المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م: - الأدب العربي المعاصر في مصر

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌فهرس الموضوعات:

- ‌الفصل الأول: مؤثرات عامة:

- ‌ أحداث كبرى:

- ‌ تياران: عربي وغربي:

- ‌ المطبعة والصحف:

- ‌ الشعر وتطوره:

- ‌ استمرار التقليد:

- ‌ نهضة وإحياء:

- ‌الفصل الثالث: أَعْلام الشعر:

- ‌ محمود سامي البارودي 1838-1904م:

- ‌ إسماعيل صبري 1854-1923م:

- ‌ حافظ إبراهيم 1870-1932م:

- ‌ شوقي 1869-1932م:

- ‌ خليل مطران 1872-1949م:

- ‌ عبد الرحمن شكري 1886-1958م:

- ‌ عباس محمود العقاد 1889-1964م:

- ‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

- ‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

- ‌ علي محمود طه 1902-1949م:

- ‌الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه:

- ‌ تقيد بأغلال السجع والبديع:

- ‌ حركة تحرر وانطلاق:

- ‌ بين الجديد والقديم:

- ‌ تجديد شامل:

- ‌ فنون مستحدثة:

- ‌المسرحية:

- ‌الفصل الخامس: أعلام النثر:

- ‌ محمد عبده 1849-1905م:

- ‌ مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م:

- ‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

- ‌ مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:

- ‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

- ‌ إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م:

- ‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

- ‌ طه حسين 1889-1973م:

- ‌ توفيق الحكيم:

- ‌ محمود تيمور 1894-1973م:

الفصل: ‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

ما حوله من طبيعة وغير طبيعة. وقد استطاع أن يمتلك ناصية اللغة وأن يصرف ألفاظها في يده كما يشاء. وأعانته على ذلك كله عزلة ضربها الصَّمَم من حوله، فإذا هو يخلص لعالمه الباطني، يغوص فيه على المعاني الدقيقة فيبرزها. وكان لا يزال يتعمقها حتى يحدث فيها ضربًا من الفلسفة المنطقية، وكان ذلك من أهم الأسباب في غموضه والتوائه أحيانًا.

والذي لا شك فيه أنه كان يكتب في حذر شديد، فهو لا يكتب كل ما يفد على ذهنه؛ بل ما زال ينتخب ويختار، ينتخب المعاني ويختار الألفاظ محتاطًا في ذلك أشد الاحتياط. وكأنه لم يكن يريد أن يكون أديبًا فحسب؛ بل كان يريد أن يكون أديبًا ممتازًا بفكره العميق وعبارته الدقيقة، ومن ثم آثر في أدبه ومقالاته الجهد العنيف والعناء الشاق، حتى يصبح حقًّا من راضة المعاني وصاغة الكلام.

ص: 251

5-

‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

ب- حياته وآثاره:

في قرية "بَرْقين" من أعمال مركز السنبلاوين بمحافظة المنصورة وُلد أحمد لطفي السيد سنة 1872 لأب مصري ريفي ثري هو "السيد باشا أبو علي"، وكان وقورًا مهيب الشخصية حليمًا عطوفًا، وأنشأ ابنه على غراره. ولما بلغ الرابعة من عمره أدخله على عادة أبناء الريف كُتَّاب القرية، وكانت مقرئته "الشيخة فاطمة" فعُنيت به، وحفَّظته القرآن الكريم، وهو لا يزال في العاشرة.

ولما أتم حفظ القرآن ألحقه أبوه بمدرسة المنصورة الابتدائية، فأمضى بها ثلاث سنوات ظفر في نهايتها بالشهادة الابتدائية سنة 1885. وتحول بعد ذلك إلى المدرسة الخديوية بالقاهرة. فاجتاز بها مرحلة التعليم الثانوي التي انتهى منها

ص: 251

سنة 1889، ودل في هذه المرحلة على نبوغ في الدرس، وخاصة درس اللغة العربية. وأقبل على قراءة الكتب المترجمة، وكان مما أعجب به كتاب "أصل الإنسان" لداروين؛ إذ ترجمه شبلي شميل في هذا التاريخ.

