الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:
أ- حياته وآثاره:
وُلد مصطفى صادق الرافعي في سنة 1880 لأسرة لبنانية الأصل من "طرابلس الشام"، هاجر كثير من أفرادها في القرن الماضي إلى مصر، واشتغلوا فيها بالقضاء الشرعي. وكان والد مصطفى رئيسًا للمحاكم الشرعية في كثير من أقاليمنا المصرية، ويسمى عبد الرزاق. وقد عُين أحد أفراد هذه الأسرة -وهو الشيخ عبد القادر الرافعي- مفتيًا بعد وفاة الشيخ محمد عبده، إلا أن القدر لم يمهله طويلًا. فالجو الذي تنفس فيه مصطفى كان جوًّا إسلاميًّا عربيًّا. وقد عُني به أبوه، فحفَّظه القرآن ولقنه تعاليم الدين الحنيف، ثم ألحقه في سن الثانية عشرة بمدرسة دمنهور الابتدائية؛ حيث كان يتولى عمله القضائي. ونُقل إلى المنصورة فأتم مصطفى دراسته الابتدائية هناك، وهو في السابعة عشرة من عمره. وبمجرد فراغه من هذه الدراسة أصابته حمى عنيفة -لعلها حمى التيفويد- وشفي منها، إلا أنها خلفت وراءها حُبْسة في صوته، ووقرًا في أذنيه، ولم يفد العلاج معه شيئًا؛ بل لقد أخذ سمعه يضعف، حتى انتهى إلى الصمم الخالص في سن الثلاثين.
وكان هذه الصدمة سببًا في أنه لم يتم تعلمه، غير أنه عكف على الكتب ينهل منها ويفيد معتمدًا على ذكائه، وعُين في إبريل سنة 1899 كاتبًا بمحكمة طلخا الشرعية، ونُقل منها إلى محكمة إيتاي البارود ثم محكمة طنطا الشرعية، فالأهلية، وظل في هذه الوظيفة إلى وفاته. ويقال: إن أواصر الصداقة انعقدت بينه وبين الكاظمي، وهو لا يزال بطلخا، ولعله هو الذي شجعه على نظم الشعر في باكورة حياته، كما يقال: إنه عرف الحب في إيتاي البارود.
ونحن نلتقي به في مطالع القرن العشرين شاعرًا ناضجًا من ذوق مدرسة البارودي، وقد قرَّظه وأشاد بفضله حين نشر الجزء الأول من ديوانه سنة 1902 كما نوَّه به المنفلوطي، وفي العام التالي نشر الجزء الثاني من هذا الديوان، فقرظه البارودي ثانية، وحيَّاه الشيخ محمد عبده راجيًا أن يسدي في خدمة الإسلام ما أسداه حسان في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام. ونشر الجزء الثالث من ديوانه سنة 1912، وناب حافظ إبراهيم عن البارودي في تقريظه. وبجانب هذا الديوان نشر ديوانًا ثانيًا بعنوان النظرات سنة 1908، كما نشر قصائد متفرقة في مجلتي فتاة الشرق وأبولو. ويبدو في أشعاره جميعها تمسكه -على شاكلة مدرسة البارودي- بالصياغة القديمة. وقد فسح للغزل في دواوينه كما فسح للتهاني والمراثي والمشاعر الوطنية والإسلامية وأحاسيس المرارة من حالة مصر الاجتماعية حينئذ. ونراه دائمًا يحاول أن يبعث شعور الثقة إلى بني وطنه، كما نراه مهتمًّا بقضية المرأة العربية محذرًا لها من المغالاة في تقليد الأوربيات اللائي لا يعصمهن دين ولا عقيدة. وقد عُني إلى ذلك بوصف الطبيعة ووصف بعض المخترعات الحديثة كالخيالة وآلة التصوير.
ولا نكاد نتقدم في العقد الثاني من هذا القرن حتى نراه يتجه باطراد إلى النثر، وتصادف أن رصدت الجامعة المصرية جائزة لكتاب في "أدبيات اللغة العربية"، فعكف على الأدب العربي يدرسه، ولم يلبث أن نشر الجزء الأول من كتابه "تاريخ آداب العرب" سنة 1911، وهو يدل على إيمانه الشديد بهذه الآداب، وأنها تعلقت قلبه حتى الشغاف. ودار العام، فأصدر الجزء الثاني من هذا التاريخ، وقصره على إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وقد طبعه فيما بعد مستقلًّا باسم إعجاز القرآن، وكتب سعد زغلول تقريظًا له شبَّه فيه أسلوب المؤلف بالتنزيل الحكيم، وهو تشبيه يصور حقيقة كبيرة، فإن الرافعي يتأثر في نثره العبارة القرآنية في بلاغتها وسموها.
