المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م: - الأدب العربي المعاصر في مصر

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌فهرس الموضوعات:

- ‌الفصل الأول: مؤثرات عامة:

- ‌ أحداث كبرى:

- ‌ تياران: عربي وغربي:

- ‌ المطبعة والصحف:

- ‌ الشعر وتطوره:

- ‌ استمرار التقليد:

- ‌ نهضة وإحياء:

- ‌الفصل الثالث: أَعْلام الشعر:

- ‌ محمود سامي البارودي 1838-1904م:

- ‌ إسماعيل صبري 1854-1923م:

- ‌ حافظ إبراهيم 1870-1932م:

- ‌ شوقي 1869-1932م:

- ‌ خليل مطران 1872-1949م:

- ‌ عبد الرحمن شكري 1886-1958م:

- ‌ عباس محمود العقاد 1889-1964م:

- ‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

- ‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

- ‌ علي محمود طه 1902-1949م:

- ‌الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه:

- ‌ تقيد بأغلال السجع والبديع:

- ‌ حركة تحرر وانطلاق:

- ‌ بين الجديد والقديم:

- ‌ تجديد شامل:

- ‌ فنون مستحدثة:

- ‌المسرحية:

- ‌الفصل الخامس: أعلام النثر:

- ‌ محمد عبده 1849-1905م:

- ‌ مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م:

- ‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

- ‌ مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:

- ‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

- ‌ إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م:

- ‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

- ‌ طه حسين 1889-1973م:

- ‌ توفيق الحكيم:

- ‌ محمود تيمور 1894-1973م:

الفصل: ‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

7-

‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

أ- حياته وآثاره:

في "كفر غنام" من أعمال مركز السنبلاوين بمديرية الدقهلية وُلد محمد حسين هيكل سنة 1888 لأسرة ريفية مصرية صميمة، لها بعض الوجاهة والثراء. ولما بلغ الخامسة من عمره ألحقه أبوه بكُتَّاب القرية، فتعلم القراءة والكتابة وحفظ نحو ثلث القرآن الكريم، وتحول من هذا الكُتَّاب في السابعة من عمره إلى القاهرة، فالتحق بمدرسة الجمالية الابتدائية، ثم مدرسة الخديوية الثانوية، ولما أتم هذه المرحلة انتظم في مدرسة الحقوق وتخرج فيها سنة 1909.

وظهر فيه ميله إلى الأدب منذ أن كان في الحقوق، فعكف على قراءة الآثار العربية القديمة. واتصل بلطفي السيد محرر الجريدة، وفتح له صدر هذه الصحيفة ليكتب الحقوقي الصغير، ورعاه خير رعاية، وكان لهذه الرعاية أثرها البعيد في نفسه، فقد التقى بمعلم الشباب الناهض مباشرة، أصبح من مريديه وممن يتلقون عنه دروسه في السياسة والاجتماع والأخلاق. وشعر شعورًا كاملًا بما كان يدعو إليه لطفي من الإيمان بالمصرية والعمل على إبرازها في حياتنا السياسية والأدبية واللغوية، كما شعر شعورًا عميقًا بما كان يدعو إليه من وَصْل حياتنا العقلية بالغرب والتزود من ينابيعه، وظهر أثر ذلك فيما كان يكتبه بالجريدة.

فلما تخرج في الحقوق رأى أن يتم تعليمه في فرنسا، فسافر إلى باريس، والتحق بكلية الحقوق فيها، وحصل منها على الدكتوراه في الاقتصاد السياسي سنة 1912. وكتب وهو في باريس "قصة زينب" وهي أول محاولة قصصية بارعة في أدبنا، عمد فيها إلى وصف حياة الريف والفلاحين بصورة لم يسبقه فيها أحد من المصريين.