وعقب إنهائه لمرحلة التعليم الثانوي التحق بمدرسة الحقوق، وكان من مدرسيها حفني ناصف، وحسونة النواوي الذي تولى بعد ذلك مشيخة الأزهر، وكان يعجب بتلميذه الحقوقي، فكان يدعوه إلى منزله، وما لبث أن اصطفاه ليقرأ له درس الفقه الذي كان يلقيه بالأزهر في الصباح الباكر. وفتح له ذلك بابًا كان مغلقًا أمام أقرانه، وهو باب التزود بالدراسات الدينية. وتصادف أن اشترك محمد عبده في لجنة امتحان العلوم العربية بالحقوق، فلفتته كتابة التلميذ الناضج وهنأه بما كتب.

وكان لذلك أثره في نفس التلميذ، فإنه عُني مع طائفة من رفقائه بإخراج مجلة "التشريع"، وأحس أن فيه مواهب صحفية، فكتب في صحيفة المؤيد، واشتغل فترة في القسم الخاص بنقل رسائل البرق الأجنبية. وسافر وهو لا يزال بالحقوق إلى إستانبول فوجد هناك علي يوسف صاحب صحيفة المؤيد وسعد زغلول، فعرَّفاه بجمال الدين الأفغاني، وكان ينزل حينئذ هناك، فلازمه فترة ونفخ فيه من روحه ودعوته إلى الحرية ونهوض الأمم الإسلامية ضد الاستعمار والمستعمرين.

وأتم دراسته في "الحقوق" سنة 1894 وعُيِّن في سلك النيابة، غير أن تعيينه لم يصرفه عن التفكير في شئون بلده السياسية، فألف مع جماعة من زملائه القانونيين جمعية سرية غرضها تحرير البلاد من الاحتلال الأجنبي. وعرفه مصطفى كامل، فعرض عليه في سنة 1897 أن يؤلف معه ومع محمد فريد وطائفة من أصدقائهما الحزب الوطني، فلبى دعوته، واتفق معه مصطفى أن يعتزل الحكومة ويذهب إلى سويسرا، فيمكث بها سنة لينال حق الجنسية السويسرية، ثم يعود إلى مصر فيحرر صحيفة تقاوم الاحتلال البريطاني، فلا تستطيع بريطانيا أن تحول بينه وبين ما يريد بحكم جنسيته الأجنبية. وصدع

ص: 252

لمشيئته، فسافر إلى سويسرا، وتصادف أن سافر إليها أيضًا قاسم أمين ومحمد عبده وسعد زغلول، وأخذ يختلف مع ثانيهما إلى ما يلقي من محاضرات في جامعة جنيف، وكان قاسم أمين يؤلف حينئذ كتابه "تحرير المرأة"، فكان يقرأ منه فصولًا عليهم.

ورجع لطفي إلى مصر فوجد الخديو عباسًا غاضبًا لاتصاله بمحمد عبده، وكان الخديو ناقمًا عليه. ولم ينشئ الجريدة التي أشار بها مصطفى كامل؛ لأنه وقر في نفسه أن سياسته التي كان يمليها عليه الخديو ليست هي السياسة التي تنقذ مصر؛ إذ كان مصطفى ينادي بالجامعة الإسلامية في ظل تركيا، ولم يكن غرض مصطفى أن تعود مصر حقًّا إلى تركيا؛ ولكنه كان يظن أن هذه الدعوة تساعد مصر في التخلص من نير الاحتلال.

ونرى لطفي ينتظم في سلك النيابة ثانية، حتى إذا كانت سنة 1905 تركها مستقيلًا منها لخلاف بينه وبين النائب العمومي واشتغل بالمحاماة. ولم يلبث أن أخرج صحيفة "الجريدة" سنة 1907، وألف مع طائفة من نابهي المصريين حزب الأمة، واختير سكرتيرًا له، واختير محمود سليمان رئيسًا وحسن عبد الرزاق وكيلًا. وكان برنامج هذا الحزب المطالبة بالاستقلال التام وبالدستور وتوسيع اختصاص مجلس شورى القوانين ومجالس المديريات.