ويتراءى الرافعي منذ هذا التاريخ مالكًا لأزمة اللغة والبيان، وكان أول ما جاشت به نفسه من النثر الفني كتابه "حديث القمر" الذي نشره في سنة
1912 بعد رحلة طاف بها لبنان، وعرف شاعرة كان بينه وبينها حديث عاطفي طويل في الحب، ومن ثم كان الكتاب فصولًا في الحب والجمال والزواج والطبيعة، تتخللها أشعار متفرقة. وهو فيه يتفنن في معانيه وأساليبه تفننًا رائعًا. ونتقدم معه إلى سنة 1917 فنراه يخرج كتابه "المساكين" معارضًا به كتاب "البؤساء" لفيكتور هيجو، وهو فصول شتى تصف بؤس البائسين وآلامهم، وتعرض آراء مختلفة في الفقر والحظ والحب والجمال والخير والشر.
ونراه بعد ثورتنا في سنة 1919 يُعْنَى بأناشيدنا الوطنية، ونشيده "اسلمي يا مصر" يدور على كل لسان. ويهتم بقضية المرأة، فيؤلف من أجلها كتابه "رسائل الأحزان" الذي نشره في سنة 1924، ويزعم في مطلعه أنه رسائل صديق بعث بها إليه، وهو يقص فيه حكاية حب مصورًا خواطره في العشق والزواج بقلمه البليغ.
وقد مضى ينشر في نفس السنة كتابه "السحاب الأحمر" يتحدث فيه عن فلسفة الغضب وحمق الحب وخبث المرأة. وانطوت ست سنوات فعاد إلى هذا الموضوع ونشر "أوراق الورد" مصورًا آراءه في الحب والجمال. والرافعي في هذه الكتب جميعها يفتنُّ في العبارة وفي توليد المعاني.
ونراه منذ احتدمت المعركة بين القديم والجديد في سنة 1923 يحمل لواء المحافظين مدافعًا بقوة عن مُثله العربية الإسلامية، وقد عرضنا لهذه المعركة وموقفه منها في غير هذا الموضع، إلا أنه ينبغي أن نعود فنشير إلى كتابه "تحت راية القرآن أو المعركة بين القديم والجديد" الذي نشره في سنة 1926 عقب ظهور كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، وفيه صوَّب سهامه إلى كل ما في هذا الكتاب من آراء وأفكار. وتحول إلى المجددين في الشعر ممثَّلين في عباس العقاد يرميهم بأقذع صور الهجاء في كتابه "على السَّفُّود". وظل بقية حياته ثابتًا للمجددين من الشعراء والكتاب جميعًا، ينقدهم نقدًا مرًّا، كما ظل مؤمنًا بالميراث العربي في لغته وآدابه، وأن نهضة العرب لا تقوم إلا على أساس وطيد من الدين وعربيته الفصحى السليمة، وكان يكتب في ذلك المقالات المختلفة في المجلات. ودعاه أحمد حسن الزيات للإسهام في تحرير مجلة الرسالة، فلبَّى
الدعوة، وأخذت مقالاته في الإسلام والعروبة تتوالى، حتى وافاه القدر، وقد جُمعت هذه المقالات وطُبعت في لجنة التأليف والترجمة والنشر باسم "وحي القلم" وهي في ثلاثة أجزاء.