ص: 270

وعاد إلى مصر، فاشتغل بالمحاماة في مدينة "المنصورة". ومنذ سنة 1917 أخذ يلقي بعض المحاضرات في الجامعة المصرية الأهلية، حتى إذا أنشأ حزب الأحرار الدستوريين جريدة السياسة سنة 1922 تولى تحريرها. وطبيعي أن ينضم إلى هذا الحزب وأن يتولى تحرير جريدته؛ لأنه امتداد لحزب الأمة الذي كان يحرر أستاذه لطفي السيد صحيفته "الجريدة". وانضم إليه في هذا التحرير زميل من تلاميذ لطفي السيد، عاد هو الآخر إلى مصر من باريس، هو طه حسين، فنهضا معًا بتحرير صحيفة الأحرار الدستوريين. وغلبت على هيكل في كتاباته النزعة السياسية، بينما غلبت على طه حسين النزعة الأدبية. وأخرج هيكل في سنة 1921 جزءًا عن جان جاك روسو وأتبعه بجزء ثانٍ في سنة 1923، فتم له بذلك كتاب طريف عن روسو وآرائه وتعاليمه.

ولم يقصر هيكل نفسه على السياسة؛ بل أخذ يكتب مع طه حسين فصولًا في الأدب والنقد، وجمع طائفة من هذه الفصول ونشرها في كتاب "أوقات الفراغ" سنة 1952، والكتاب مقسم إلى ثلاث مجموعات؛ وتتناول المجموعة الأولى مباحث قيمة في النقد، وهو فيها يدل دلالة واضحة على تمثله للثقافة الغربية مع تعلقه بشعبه وثقافته وأمانيه في الحياة الفكرية الراقية. وترجم في هذه المجموعة ترجمة باهرة لأناتول فرانس وبيير لوتي، وتحدث حديثًا طويلًا عن قاسم أمين ودعوته إلى تحرير المرأة، وما كان يكنه لوطنه ودينه من حب وإجلال، ووصَف كيف رد في أثناء تعلمه بفرنسا على دوق داركور الذي عزا تأخر المسلمين إلى دينهم، فلما عاد إلى مصر تحول مصلحًا اجتماعيًّا، يريد أن ينفي عن أمته كل ما يعوق تأخرها، كما ينفي عن الدين كل ما يوصم به من جمود؛ ولذلك دعا دعوة حارة إلى النهوض بالمرأة المصرية المسلمة، حتى تكون على قدم المساواة للمرأة الغربية. وتناول هيكل في المجموعة الثانية بعض الشئون المصرية بمناسبة كشف مقبرة توت عنخ آمون، وهو يصور هنا إيمانًا شديدًا بقومه وتاريخهم القديم. وفي المجموعة الثالثة خواطر في التاريخ والأدب، دعا فيها إلى الأدب القومي الذي يمثل بيئتنا وعصرنا وحياتنا؛ حتى تتضح ذاتيتنا، وحتى ننفصل في أدبنا بطوابع تميزنا من قدمائنا

ص: 271

وجيراننا، فلا نكون نسخة من غيرنا أو نسخة مطموسة في النسخ العربية المعاصرة؛ بل يكون لنا وجودنا وكياننا الأدبي المستقل.

وأخرج بعد ذلك في سنة 1927 كتابه "عشرة أيام في السودان"، وهو إلى أن يكون مناسبات صحفية أقرب منه إلى أن يكون فصولًا أدبية. ومنذ سنة 1926 كان يصدر ملحقًا لصحيفة السياسة اليومية باسم "السياسة الأسبوعية"، وكاد هذا الملحق أن يكون قاصرًا على مباحث في الأدب والنقد. وكان يكتب معه فيه طه حسين ونخبة من الأدباء. وتحول هذا الملحق إلى ما يشبه مدرسة يتمرن فيها الأدباء الناشئون على الكتابة والتحرير. وفي سنة 1929 نشر طائفة من مقالاته باسم "تراجم مصرية وغربية"، وتبدأ تراجمه الأولى بكليوباترا، ثم يتبعها بتراجم لكبار المصريين السياسيين والمصلحين مثل: مصطفى كامل وعبد الخالق ثروت وبطرس غالي، أما التراجم الغربية فقصرها على بيتهوفن وتين وشكسبير وشللي. ويوضح هذا الكتاب امتلاء نفسه بحب وطنه ورجاله الأفذاذ وحب الغرب وأعلام الفن والشعر والنقد فيه.