وانضم إلى هذا الحزب كثيرون من أعيان البلاد المصرية المختلفة، وأهم من ذلك أنه انضم إليه أكثر المفكرين المصريين الذين كانوا يلتفون حول الشيخ محمد عبده والذين يرجع إليهم أكثر الفضل في وضع أسس نهضتنا المباركة من أمثال: قاسم أمين وفتحي زغلول وعبد العزيز فهمي وعبد الخالق ثروت. وكان هؤلاء المفكرون يؤلفون في أول هذا القرن طبقة ممتازة تشعر بآلام الشعب وآماله، وتصور لنفسها -بفضل ثقافتها الواسعة بآداب الغرب- مُثله العليا غير المحدودة في الحرية والاستقلال والحكم العادل الرشيد، وهي نفسها الطبقة التي عملت على إقامة الجامعة المصرية الأهلية وفتح أبوابها للطلاب منذ سنة 1908. غير أنه يلاحظ على هذه الطبقة أنها لم تكن ثائرة ثورة مصطفى كامل على الإنجليز،

ص: 253

هي تدعو إلى التخلص من احتلالهم؛ ولكن في رفق ومع اصطناع الدهاء؛ بل مصانعتهم أحيانًا. وقد يكون من أسباب ذلك أن كثيرًا من أعضاء الحزب كانوا يحتلون المناصب العليا في مرافق البلاد المختلفة، فرأى الحزب أن يعرض للإنجليز في دقة واحتياط حتى لا يقصوهم عن مناصبهم، وكانوا يرون أن العلة الحقيقة في الاحتلال هي القصر وحاكمه التركي، فهاجموه مهاجمة عنيفة.

وعلى العكس من ذلك كان مصطفى كامل وأعضاء الحزب الوطني ثائرين ثورة عنيفة على الإنجليز؛ ولذلك عدهم الشعب رُسُل الوطنية الحقيقيين؛ ولكن ينبغي ألا نتهم حزب الأمة ورجاله في وطنيتهم، فقد كانوا يرون التريث في هذه الحرب السافرة، حتى تتاح الفرصة الحقيقية لها عن طريق النهوض بالشعب في التعليم وغير التعليم، واستقر في نفوسهم أن أعداء مصر ليسوا هم الإنجليز وحدهم؛ بل أيضًا الخديو التركي وبطانته.

وعن هذه المبادئ كان يصدر محرر الجريدة لطفي السيد فيما يكتب من مقالات سياسية واجتماعية، يصور فيها دعوات حزبه الإصلاحية. وظل على ذلك سبع سنوات، حتى كانت الحرب العالمية الأولى، وأعلنت إنجلترا في ديارنا الأحكام العرفية، فحاول أول الأمر أن يكسب شيئًا لبلده من الإنجليز، حين ترفرف راية السلام، وقابل ممثِّل إنجلترا مع بعض رفاقه يدعوه أن يعرض الأمر على حكومته، فماطله. ويئس لطفي، فاستقال من تحرير الجريدة، وعاد إلى بلدته "برقين" وكأنه رأى أن الجهاد السياسي العلني أصبح مستحيلًا في هذه الظروف.

وتطورت الأمور فأُعلنت الحماية على مصر، وعاد لطفي ولكن لا ليشترك في تحرير الجريدة، وإنما ليتقلد بعض الوظائف، وعُين مديرًا لدار الكتب المصرية، فاعتزل في هذه الركن الثقافي، وأخذ يترجم في "أرسططاليس" وبدأ بكتابه "الأخلاق". حتى إذا وضعت الحرب أوزارها استأنف نشاطه السياسي مع سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وغيرهم، وظل معهم في جهادهم وبلائهم، حتى ظهرت بوادر الخلاف والانشقاق في الصفوف، فاعتزل السياسة ثانية وعاد إلى وظيفته في دار الكتب وإلى أرسططاليس يقرأ فيه

ص: 254

ويترجم، حتى انتهى من كتاب الأخلاق وفصوله الخمسة.

