الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شديد التأثر بالشعب وآلامه، فإذا حزن الشعب لموت مصلح كبير مثل الشيخ محمد عبده أو مصطفى كامل انطبع هذا الحزن في نفسه.
وعلى هذا النحو كان حافظ يشعر بما يشعر به شعبه شعورًا دقيقًا؛ لأن نفسه كانت خالصة، واستطاع أن يصوغ هذا الشعور في لغة جزلة متينة صياغة باهرة، وبذلك يتبوأ مكانته في تاريخ شعرنا الحديث.
4-
شوقي 1869-1932م:
أ- حياته:
في مهد من مهاد الترف والثراء وُلد شوقي سنة 1869 لأب وأم تنحدر إليهما عناصر مختلفة، فقد كان أبوه يجري فيه الدم العربي والكردي والشركسي، وكانت أمه يجري فيها الدم التركي واليوناني؛ إذ كان أبوها تركيًّا من بطانة إبراهيم ومن خلفوه إلى إسماعيل، وأصبح في عهد الأخير وكيلًا لخاصته، أما أمها فكانت يونانية من سبي إبراهيم في بلاد المورة.
فشوقي نشأ في بيئة أرستقراطية مترفة، وأخذ يختلف منذ سنته الرابعة إلى الكُتاب، ثم انتقل إلى المدارس الابتدائية والثانوية، فكان ذلك فرصة له ليختلط بأبناء الشعب وحياتهم الديمقراطية؛ ولكنه سرعان ما كان يعود إلى بيئته وما بها من نعيم الحياة.
ولما أتم تعليمه الثانوي في سنة 1885 ألحقه أبوه بمدرسة الحقوق ليدرس فيها القانون، وأُنشئ بها قسم للترجمة فالتحق به. وفي هذه المدرسة تعرَّف إلى أستاذه في العربية الشيخ محمد البسيوني، وكان قد أخذ يتفجر ينبوع الشعر على لسانه، فأعجب به أستاذه، وكان هو الآخر يجيد نظم الشعر إلا أنه لم يكن يفهم منه
إلا مديح الخديو توفيق في المواسم والأعياد. فدفع تلميذه في هذا الاتجاه.
وتخرج شوقي في قسم الترجمة سنة 1887، فعينه توفيق بالقصر، ثم أرسله في بعثة إلى فرنسا ليدرس الحقوق، فانتظم في مدرسة بمبونبلييه لمدة عامين، ثم انتقل إلى باريس، وظل بها عامين آخرين، حصل فيهما على إجازته النهائية. وهُيئت له فرص مختلفة ليذرع فرنسا طولًا وعرضًا، وليزور لندن وبلاد الإنجليز. وكان طوال إقامته في باريس يشاهد مسارحها ويتصل بحياتها الأدبية، وأقبل على قراءة فيكتور هيجو ودي موسيه ولافونتين ولامرتين، وترجم للأخير قصيدة البحيرة شعرًا.
وعاد شوقي إلى مصر، فعمل رئيسًا للقسم الإفرنجي بالقصر، وسرعان ما أصبح شاعر عباس، بل سرعان ما أصبحت له حظوة كبيرة عنده، فقد جعل له تدبير كثير من الأمور وتصريفها، وأصبح مقصد طلاب الجاه والرتب والألقاب. وأمضى في هذا العمل الرتيب عشرين عامًا هي زهرة حياته. ومن محاسن الصدف أنه تزوج من سيدة ثرية كانت مثالًا للزوجة الصالحة، وقد رزق منها بابنيه علي وحسين وابنته أمينة.
وكان أهم ما يعجب عباسًا فيه مدائحه له في أعياد حكمه لمصر وفي كل مناسبة كبيرة تمر به. وأخذ شوقي يدور معه في كل أهوائه السياسية، فتارة يمدح له الخليفة العثماني الذي كان يبتغي رضاه، وتارة يلوم الإنجليز ويندد بهم حين يغاضبهم وينازعهم بعض السلطان. ولم يكن شوقي حينئذ يختلط بالشعب؛ لذلك تفوق عليه حافظ في ميدان الوطنية وما يتصل بها من عواطف الجمهور السياسية؛ إذ كان ابن الشعب وكان يحس آلامه في عمق وقوة.
ومن المحقق أن شوقي لم تكفل له حريته في هذه الحقبة؛ إذ كان مشدودًا بحكم وظيفته إلى القصر وصاحبه، ولكنه مع ذلك حاول أن يفرغ لنفسه ولفنه، فنظم على ألسنة الحيوان شعرًا على نسق ما قرأه في الفرنسية للشاعر لافونتين. وحاول محاولة أروع من تلك المحاولة؛ إذ قرأ عند بعض الشعراء الفرنسيين شعرًا تاريخيًّا رائعًا من مثل "أساطير القرون" لفيكتور هيجو، فرأى أن ينظم على هذا المثال قصيدته الطويلة "كبار الحوادث في وادي النيل"، وألقاها في مؤتمر
المستشرقين الذي انعقد في سنة 1894. واستمر طويلًا في هذا الاتجاه، فنظم فرعونياته المشهورة في أبي الهول والنيل وتوت عنخ آمون وقصر أنس الوجود.