ب- "مقالات وحي القلم":
رأينا الرافعي ينشأ نشأة إسلامية عربية، وهي نشأة تغلغلت أصداؤها في فؤاده ونمت مع الزمن، فإذا هي تتحول إلى نثر فني بليغ يفيض بالإخلاص والطهر والإحساس بآلام الجماعة وكوارثها والشعور الدقيق بمآثر العرب ودَوْرهم في التاريخ وبمعاني الإسلام ومُثله الرفيعة. وهو إلى ذلك يصف الحب ومعانيه والجمال وألوانه والطبيعة ومفاتنها وما أودع الله فيها من المعاني التي تبهج الإنسان. وفي كل ذلك يغمس قلمه متأنيًا مترويًا، فالكتابة البيانية ليست شيئًا يسيرًا؛ بل هي شيء عسير، لا بد فيه من تأمل طويل، تأمل في الفكرة واستنباط فيها وتوليد، حتى تستحيل إلى موضوع متشعب كبير، وقد صوَّر ذلك في تقديمه للجزء الأول من وحي القلم، فقال:
"لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها، يقيمها الكاتب على حدود، ويديرها على طريقة، مصيبًا بألفاظه مواقع الشعور، منيرًا بها مكامن الخيال، آخذًا بوزن، تاركًا بوزن؛ لتأخذ النفس كما يشاء وتترك. ونقل حقائق الدنيا نقلًا صحيحًا إلى الكتابة أو الشعر هو انتزاعها من الحياة في أسلوب، وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدق وأجمل، لوضعه
كل شيء في خاص معناه، وكشفه حقائق الدنيا كشفة تحت ظاهرها الملتبس. وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة، تستدرك النقص فتتمه، وتتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيد فتطلقه، وتأخذ المطلق فتحدُّه، وتكشف الجمال فتظهره، وترفع الحياة درجة في المعنى، وتجعل الكلام كأنه وجد لنفسه عقلًا يعيش به. فالكاتب الحق لا يكتب ليكتب؛ ولكنه أداة في يد القوة المصورة لهذا الوجود، تصور به شيئًا من أعمالها فنًّا من التصوير. الحكمة الغامضة تريده على التفسير، تفسير الحقيقة، والخطأ الظاهر يريده على التبيين، تبيين الصواب، والفوضى المائجة تسأله الإقرار، إقرار التناسب، وما وراء الحياة يتخذ من فكره صلة بالحياة، والدنيا كلها تنتقل فيه مرحلة نفسية لتعلو به أو تنزل. ومن ذلك لا يُخْلق الملهم أبدًا إلا وفيه أعصابه الكهربائية، وله في قلبه الرقيق مواضع مهيأة للاحتراق، تنفذ إليها الأشعة الروحانية، وتتساقط منها بالمعاني. وإذا اختير الكاتب لرسالة ما شعر بقوة تفرض نفسها عليه، منها سناد رأيه، ومنها إقامة برهانه، ومنها جمال ما يأتي به، فيكون إنسانًا لأعماله وأعمالها جميعًا، له بنفسه وجود، وله بها وجود آخر، ومن ثم يصبح عالمًا بعناصره للخير أو الشر كما يوجَّه، ويُلْقَى فيه مثل السر الذي يلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يُرى سهلًا كل السهل حين يتم، ولكنه صعب أي صعب حين يبدأ. هذه القوة هي التي تجعل اللفظة المفردة في ذهنه معنى تامًّا، وتحوِّل الجملة الصغيرة إلى قصة، وتنتهي باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة
…
ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى كالإيمان والجمال والحب والخير والحق سبتقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة".
وهو يشير في أول كلامه إلى معاني المقالة البيانية وما تستلزم من الدقة حتى تؤثر في العاطفة والخيال، ويقول: إنه لا بد لصاحبها من أن تكون له بصيرة نافذة يزيح بها الأستار عن حقائق الدنيا الخارجية، وبذلك ينكشف له عالمها الداخلي وما يموج به من أسرار ويلمع فيه من أفكار، فيعيش فيه هذه المعيشة التي تجعله يحمله إلينا بكل ما فيه من جمال وروعة.
والرافعي حقًّا من كتابنا القلائل الذين عاشوا معيشة داخلية في حقائق دنيانا، متجاوزًا ظاهرها الحسي إلى قواها الروحية الباطنة، وقد أعانه على ذلك صممه المبكر الذي جعله يحيا بين الناس وكأنه غريب عنهم، ويتحدث إليهم وهو لا يسمعهم. فكان طبيعيًّا أن يفضي إلى ذات نفسه، وأن يعيش هذه المعيشة الداخلية التي عكف فيها على عقله، وانطلق به متجولًا في باطن الحقائق الظاهرة، مسلطًا عليها من إشعاعاته العقلية ما جعل معانيها الخفية تتألق أمام عينيه.
واقرأ له في وحي القلم أي مقالة، فستراه يحوِّل أي موضوع اجتماعي أو سياسي أو تاريخي وأي مشهد في الطبيعة أو في حياة الناس وأي خبر من أخبار العرب أو الإسلام إلى ما يشبه ينبوعًا لا تزال تتفجر منه المعاني الخفية التي تروع بدلالاتها، وبما أخرجها فيها من صيغة عربية بديعة. فتملكه لزمام اللغة لا يقل عن تملكه لزمام المعاني، وبصره بجمال أساليبها لا يقل عن بصره بالقوى الكامنة في حقائق الأشياء.