وفكرت الحكومة المصرية في تحويل الجامعة الأهلية -وكان وكيلًا لها- إلى جامعة حكومية، ونُفِّذَت الفكرة، فاختير مديرًا للجامعة الجديدة، وفتح أبوابها للفتاة المصرية، فحقق الأمل الذي كان يراود صديقه قاسم أمين في أول القرن، أمل النهوض الحقيقي بالمرأة المصرية. وفي سنة 1928 ترك الجامعة إلى وزارة التربية والتعليم، فنهض بشئونها المختلفة. واستقالت وزارة محمد محمود الذي كان يعمل معه، فلزم بيته وعاد إلى أرسططاليس، وسرعان ما استدعى إلى الجامعة، فلبى الدعوة. وتطورت الأمور فتولى إسماعيل صدقي الوزارة وألغى الدستور ووقف الحياة النيابية، وتدخل في شئون الجامعة، وأقال طه حسين عميد كلية الآداب حينئذ، فغضب لطفي بسبب هذا الاعتداء على استقلال الجامعة، وقدم استقالته، حتى إذا استقالت وزارة صدقي، عاد إلى الجامعة في إبريل سنة 1935.

وأخرج في فترة حكم صدقي كتاب الكون والفساد لأرسططاليس سنة 1932، وتبعه بكتاب الطبيعة سنة 1935، وفي سنة 1940 نشر كتاب السياسة، وهو آخر الكتب التي ترجمها للمعلم الأول. وظل في الجامعة إلى سنة 1941؛ إذ رأى أن يستمتع بنصيب من الراحة، فعُين عضوًا بمجلس الشيوخ، ثم اختير رئيسًا للمجمع اللغوي، وما زال يشغل هذا المنصب حتى وفاته سنة 1964. وقد منح في سنة 1959 جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية؛ اعترافًا بجهوده العقلية.

ص: 255

ب- مقالات الجريدة:

رأينا لطفي ينشأ في وسط ثري من أوساط ريفنا المصري، وقد ورث عن أبيه اعتداده بنفسه وسمو أخلاقه، كما ورث عنه ذكاء فطريًّا سليمًا. وأخذ هذا الغرس الطيب ينمو في عصر الاحتلال، ويتلون بالمعارف المختلفة من عربية إسلامية وغربية فرنسية. وكان منذ شبابه يفكر في أحوال بلده، فصحب

ص: 255

جمال الدين الأفغاني فترة في إستانبول كما صحب محمد عبده في جنيف وبعد جنيف، ولم تلبث مبادئهما أن تسربت إلى روحه؛ بل أخذت تتأجج بين ضلوعه نارُ الشوق إلى التخلص من الاحتلال، وأن تُرَدَّ إلى بلده كرامته القومية.

ووضع يده في يد مصطفى كامل؛ ولكنه كان يختلف عنه؛ إذ كان من مدرسة أخرى، مدرسة الشيخ محمد عبده، التي لم تكن ترى الثورة حينئذ على الأوضاع عملًا ناجعًا لإنقاد الوطن، ولم يكن يعجبها صنيع مصطفى كامل في الاتجاه تارة إلى الدولة العثمانية، وتارة إلى فرنسا والأمم الغربية ظانًّا أن هذه الدول تنقذ مصر من براثن الاحتلال، وترد إليها حريتها.

إن الكفاح لاستقلال أي شعب ينبغي أن يصدر عنه، وإن من الخطأ أن نطالب أممًا باستقلالنا، وهي إنما تحرص على مطامحها السياسية التي قد تتعارض مع رغباتنا وأمانينا الوطنية. وفعلًا اتفقت إنجلترا مع فرنسا على أن تطلق الأولى يدها في مصر، نظير إطلاق يد فرنسا في مراكش. فلا أمل في الخارج ولا في الدول الغربية المستعمرة، وكذلك لا أمل في الدولة العثمانية المريضة.

