أغلب الأحيان بحبه. وربما كانت أجمل قصائده في هذا الديوان قصيدته "غرفة الشاعر"، وهو يستهلها على هذا النمط:

أيها الشاعر الكئيب مضى الليـ

ـل وما زلتَ غارقًا في شجونك

مسلما رأسك الحزين إلى الفكـ

ـر وللسُّهْد ذابلات جفونك

ويد تمسك اليراع وأخرى

في ارتعاش تمر فوق جبينك

وفم ناضب به حر أنفا

سك يطغى على ضعيف أنينك

ومضى يصور سراجه الشاحب وعبء عبقريته الشاعرة وما يتردد في نفسه من حزن لعدم تقدير مواطنيه له.

ونشر بعد هذا الديوان "ليالي الملاح التائه" بنفس الروح وبنفس الشخصية، وهو يستهله بأغنية "الجندول" التي تَذيع في عصرنا على كل لسان، فقد غناها عبد الوهاب. وهي من خير الأمثلة التي تدل على مهارته في استخدام الألفاظ الشعرية، فإنك إذا حللتها لم تجد فيها فكرًا عميقًا ولا واسعًا؛ وإنما تجد الألفاظ البراقة التي تروعك وتأسر لُبَّك.

والقصيدة في وصف "كرنفال فينسيا"؛ إذ يحتفل أهلها بعيد سنوي لهم ينطلقون فيه بشوارعها المائية في سفن، يسمون واحدتها "الجندول" فيغنون ويمرحون. وفي هذا الديوان قصيدة أخرى في بحيرة "كومو" الإيطالية وقصيدة في "خمرة نهر الرين". وجميعها قصائد أوحتها زياراته لأوربا ومواطن الجمال في بلدانها المختلفة. ومن أروع قصائده في هذا الديوان "الموسيقية العمياء". وهي فتاة رآها بمطعم في القاهرة على رأس إحدى الفرق الموسيقية، فأثَّر فقد بصرها في نفسه تأثيرًا عميقًا، صوره في تلك القصيدة تصويرًا رائعًا. ونظم قصيدة سماها "سيرانادا مصرية" والسيرانادا عند الأوربيين أغنية يشدو بها العشاق على الناي

ص: 165

تحت نوافذ معشوقاتهم، وهو يستهلها بقوله:

دنا الليل فهيا الآ

ن يا ربة أحلامي

دعانا ملك الحب

إلى محرابه السامي

تعالَيْ فالدجى وحي

أناشيد وأنغام

وفي سنة 1941 أخرج كتابه "أرواح شاردة"، وأكثره مقالات عن الأدب الإنجليزي والفرنسي، وقد تحدث فيه عن "فرلين" و"بودلير" الشاعرين الفرنسيين، وترجم قصائد مختلفة لشعراء إنجليز وفرنسيين، وألحق بذلك قصيدة له في دخول الألمان باريس. وتأليفه لهذا الكتاب غريب؛ ولكن يظهر أنه أراد أن يرد به على مَن يتهمونه بقصور ثقافته بالآداب الغربية.

ونراه في سنة 1942 يحاول محاولة جديدة في قصيدته الطويلة "أرواح وأشباح"، وهي حوار شعري فلسفي بين شخصيات استمدها من الأساطير الإغريقية وقصص التوراة، مصورًا خلاله ما انبث من صراع عنيف الأرواح والأشباح أو الأجساد منذ هبط دم ابن الطين من السماء يحمل قبس الروح، وهو صراع بين غرائز الطين ومواجد الإنسان الروحية السامية. وأكبر عيب في القصيدة يجثم في شخصياتها الأسطورية الإغريقية، فإنه لم يدرسها حق الدرس، ومن ثم بدت مخالفة في كثير من حقائقها لنسيجها الأسطوري القديم.

وأخرج بعد ذلك في سنة 1943 ديوانه "زهر وخمر"، وهو يصور نزعته الإبيقورية التي غمس فيها حياته، وهي ليست نزعة حادة ولا جامحة؛ وإنما هي نزعة مرحة يقبل فيها على كئوس اللذة والمتعة دون تمادٍ في تصوير الغرائز الجسدية، ونراه يفتتحه بقصيدته "ليالي كليوباترا" التي غناها عبد الوهاب، وهي مثل "الجندول" تزخر بالأشراك اللفظية، وقلما نجد فيها فكرًا عميقًا؛ وإنما نجد كليوباترا في زورق بين ضفاف النيل، وفي جوانحها هذا الحب المحموم وتلك الحواس الملتهبة للعشق، ثم جوقات موسيقية متراصة الألفاظ بدون أن يصور الشاعر إحساسًا عميقًا أو فكرًا بعيدًا، فكل همه أن يجمع كلمات متموجة، تنشر بموسيقاها ما يريد من تأثير في نفوس السامعين. ومن خير قصائده في هذا الديوان "حانة الشعراء"، وهو يستهلها على هذا النحو:

ص: 166

هي حانة شتى عجائبها

معروشة بالزهر والقصب

في ظُلَّة باتت تداعبها

أنفاس ليل مقمر السحب

وله قصيدة بديعة في طارق بن زياد فاتح الأندلس سماها "من قارة إلى قارة"، وقد صور فيها طموح هذا الفاتح العربي وظفره العظيم.