ومدَّ شعره إلى ينابيع الإسلام، فاستقى منها قصائد رائعة في مديح الرسول، من مثل الميمية التي عارض فيها بردة البوصيري، كما استقى في شعره أحيانًا من ينابيع العروبة. وكل ذلك معناه أنه كان يريد الانطلاق من قيود القصر وصاحبه والتحليق في آفاق أوسع وأرحب.
وأُعلنت الحرب العالمية الأولى وكان عباس غائبًا بتركيا، فمنعه الإنجليز من دخول مصر، وأقاموا عليها السلطان حسين كامل، وأخذوا يُبعدون عن القصر من يستشعرون الولاء لعباس، ولم يسكت شوقي؛ بل نظم قصيدة تحدث فيها عن الحماية التي أعلنتها إنجلترا على مصر، وقال فيها:"إن الرواية لم تتم فصولًا". فنفاه الإنجليز إلى إسبانيا، وظل بها طوال الحرب هو وأسرته، وهناك أخذ ينظم قصائده في أمجاد العرب ودولتهم الزاهرة التي اندثرت في الأندلس، ويضمنها حنينًا شديدًا إلى وطنه.
ورجع إلى مصر، فوجد أرضها تخضبها دماء شبابنا في ثورتنا الوطنية الأولى، ولم تلبث حريتنا أن رُدت إلينا، كما ردت حرية شوقي إليه. ومن هنا تبدأ الدورة الثانية في حياته الأدبية، فإنه لم يعد يفكر في القصر ولا في وظيفته فيه، فقد أصبح حرًّا طليقًا، وهيأ له ثراؤه أن ينعم إلى أقصى حد بهذه الحرية، فخلص لفنه ولشعبه وأخذ يغنيه أغاني وطنية رائعة. ولم يكن يبدأ هذه الأغاني حتى بذ حافظًا الذي كان يتفوق عليه في هذا المجال قبل الحرب وقبل توظفه في دار الكتب المصرية. ومرجع ذلك أن فنه كان أروع من فن حافظ، فلما اتجه به إلى تصوير عواطفنا الوطنية وحياتنا السياسية بلغ من ذلك الغاية التي لا تمتد إليها الأعناق.
ولم يُغنِّ مواطنيه وحدهم أهواءهم وعواطفهم السياسية؛ بل أخذ يغني الشعوب العربية أهواءها وعواطفها القومية، وله في ثورات سوريا على الفرنسيين
قصائد باهرة. ولا نبالغ إذا قلنا: إنه كان بشيرًا بفكرة الجامعة العربية التي تأسست من بعده، فشعره في هذه الدورة من حياته يَفيض بالوَحْدَة العربية، وأن العرب جسم واحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، ومن أبياته الدائرة في نوادي العرب ومجالسهم قوله:
ونحن في الشرق والفصحى بنور حم
…
ونحن في الجرح والآلام إخوان
وقوله:
كلما أنَّ بالعراق جريح
…
لمس الشرق جنبه في عمانه
وبمثل هذا الشعر الذي نظمه في العرب، وبما نظمه من سياسيات ووطنيات في قومه، احتل شوقي مكانة مرموقة في سِنيه الأخيرة، فلما أعاد طبع ديوانه "الشوقيات" في سنة 1927 أقيم له حفل تكريم عظيم، اشتركت فيه الحكومة المصرية والبلاد العربية؛ إذ قدمت منها وفود مختلفة تمجِّد شاعر مصر وتشيد بعبقريته ونبوغه. وقد وضع الشعراء في هذا الحفل على مفرقه تاج إمارة الشعر لا في مصر وحدها؛ بل في سائر الأقطار العربية. وأعلن حافظ هذا التتويج أو هذه البيعة قائلًا:
أميرَ القوافي قد أتيتُ مبايعًا
…
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
ولم تسترح نفس شوقي الكبيرة عند هذا الظفر العظيم؛ بل طمحت إلى أن تحقق أملًا منشودًا كان يراود دعاة التجديد عندنا منذ أوائل القرن الحاضر، وهو إدخال الشعر التمثيلي إلى دوائر شعرنا العربي، فنظم مسرحياته التي تحدثنا عنها في غير هذا الموضع، ولقيت نجاحًا منقطع النظير، ورأى أن يصوغ بعض الأزجال للغناء، فنظم منها طائفة بديعة من مثل زجله:
النيل نجاشي
…
حليوه أسمر
عجب للونه
…
دهب ومرمر
غير أن قيثارة الشعر العربي لم تلبث أن سقطت من يده في أكتوبر سنة 1932 فلبى داعي ربه، مخلفًا لمصر والبلاد العربية تراثه الشعري الخالد.