وفي سنة 1930 صادر إسماعيل صدقي رئيس الوزارة المصرية حينئذ صحيفة السياسة؛ ولكن هيكلًا لا يخلد إلى الراحة، فنراه يخرج مع المازني ومحمد عبد الله عنان كتاب "السياسة المصرية والانقلاب الدستوري" ولا تميز مقالات هذا الكتاب من كتبوها، إلا أنه يمكن معرفة الجزء الخاص به من أسلوبه القانوني ومسحته الغربية. وألف في هذه الفترة السياسية فترة حكم صدقي كتابه "ولدي"، وهو كتاب تذكاري لابنه المتوفَّى سنة 1925. وفي هذا الكتاب يصف رحلاته إلى أوربا مع زوجته في شهور الصيف من سنة 1926 إلى سنة 1928، ونراه يصف وصفًا بارعًا مصايف سويسرا، ويقارن مقارنة طريفة بين باريس الحديثة وباريس القديمة أيام دراسته بها، ويتحدث عن إستانبول وما بعث فيها حكم مصطفى كمال من حياة حرة قوية.

وفي سنة 1933 نشر كتابه "ثورة الأدب"، وهو في هذا الكتاب يتحدث

ص: 272

عن نهضتنا الأدبية منذ ثورة عرابي، ويبدأ حديثه بفصل عن "الطغاة وحرية القلم"، وكأنه يرد على الحرب العلنية التي شنَّها صدقي على كُتَّاب الصحف والسياسة. ثم يتحدث عن المراحل المختلفة لشعرنا ونثرنا ويعرض بالتفصيل لما أصاب النثر من تطور بينما جمد الشعر ولم يستطع اللحاق به، وأكَّد في غير موضع ضرورة تثقف الأديب المصري الناشئ بالآداب الغربية؛ حتى نستطيع أن نحصل على مراتب الكمال الفني. وعرض في إسهاب لنواحي النقص عندنا في الإنشاء الأدبي وخاصة في بابي القصة والمسرحية. ورفع صوته مجلجلًا بضرورة إقامة أدب مصري وطني، وقدَّم نماذج قصصية استلهم فيها أساطيرنا الفرعونية.

ونراه بعد ذلك يعمد إلى مصادر الإسلام الأولى، فيُلقي عليها أضواء جديدة بمباحث تاريخية في الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر. ومن المحقق أنه يتفوق في الكتابة التاريخية لاتساع نظرته ودقة بحثه، وقد أخذ في أثناء ذلك يتولى شئون بعض الوزارات، وكان أول ذلك في سنة 1937 حين جعله محمد محمود في وزارته وزيرًا للدولة، ثم جعله وزيرًا للتربية والتعليم، وما زال يتولى هذه الوزارة من حين إلى حين حتى عُين في سنة 1945 رئيسًا لمجلس الشيوخ، وظل في هذه الرياسة حتى سنة 1950. ونشر "مذكرات في السياسة المصرية" جعلها في جزأين، أماط فيها اللثام عن كثير من حقائقنا وشئوننا السياسية في هذا القرن.

ورجع أخيرًا إلى كتابة القصة، فأخرج في سنة 1955 قصة "هكذا خُلقت"، وهي قصة طويلة تقص حياة امرأة مصرية عصرية أصيبت بشذوذ الغيرة، واضطربت بهذا الشذوذ في محيط الدعوة الجديدة إلى الحرية النسوية، وسلَّطته على حياتها الزوجية فحطمتها مرتين كما يحطم الطفل لعبته. ونراه يقول عنها بلسانها: "إنها تروي حكاية حياتها في بساطة ويسر يكاد يُخيَّل إليك معها أنها حياة عادية لأية امرأة تعرفها؛ ولكنك تقف بعد قليل دهشًا تتساءل: ما هذه المرأة؟ ومَن هي؟ إنها فريدة في طرازها؛ بل هي نسيج وحدها، إنها تحب الحياة ولا تريد مع ذلك أن تسلم للحياة أمرها؛ بل تريد أن تصوغ الحياة كما

ص: 273

تشاء هي، فإذا صدمها الواقع لم تذعن لصدمته؛ بل حاولت أن تواجهه في كبرياء المعتز بنفسه".