ونراه ينشر "أغنية الرياح الأربع" وهي أغنية فرعونية اكتشفها "دريتون" عام 1942 وترجمها إلى الفرنسية، فحاول علي محمود طه أن ينقلها إلى العربية في شعره الموسيقي الجميل، محاولًا أن يجعل منها عملًا تمثيليًّا؛ ومن ثم جعل لها بدءًا ونهاية كما جعلها تدور في شكل حوار بين أشخاص مختلفين تتخلله أجزاء من الغناء. ومن الحق أنه لم يستطع أن يحورها إلى مسرحية كاملة؛ إذ كان شاعرًا غنائيًّا ولم يكن شاعرًا مسرحيًّا؛ ومن ثم كان شعره لا يصلح للتمثيل؛ بسبب ما فيه من وفرة الموسيقى والغناء.

ويعود إلى مجاله الغنائي، فينشر في سنة 1945 ديوانه "الشوق العائد"، وفيه يتحدث عن بعض ذكرياته لرحلاته إلى أوربا قبل الحرب العالمية الثانية، ويخص جزيرة كابري في إيطاليا ويسميها جزيرة العشاق بقصيدة طريفة، كما يخص برلين التي نزل بها في سنة 1939 بقصيدة أخرى يسميها "بين الحب والحرب"، وفيها يأمل في غد مرتقب يحقق حلمه وحبه، ويخص موسوليني حين سقط بقصيدة طويلة. وأكثر شعره في هذا الديوان يصور روحه الإبيقورية المرحة، وكيف كان يقبل على متع الحياة وملذاتها، وهو القائل في أولى قصائده به:

حياتي قصة بدأت بكأس

لها غنَّيْتُ وامرأة جميله

وآخر دواوينه "شرق وغرب" الذي نشره في سنة 1947، وهو كما يبدو من عنوانه موزع على الغرب والشرق. أما قسمه الغربي فنراه فيه يصدر عن نزعته الإبيقورية متحدثًا عن ذكرياته في أثناء رحلاته بأوربا. وقد استهله بقصيدة رائعة قالها على أثر احتفال بذكرى فاجنر الموسيقار المشهور، شاهده في سويسرا.

ص: 167

وكان قد تعرف في هذا الاحتفال على فتاة، قضى معها بعض نزهاته، فأثارت شاعريته، واندفع يتغنى بهذه القصيدة وبأختٍ تالية لها، وهما من أروع شعره؛ لما بث فيهما من لظى ولواعج فؤاده.

أما القسم الشرقي، فقد خصه بأحداث الشرق السياسية والقضايا الوطنية والعربية الإسلامية. وكان قبل هذا الديوان يلم أحيانًا بعيد الهجرة أو بالعرب كما في قصيدة طارق؛ ولكنه لم يوسع هاتين النغمتين الإسلامية والعربية، فقد كان مشغولًا بنفسه وبحبه وما يرى في الطبيعة المصرية والغربية من فتنة وجمال. أما في هذا الديوان فقد نزع إلى التخلص قليلًا من إحساساته وعواطفه؛ ليتحدث عن الوطن والجماعة العربية والإسلامية. وله في فلسطين وفوزي القاووقجي وعبد الكريم بطل المغرب وأندونيسيا شعر كثير. ومن أجمل قصائده "مصر"، وفيها يصور فساد الأحزاب السياسية وشيوخها القائمين عليها، كما نرى في قوله:

أحقا ما يقال؟ شيوخ جيل

على أحقادهم فيه أكبوا

وكانوا الأمس أرسخ من جبال

إذا ما زُلزلزت قمم وهُضْب

فما لهم وهت منهم حلوم

لها بيد الهوى دفع وجذب

ونظن ظنًّا لو أن القدر مد في حياته لتحول تمامًا من صوته الأول الشخصي إلى هذا الصوت العام الذي يتغنى فيه أهواءنا وعواطفنا السياسية. ومن قصائده الذائعة في هذا المضمار قصيدته "نداء الفداء" التي يستصرخ فيها العرب لنجدة فلسطين:

أخي! جاوز الظالمون المدى

فحَقَّ الجهادُ وحق الفدا

وقد غناها عبد الوهاب، وهي تدور اليوم على كل لسان. ولم نستشهد بقطع طويلة من شعره؛ ليتضح تجديده في الأوزان والقوافي، فقد كان يكثر من الرباعيات، وقصيدته الجندول مثال بيِّن لاستخدامه "فن الموشحات".

ومن الواجب أن نشير إلى أن مثله مثل ناجي، كان يفهم وَحْدَة القصيدة، وأنها بناء متناسق، لا نشاز فيه ولا اضطراب.

ص: 168