ولمن يكن يتقن لغة أجنبية إلا أطرافًا من الفرنسية ليس فيها غناء؛ ولكنه وجد في موارده الداخلية ما يعوِّض هذا النقص؛ بل ما جعله يتقدم بطرائف فكره كثيرين ممن تعمقوا الآداب الغربية وأفادوا من كنوزها المعنوية. وحقًّا قد يجري الغموض والالتواء في جوانب من كتابته، وهما طبيعيان لمثل هذا الكاتب الذي كان يسرف في التعمق والتغلغل في معانيه إسرافًا تنوء به اللغة، فلا تنهض بما يريد أحيانًا، غير أنها حين تواتيه، يجتمع لتعبيره جلال الإدراك العقلي وجمال الأسلوب اللفظي؛ إذ كان له ذوق مهذب مصفى وحس دقيق مرهف وعقل يقتدر على التجريد والتوليد والنفوذ إلى العلاقات والدلالات البعيدة.
وهو في مقالاته بوحي القلم يستلهم دائمًا مثله الإسلامية مستضيئًا بها في كل ما يكتب، كما يستلهم مثله العربية الرفيعة؛ بحيث يمكن أن نلقبه "كاتب الإسلام والعروبة". واقرأ له مقالاته:"الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام" و"الإنسانية العليا" و"الله أكبر" و"وحي الهجرة" وغير ذلك من مقالات إسلامية فستراها حافلة بمعانٍ تملأ النفس إعجابًا. وحين تراءت
محنة فلسطين في الأفق وقف يستصرخ المسلمين للذود عن هذا الوطن المقدس وأهله من العرب أمام اليهود الجشعين، داعيًا إلى جهادهم وجهاد المستعمرين من ورائهم بأسلوب ناري متأجج، وقد جعل عنوان هذا الاستصراخ "أيها المسلمون" وفيه يقول:
"ابتلوهم باليهود يحملون في دمائهم حقيقتين ثابتتين من ذل الماضي وتشريد الحاضر. ويحملون في قلوبهم نقمتين طاغيتين: إحداهما من ذهبهم والأخرى من رذائلهم. ويخبئون في أدمغتهم فكرتين خبيثتين: أن يكون العرب أقلية، ثم أن يكونوا بعد ذلك خدم اليهود. في أنفسهم الحقد وفي خيالهم الجنون، وفي عقولهم المكر، وفي أيديهم الذهب الذي أصبح لئيمًا لأنه في أيديهم
…
يقول اليهود: إنهم شعب مضطهد في جميع بلاد العالم، ويزعمون أن من حقهم أن يعيشوا أحرارًا في فلسطين، كأنها ليست من جميع بلاد العالم!
وقد صنعوا للإنجليز أسطولًا عظيمًا لا يسبح في البحار ولكن في الخزائن. وأراد الإنجليز أن يطمئنوا في فلسطين إلى شعب لم يتعود قط أن يقول: أنا. ولكن لماذا كنستكم كل أمة من أرضها بمنكسة أيها اليهود، أجهلتم الإسلام؟ الإسلام قوة كتلك التي توجد الأنياب والمخالب في كل أسد. قوة تخرج سلاحها بنفسها؛ لأن مخلوقها عزيز لم يوجد ليؤكل، ولم يخلق ليذل. قوة تجعل الصوت نفسه حين يزمجر، كأنه يعلن الأسدية العزيزة إلى الجهات الأربع. قوة وراءها قلب مشتعل كالبركان، تتحول فيه كل قطرة دم إلى شرارة دم. ولئن كانت الحوافر تهيئ مخلوقاتها ليركبها الراكب، إن المخالب والأنياب تهيئ مخلوفاتها لمعنى آخر. لو سئلت: ما الإسلام في معناه الاجتماعي؟ لسألت: كم عدد المسلمين؟ فإن قيل: ثلثمائة مليون، قلت: فالإسلام هو الفكرة التي يجب أن يكون لها ثلاثمائة مليون قوة. أيها المسلمون! كونوا هناك، كونوا هناك مع إخوانكم بمعنى من المعاني".
ويصرخ بنفس الصوت في شباب العرب ناعيًا عليهم قعودهم عن كفاح المستعمرين وجهادهم وانحصارهم في طعامهم وشرابهم ولذاتهم، يستثير بذلك عزائمهم، حتى يضربوا عدوهم الضربة القاضية، وفي تضاعيف ذلك يقول: "ألا إن المعركة بيننا وبين الاستعمار معركة نفسية، إن لم يقتل فيها الهزل قُتل
فيها الواجب، والحقائق التي بيننا وبين هذا الاستعمار إنما تكون فيكم، أنتم بحثها التحليلي، تكذب أو تصدق.