ويتابع هيكل بعد ذلك كتابة القصة القصيرة، وينشرها في الصحف الأسبوعية. وما يلبث أن يلبِّي داعي ربه في ديسمبر سنة 1956. ونحن نعرض بشيء من التفصيل لقصة "زينب" باعتبارها أولى محاولات أدبائنا في عالم القصة بمعناها الغربي.

ص: 274

ب- زينب:

كتب هيكل هذه القصة وهو يدرس القانون بباريس، ونراه يقول في مقدمتها: إنها "ثمرة الحنين للوطن وما فيه، صوَّرها قلمُ مقيمٍ في باريس مملوء مع حنينه لمصر إعجابًا بباريس وبالأدب الفرنسي". وتتخلص حوادث القصة في أن فتى متعلمًا يسمى حامدًا من أبناء أعيان الريف أحب ابنة عم له تسمى عزيزة، ومنعته تقاليد الريف من الاعتراف لها بحبه، وفوجئ بزواجها. وبحث عن سلوى لحبه فوجدها عند زينب الجميلة، إحدى الأجيرات اللائي يشتغلن في حقل أبيه، وشعرت بحبه لها؛ ولكنها رأت أن زواجها منه غير ممكن لما بين أسرتها وأسرته من فروق اجتماعية، فمنحت قلبها شابًّا من وسطها وعلى شاكلتها. وتلعب التقاليد الريفية العتيقة دورها، فلا تبوح الفتاة بحبها لأهلها، وترضخ لرغبتهم في قرانها من شاب لم تكن تحبه؛ بينما يرحل محبوبها إبراهيم إلى السودان عاملًا في الخدمة العسكرية. ويترك حامد القرية إلى القاهرة ليبدأ حياة جديدة، على حين تقع زينب فريسة لآلام نفسية كثيرة، تفضي بها إلى مرض ذات الرئة، ويقضي عليها هذا المرض.

والقصة تعرض علينا في أثناء ذلك الريفَ المصري بعاداته وتقاليده وبساطة أهله ومحاسن حياتهم ومساوئها وما رَانَ عليها من اعتقادات في الجن والشياطين ومشايخ الطرق. ونقل ذلك هيكل نقلًا دقيقًا؛ بحيث تمثِّل قصته واقعَ حياة الريف المصري في أول القرن تمثيلًا صادقًا. ونراه يقف كثيرًا لينقد هذا الواقع

ص: 274

وما فيه من نظم اجتماعية غير متسقة، وخاصة من حيث الزواج، وأن المرأة ليس لها رأي في اختيار زوجها وشريك حياتها. ونشعر هنا بترديد المؤلف لآراء قاسم أمين ودعوته إلى تحرير المرأة.

ومن غير شك تأثر هيكل في وضع هذه القصة بما قرأه من القصص الفرنسي، ويتبين ذلك في تصويره زينب، فقد جعلها رقيقة أكثر مما ينبغي لفتاة ريفية ساذجة، واختار لها وسيلة تتخلص بها من آلام حبها هي مرض السل، طبقًا لنموذج بعض القصص الفرنسية التي قرأها، والتي تتخذ هذه الوسيلة لتخليص العاشقات المعذبات، وتحريرهن من عذابهن وآلامهن.

ولم يفسح هيكل لنفسه في تصوير الشخصيات الجانبية وطبائعها، الجانبية وطبائعها، وربما كان ذلك راجعًا إلى أنه كان لا يزال في مقتبل عمره، ولم تتسع خبرته بالحياة وتجاربها العميقة. ولكن إن كان فاته ذلك فإنه عوَّضه بأوصافه الغنية للطبيعة الريفية في مصر، وفي الحق أنه نجح إلى أبعد حد في وصف حياة القرية المصرية، وكثير من صفحات قصته يتحول إلى ما يشبه لوحات بديعة، كهذه اللوحة التي عرض فيها صراع حامد النفسي إزاء بَوْحِه لابنة عمه بحبه، وهي تجري على هذا النسق:

"انساب المسكين بين المزارع ينهبها نهبًا، حتى جاء إلى شط الترعة، وهناك أخذ مقعده في ظل توتة "شجرة" كبيرة، وجلس كأن به مسًّا من الجن يسأل نفسه: هل في المستطاع إخراج تلك الفتاة من بين هؤلاء المحيطين بها، ليجلس إليها جنبًا لجنب، ولتحدثه وليمضها إليه، ولتكون ملكه؟ ومكث بقية النهار في حساباته هذه، ثم قضى كل ليلته لا ينام إلا غرارًا، وما كادت تهتك يد الصبح ستار الليل حتى نبا به مضجعه، وصاحبه القلق، فانحدر إلى الجامع، وما عهده به في تلك الساعة التي عرفها ساعة هجود وهمود، وانساب وسط ظلمات يتسلل فيها النور كما يتسلل الأمل إلى قلب اليائس، والسماء لم تميَّز بعد، قد بهت عليها حجاب الليل الهزيم والنجوم تتقلص واحدة بعد الأخرى، والسكوت الأخرس يخيم على الوجود فلا تسمع هسيسًا، إلا أن يقطعه

ص: 275

من حين لآخر صوت الدِّيَكة تتجاوب من جوانب القرية، ثم أذان المؤذن بالفجر يشق عباب الجو إلى السماوات. ولما صلى حامد ركعتيه مع الجماعة خرج إلى جهة المزارع التي لا تزال خالية من كل حي، وهواء تلك الساعة خالطته الرطوبة يزيد في نشاطه، وكل شيء يخرج قليلًا قليلًا من دثار الخفاء، والأفق يتجلى عند مرمى النظر، فتنكشف أمام العين المزروعات بعد أن أخذت نصيبها من الطل، ثم احمرت السماء في المشرق، وطلعت الشمس تلامس الأرض وتحيِّي الموجودات تحية الصباح، ثم تعلو وترتفع، وينقلب لون القرص الأحمر الهادئ الباسم في مطلعه، ويرسل بأشعته فتتلألأ تحتها قطع الطل على أوراق الشجيرات والحشائش النابتة على الْمَرْوَى، فتطوق المزرعة الهائلة بقلادة تزينها. وحامد بين هاته الموجودات يمشي مفكرًا يطرق أحيانًا، ويتطلع إلى ما حوله أخرى. ثم ابتدأ الفلاحون يفدون إلى عملهم فُرادى، كل ييمم نحو مزرعته الصغيرة التي يملك ورثها عن أبيه عن جده، أو جاد بها الحظ وأعطته إياها المصادفة التي لا ينتظر، ومعه بقرته أو جاموسته، أو هو قد اكتفى بفأسه، فإذا مر بحامد ألقى عليه تحية الصباح، ثم استمر في سيره مندهشًا، ما شأن هذا الإنسان هنا في تلك الساعة من النهار. وحامد يفكر كيف يتسنى له أن يكون إلى جانب عزيزة وليس عليهما من رقيب، أو أن يبثها ما في نفسه ليسمع منها أنها تحبه. يريد أن يسمع تلك الكلمة من فمها، فهل لذلك من سبيل؟

واستولى ذلك على كل جوارحه، وملَك كل عواطفه؛ حتى لجعله ينظر لأهله المحيطين بها نظرة الغضاضة. وما كان ليقدر على إطلاع غيره على حبه، وهو يعلم ما تكنه النفس المصرية لذلك الإحساس من الضحك منه والاستهزاء به. تلك النفس القاسية التي تنظر لكل جمال في الوجود أو الإحساس به نظرة ساخرة؛ لأنها لا تفهم منه شيئًا، وتحسب أن حياة الجد هي التي يقضيها صاحبها بين العمل والتسبيح، وكأن الوجود لم يكُ إلا طاحونًا نقطع فيه أعمارنا لاهثين لغوبًا ونصبًا، مغمضين أعيننا عن كل حسن، واجبنا أن نرضى بحظنا، ونقنع بما يقدَّم لنا بعد كل علفة من العلف، وإلا كان جزاؤنا ما يصيبنا من سخط

ص: 276