ب- شعره:
تتشابك في تكوين شاعرية شوقي وشخصيته الأدبية عناصر كثيرة، منها الجنسي ومنها الثقافي، أما من حيث الجنس فقد التأمت فيه خمسة عناصر، جعلته عربيًّا كرديًّا تركيًّا شركسيًّا يونانيًّا، وازدواج هذه العناصر الجنسية فيه يؤذن منذ أول الأمر بأنه سيكون شاعرًا كبيرًا، وخاصة أنه يجمع بين الجنسين العربي واليوناني، اللذين يشتهران من قديم بالشعر والشاعرية.
وأما من حيث الثقافة فقد حذق العربية والفرنسية، وتلقَّن التركية في بيته، ولكن أثرها لم يكن واسعًا في فنه سوى بعض أبيات ترجمها منها وأثبتها في ديوانه، أما تيارا العربية والفرنسية فيجريان واضحين في شعره، وكان للتيار الأول الغلبة، فهو الذي تتدفق في شعره مياهه أروع ما يكون التدفق وأبهجه.
وكان أكبر نبع يستقى منه هذه المياه كتاب "الوسيلة الأدبية" للشيخ حسين المرصفي، وهو يضم بين دفتيه أروع ما للقدماء من نماذج كما يضم بعض نماذج البارودي الحديثة، ولم يكد يلم شوقي بهذه النماذج الأخيرة حتى احتواها لنفسه وفنه، فقد تمثلها تمثلًا رائعًا.
وعكف على تمثل النماذج العباسية عند أبي نواس والبحتري وأبي تمام والمتنبي والشريف الرضي وأبي فراس وأمثالهم، وكان إعجابه شديدًا بالبحتري والمتنبي خاصة. وسُرعان ما اهتدى إلى أسلوبه، وهو أسلوب يسلك نفس الدروب التي سلكها البارودي من قبله، أسلوب يقوم على الاحتذاء للقوالب العباسية، ولا يجد صاحبه جرحًا في أن يعارض أصحابها؛ بل يعلن ذلك إعلانًا كما كان يعلنه سلفه، فتلك أمارة الإجادة الفنية، وهي إجادة تقوم على بعث الصياغة القديمة وإحيائها.
وعلى هذا النحو استطاع شوقي أن يكوِّن لنفسه أسلوبًا أصيلًا، أسلوبًا لا يتحرر من القديم؛ ولكن في الوقت نفسه يعبر عن الشاعر وعصره وكل
ما يريد من معانٍ وأفكار، وهو أسلوب يقوم على الجزالة والرصانة والمتانة والقوة؛ بحيث تؤلف الكلمات ما يشبه البناء الضخم الشاهق. وهو في ذلك يقترب من ذوق البارودي بأكثر مما كان يقترب حافظ، فقد كان بحكم نشأته في الشعب يميل أكثر منهما إلى لغته، فكان يستخدم في كثير من شعره لغة الصحف السهلة. أما شوقي والبارودي جميعًا فكانا يميلان إلى تقليد العباسيين، وكانا لذلك أكثر منه محافظة على التقاليد الفنية الموروثة.
وليس معنى ذلك أن صياغة شوقي لا تفترق عن صياغة البارودي في شيء، فشعره أكثر سلاسة من شعر أستاذه، وكأنما أشربت روحه روح البحتري، فموسيقاه أكثر صفاء وعذوبة من موسيقى البارودي، وكأنه كان يعرف أسرار مهنته معرفة دقيقة، وخاصة من حيث الصوت وما يتصل به من أنغام وألحان، ولعل ذلك ما جعل شعره أطوع للغناء من شعر صاحبيه البارودي وحافظ معًا، فقد أكثر المغنون في عصرنا من تلحين شعره وتوقيعه.
وربما كانت موسيقاه أروع خصاله الفنية، فلا تستمع إلى شيء من شعره حتى تعرفه، وإن لم يذكر لك اسمه ما دامت أذنك قد تعودت سماع شعره، وثبتت في نفسك نغماته التي تتوالى نغمة حلوة بجانب نغمة حلوة. ولا نغلو إذا قلنا: إن شعره يؤلف أروع ألحان عرفت في عصرنا الحديث؛ إذ نراه يعتصر من الألفاظ والأساليب خير ما فيها من ألحان، تسعفه في ذلك فطرة موسيقية رائعة، تقيس قياسًا دقيقًا ذبذبات الحروف والحركات وتآلف النغم في الألفاظ والكلمات.