ونحن في كفاحنا ينبغي أن نفكر أول ما نفكر في الإصلاح، فنعلِّم الشعب، ونلقِّنه حقوقه وواجباته السياسية، ونوجد فيه الرغبة الأكيدة لاستقلاله، وندعو دعوة حارة إلى أن تسود فيه مبادئ الحرية، حرية الفرد وحرية الأمة، ونحضه على أن يستمسك بشخصيته ومصريته؛ حتى يذود بروحه عن كيانه ووجوده، ولكن كيف يكون ذلك؟ إنه لا بد من تربية الشعب وتعريفه المثل العليا التي ينبغي أن يحوزها لنفسه في النظم السياسية والاجتماعية، وفي شئون حياته المختلفة.

وآمن أعضاء حزب الأمة بأن هذه التربية هي الوسيلة الحقيقية للتخلص من الاحتلال، وهي وسيلة متأنية؛ إذ تحتاج وقتًا لبثها في أفراد الشعب، فهي ليست ثورة وطنية عنيفة كثورة مصطفى كامل؛ وإنما هي دعوة للتطور والرقي من الداخل؛ حتى تقف الأمة على أقدامها، وتصرخ في وجه الإنجليز الصرخة المدوية المنبعثة من أعماقها. وكان يؤمن بذلك رجالات حزب الأمة من هؤلاء المصلحين المختلفين الذين انبثوا في أعمال الدولة، والذين استطاعوا بفضل ثقافتهم أن يفهموا

ص: 256

فَهْمًا صحيحًا الأصول السياسية والاجتماعية التي عُرفت في الغرب، وكانوا يرون من الواجب أن تدخل مصر؛ ولكن مع التطور والتدرج، والانتفاع منها بالصالح، مما يلائم طبائع المصريين.

وتولى لطفى بحكم تحريره لصحيفة الحزب "الجريدة" هذه المهمة التربوية، وكانت مهمة صعبة؛ إذ عليه أن يربي شعبًا، ويغرس فيه أطماعه الوطنية وحقوقه وواجباته السياسة. ومن هنا أخذ لقب "المعلم"، والحق أنه علم الشعب كثيرًا مما أصبح بعد تصريح 28 من فبراير سنة 1922 قائمًا قيام الأهرامات الراسخة في حياتنا السياسية من مثل سلطة الأمة والحرية الدستورية وتعليم الفتاة وغير ذلك من معانٍ وطنية.

فقد عكف على قراءة ما كتبه المصلحون الغربيون في شئون التربية القومية وفي الحقوق السياسية، ونقل ذلك إلى المصريين في مقالاته بالجريدة، فتارة يردد ذكر المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية، وتارة يردد آراء المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين قرروا تلك المبادئ من مثل روسو وستيوارت مل وتولستوي ومونتسكيو وفولتير؛ وبذلك وُجدت عندنا المقالة السياسية بالمعنى الدقيق، فهي ليست كلامًا ارتجاليًّا يقال؛ وإنما هي دراسة وخبرة بالفكر الغربي ونقل ما يلائمنا منه. ونكتفي بذكر مقتطفات من بعض مقالاته، يقول في مقالة بعنوان "غرض الأمة هو الاستقلال":

"استقلال الأمة في الحياة الاجتماعية كالخبز في الحياة الفردية لا غنى عنه؛ لأنه لا وجود إلا به، وكل وجود غير الاستقلال مرض يجب التداوي منه، وضعف يجب إزالته؛ بل عارٌ يجب نفيه

استقلال الأمة عمن عداها أو حريتها السياسية حق لها بالفطرة، لا ينبغي لها أن تتسامح فيه، أو أن تَنِيَ في العمل للحصول عليه؛ بل ليس لها حق التنازل عنه لغيرها -لا بكله ولا بجزئه- لأن الحرية لا تقبل القسمة ولا تقبل التنازل، فكل تنازل من الأمة عن حريتها كلها أو بعضها باطل بطلانًا أصليًّا لا تلحقه الصحة بأي حال من الأحوال. فلا جرم مع هذا المبدأ المسلَّم به عند علماء السياسة، إن قلت: إنه يجب على الأمة

ص: 257

أن توجه كل قواها بغير استثناء إلى الحصول على وجودها أي الحصول على الاستقلال

أما نية الاستقلال فهي فهمه والتشبث بمزاياه، وتمثل هذا الفهم في شعور الأمة تمثلًا صحيحًا شائعًا؛ أي: اعتقاد الأمة بضرورته وأنه هو العيش، وهو الكساء، وهو المبيت، وهو الوجود وبغيره لا وجود. ولا بد لذلك من أن يربَّى في الأمة معنى القومية المصرية.