يا شباب العرب! لم يكن العسير يعسر على أسلافكم الأولين، كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها. أتريدون معرفة السر؟ السر أنهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق، فصاروا عملًا من أعمال الخالق. غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر ومعنى الخوف والمعنى الأرضي، وعلمهم الدين كيف يعيشون باللذات السماوية التي وضعت في كل قلب عظمته وكبرياءه، واخترعهم الإيمان اختراعًا نفسيًّا، علامته المسجلة على كل منهم هذه الكلمة: لا يذل. هكذا اخترع الدين إنسانه الكبير النفس الذي لا يقال فيه: انهزمت نفسه.
يا شباب العرب! كانت حكمة العرب التي يعملون عليها: "اطلب الموت تُوهَبْ لك الحياة". والنفس إذا لم تخشَ الموت كانت غريزة الكفاح أول غرائزها تعمل. وللكفاح غريزة تجعل الحياة كلها نصرًا؛ إذ لا تكون الفكرة معها إلا فكرة مقاتلة. غريزة الكفاح يا شباب هي التي جعلت الأسد لا يسمَّن كما تسمن الشاة للذبح. وإذا انكسرت يومًا فالحجر الصلد إذا تَرَضْرَضَتْ منه قطعة كانت دليلًا يكشف للعين أن جميعه حجر صلد.
يا شباب العرب! إن كلمة "حقي" لا تحيا في السياسة إلا إذا وضع قائلها حياته فيها. فالقوة القوة يا شباب! القوة الفاضلة المتسامية التي تضع للأنصار في كلمة "نعم" معنى نعم، القوة الصارمة النفاذة التي تضع للأعداء في كلمة "لا" معنى لا.
يا شباب العرب! اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزًا وإما أن تموتوا".
ودائمًا ينفخ في روح الشباب المصري، موقظًا فيه حميته لوطنه، حتى ينقض كالأسد الكاسر على الإنجليز ويذيقهم وبال استعمارهم، إن كل مصري ينبغي أن يتحول شعلة آدمية تأتي عليهم كأن لم يكونوا شيئًا مذكورًا. إنه لم يبقَ لهم إلا لحظات وأنفاسها، فقد اتقدت الشعل، وسيرون عما قريب مسها وتحريقها، ويومها يولون على أعقابهم نادبين مولولين. واقرأ له في ذلك مقالاته:"أجنحة المدافع المصرية" و"الطماطم السياسي" و"المعنى السياسي
في العيد" يقول: "ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير
…
ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع لا رجال في أيديهم سيوف من خشب".
وتشغله في كثير من مقالاته قضية المرأة، ونراه يقدم لها النضج دائمًا بروح المسلم المحافظ على تقاليده الدينية. واسترعته حياتها الجديدة على شوطئ الإسكندرية صيفًا، فوصف هذه الحياة في مقالين بعنوان "لحوم البحر" و"احذري" أدارهما على أنشودتين لشيطان وملاك، لاعنا للرذيلة وداعيا إلى الفضيلة، ومحذرًا المرأة من أن تُخدع عن نفسها وتتعرى من ثيابها أمام الصقور الجائعة، فتجلب على نفسها العار الذي يزلزل كيان أسرتها زلزالًا عنيفًا.
ويفسح في مقالاته لآلام البؤساء والمشرَّدين وأسقامهم، ويئن بصوت الإنسانية الرحيم، حتى لكأنه المشرد أو البائس الذي يصفه، وتتدفق عليه أنات البشرية وعبراتها من كل صوب. ومن خير ما يصور ذلك عنده مقالته "أحلام في الشارع" وفيها يصور بؤس طفل مشرد وأخته رآهما نائمين على عتبة "بنك" يفترشان الرخام البارد ويلتحفان السماء، فأَنَّ وأعول في أنينه. وبهذا الشعور الرقيق نراه يصف جمال الطبيعة في غير مقال، فيكسبها من روحه جمالًا فوق جمالها، ويزيدها بصناعته حسنًا فوق حسنها، يقول في مقالة بعنوان الربيع:
"في الربيع تظهر ألوان الأرض على الأرض، وتظهر ألوان النفس على النفس، ويصنع الماء صنيعه في الطبيعة، فتخرج تهاويل النبات، ويصنع الدم صنيعه، فيخرج تهاويل الأحلام. ويكون الهواء كأنه من شفاه متحابة، يتنفس بعضها على بعض. ويعود كل شيء يلتمع لأن الحياة كلها ينبض فيها عرق النور. ويرجع كل حي يغنِّي؛ لأن الحب يريد أن يرفع صوته".
ونراه في بعض مقالاته يصور مُثله الخاصة في الشعر. وأكبر الظن أنه قد اتضحت لنا شخصية الرافعي في مقالاته وأدبه بكل خصائصها الروحية والعقلية واللغوية، فقد كان يؤمن بِمُثُل الإسلام والعروبة والوطنية، وكان يحس كل