إن أول معنى للقومية المصرية هو تحديد الوطنية المصرية، والاحتفاظ بها والغيرة عليها غيرة التركي على وطنه والإنجليزي على قوميته، لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع وسط ما يسمى خطأ بالجامعة الإسلامية

يعجبني في هذا المعنى أن أورد عبارة أحد الكتاب الإنجليز، قال: مهما كان اللوم على الأمة المتغلبة على غيرها، فإنه لا يصح أن تنجو الأمة المغلوبة من اللوم؛ فإنه من السهل أن يدوس الإنسان بقدمه حشرة، لكن إذا كانت هذه الحشرة من العقارب يصعب دَوْسُها بالقدم. وعندنا أن الأمة كائن طبيعي يستحيل مهما كانت ضعيفة أن تكون مجردة من آلات الدفاع عن نفسها؛ لأن الله قد سلح جميع كائناته بسلاح الدفاع عن ذواتها، والأمة بصفتها إحدى هاته الكائنات الطبيعية لا يمكن أن تكون فاقدة السلاح، فلئن تركته أو أساءت استعماله فاللوم عليها بمقدار تقصيرها. ولقد كُتب على مصر أن ترتقي بالسلام وتستقل بالسلام، فما أسلحة السلام إلا ذكاء في العقل والقلب يهدينا إلى معرفة مصريتنا، وقَصْر عملنا على مصرنا وإنماء كفاءتنا قبل كل شيء".

ويقول في مقال بعنوان "الحرية":

"لو كنا نعيش بالخبز والماء لكانت عيشتنا راضية وفوق الراضية؛ ولكن غذاءنا الحقيقي الذي به نحيا ومن أجله نحب الحياة ليس هو إشباع البطون الجائعة؛ بل هو غذاء طبيعي أيضًا كالخبز والماء؛ لكنه كان دائمًا أرفع درجة وأصبح اليوم أعز مطلبًا وأغلى ثمنًا. هو إرضاء العقول والقلوب، وعقولنا وقلوبنا لا ترضى إلا بالحرية. إنا إذا طلبنا الحرية لا نطلب بها شيئًا كثيرًا؛ إنما نطلب الغذاء الضروري لحياتنا، نطلب ألا نموت. ولا يوجد مخلوق أقنع من الذي

ص: 258

لا يطلب إلى الحياة ووسائل الحياة، كما أنه لا أحد أقل كرمًا من ذلك الذي يضن على الموجود الحي بأن يستوفي قسطه من الحياة، إن الحرية هي المقوِّم الأول للحياة، ولا حياة إلا بالحرية".

وفي مقال بعنوان "مصريتنا":

"إن الانتساب إلى مصر لا يمكن أن يكون عارًا؛ فإن مصر بلد طيب، قد ولد التمدن مرتين، وله من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما يكفل له الرقي، متى كرم أهلوه، وكرمت عليهم نفوسهم، وكبرت أطماعهم، فاستردوا شرفه، وسموا به إلى مجد آبائهم الأولين".

وبمثل هذا الأسلوب الجزل الرصين كان لطفي يعلم أمته بمقالاته، وهي ليست مقالات فارغة؛ وإنما هي مقالات مليئة بالثقافة الواسعة وبالفكر العميق. ووسَّع دائرة هذه المقالات وجعلها تشمل كل ما يتصل بتربية الأمة من وجهات أخلاقية واجتماعية؛ إذ عُنِيَ بكل جوانب الحياة المصرية عناية فاحصة دقيقة، تقوم على الدرس وتبين الخصائص والصفات حتى نعرف ما ينقصنا بالقياس إلى مُثلنا العليا معرفة واضحة.

ومن أهم ما يمتاز به في كتابته المنطق والوضوح وحشد الأدلة والأقيسة والانتقال من العام إلى الخاص والخاص إلى العام، يُلهمه في ذلك ذكاؤه واتساع قراءاته في الفكر الغربي. وهو يعبر عن ذلك كما في هذه الفقرات بسهولة، ويصل دائمًا قاصدًا إلى غايته مما يريد التعبير عنه، فأنت لا تجد عنده أي تعبير شائك أو معقد في أي جانب من جوانب مقالاته؛ إنما تجد التعبير السريع الواضح الذي يصور لك ما بنفس الكاتب من جميع أطرافه.

وهذا التعبير المباشر الذي يقصد إلى غايته بدون أي تعقيد هو أهم خصائص لطفي، وهو تعبير يصور القمة التي استطاع مفكرونا أن يصلوا إليها منذ أوائل هذا القرن، مسلحين بالثقافة الغربية؛ بل إن لطفي يصل من ذلك إلى أبعد الغايات بفضل عقله الذي خُلق ليكون عقل معلِّم. وأكبر الظن أننا لا نبالغ إذا قلنا: إنه خُلق ليكون عقل "فيلسوف" يبحث في خصائص الأشياء وصفاتها، ويردها

ص: 259

إلى عناصرها ومكوناتها.

فأنت في قراءة مقالاته التي جُمعت طائفة منها ونشرت باسم "المنتخبات" و"تأملات" تحس بأنك تجد غذاء محققًا لعقلك ولقلبك ولشخصيتك المصرية التي عمل على إنمائها وإذكائها بكل ما استطاع، حتى لنجده يدعو إلى تقريب العربية من لغتنا العامية؛ حتى تكون لنا لغة مصرية مستقلة. ولم يدع إلى العامية -كما يُظَنُّ- وإنما دعا إلى التقريب بينها وبين العربية واستخدام ما فيها من كلمات أصلها فصيح، وهي تدور على كل لسان. ولم يجد حرجًا في أن تدخل منها بعض الألفاظ في أساليبنا الأدبية. وكان لذلك أثره عند المازني وهيكل وتوفيق الحكيم، فإنهم عمدوا إلى ذلك في بعض آثارهم.

وأظن ليس من العجب أن نرى هذا المعلم الأول لناشئة الأدباء والمفكرين بيننا يسعى إلى ترجمة أرسططاليس، وكأنه أحس إحساسًا عميقًا بأنه لا بد أن تؤسَّس حياتنا العقلية على أصول غربية، ورأى هذه الأصول عند الغربيين تتجاوز عصرهم الحديث إلى الإغريق وإلى المعلم الأول عندهم أرسططاليس، الذي كان له أكبر الأثر في حضارة الغرب الحديثة، وكان له نفس الأثر عند العرب في العصر العباسي وما بعده من عصور، فتحوَّل إليه يريد أن يترجمه ترجمة دقيقة؛ حتى يضع بين يدي المثقفين هذا العقل الإغريقي الخصب، فيساعدهم على تكوين عقولهم وما تحتاجه من قدرة على التفلسف والتبويب والتنظيم.

ولعلنا بذلك كله نستطيع أن نعرف فضل هذا الكاتب الكبير، فقد عمل جاهدًا على تربية الشعب المصري وتطوير حياته العقلية على ضوء الفكر الغربي قديمه وحديثه، وكانت جريدته المنارة التي ترسل هذه الأشعة الهادية إلى عقول الشباب وقلوبهم؛ بل كانت أشبه ما يكون بملعب "الليسيه" الذي كان يحاضر فيه أرسططاليس تلاميذه. وعلى نحو ما كان الفيلسوف الإغريقي يمرن تلاميذه على بحث الموضوعات المختلفة كان لطفي يمرن محمد حسين هيكل وطه حسين وغيرهما على الكتابة في المسائل السياسية والأدبية، وقد بعث في قلوب الشباب الشعور

ص: 260