وهذه الخصلة الموسيقية في شعره تسندها عنده خصلة التصوير البارع؛ إذ كان يعرف كيف يفيد من كنوز التشبيهات والاستعارات القديمة، ولم يكن يكتفي بذلك؛ بل كان يضيف إلى هذا الاستغلال للقديم كثيرًا من الأخيلة الحالمة. ويتضح ذلك في جوانب كثيرة من شعره، وخاصة حين يعمد إلى الوصف أو إلى الفرعونيات والتاريخ، وقصيدته في "قصر أنس الوجود" لوحة باهرة. ومن رائع أخيلته قوله على لسان توت عنخ آمون، وقد تخيل أنه بُعِثَ من
قبره، وشهد أقدام الإنجليز تطأ ثرى دياره، والمصريون لاهون عنهم يدقون على "الجازبند" وكأنهم لا يشعرون:
فقال والحسرة ما أشدها
…
ليت جدار القبر ما تدهدها
وليت عيني لم تفارق رقدها
…
قم نبني يا بنتؤور مادها
مصر فتاتي لم توقر جدها
…
دقت وراء مضجعي جازبندها
ويطيل النظر في الأهرام وفي تاريخ مصر القديمة، وما تلبث أن تتراءى الأهرامات في مخيلته ومن حولها الرمال كأنها السواري الباقية من سفينة غارقة، هي سفينة أمجادنا الدائرة:
كأنها ورمالًا حولها التطمت
…
سفينة غرقت إلا أساطينا
وتحوط هاتين الخصلتين من الخيال والموسيقى خصلة ثالثة من العاطفة الرقيقة والإحساس المرهف، ويتجلى ذلك في شعره الذي نظمه في ابنته "أمينة" وفي هِرَّته الصغيرة، كما يتجلى في شوقه وحنينه إلى وطنه الذي بثه في قصائده بمنفاه، من مثل قوله في سينيته:
وسلا مصر هل سلا القلب عنها
…
أو أسا جرحه الزمان المؤسِّي
وطني لو شغلت بالخلد عنه
…
نازعتني إليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني
…
شخصه ساعة ولم يخل حسي
وله في خريف حياته كثير من الأشعار التي يحن فيها إلى شبابه حنينًا فيه لهفة وحرقة، ومن خير ما يصور هذا الحنين قصيدته في "زحلة" بلبنان، وفيها يقول:
شيَّعتُ أحلامي بطرف باكِ
…
ولممتُ من طرق الملاح شباكي
ورجعت أدراج الشباب وورده
…
أمشي مكانهما على الأشواك
وهذه الخصال الثلاث من العاطفة والخيال والموسيقى ترفع شعر شوقي إلى ذروة الفن وقممه الشمَّاء.
وشعره ينقسم قسمين واضحين: قسم قبل منفاه وقسم بعده، وهو في القسم الأول يعيش في القصر ويسوق شعره في قيود هذه المعيشة، فهو شاعر الخديو عباس الثاني، وشعره يكاد يكون مقصورًا على ما يتصل به من قريب أو بعيد، فهو يمدحه في جميع المناسبات، وهو يشيد له بالترك والخلافة العثمانية. وهو في ذلك يسير سيرة الشعراء القدماء، وإن كان يتأثر بالثقافة الأوربية. وقد حدث في هذه الحقبة من حياته تطور في فنه، كالذي كان يحدث عند شعراء العصر العباسي، فهو يُعْنَى أحيانًا بالأوزان القصيرة بوصف الرقص والخمر، على نحو ما نرى في قصيدته:
حف كأسها الحبب
…
فهي فضة ذهب
وحدث تطور آخر أعمق من هذا التطور؛ إذ تأثر -كما مر بنا- شعراء الغرب في شعرهم التاريخي وما كانوا يقولونه في أطلال اليونان والرومان، فنظم قصيدته "كبار الحوادث في وادي النيل" وهي أم قصائده الأولى، ونظم قصيدته المشهورة في النيل:
من أي عهد في القرى تتدفَّق
…
وبأي كف في المدائن تُغْدق
وشوقي في كل ذلك لم يكن يُعْنَى بالجمهور عناية دقيقة، فهو شاعر القصر، وهو بعيد عن الجمهور بحكم أسرته الأرستقراطية وبحكم وظيفته الرسمية. ومع ذلك لا بد أن نحدد من هذا القول، وألا نطلقه إطلاقًا، فإن شوقي طبَع ديوانه للجمهور طبعته الأولى في سنة 1898، وكان ينشر شعره في الصحف، ونفس أميره كان يفكر في الجمهور. ومن هنا حدث تطور حتى في مدائحه؛ إذ كان يراعي فيها مناسبة تهم الجمهور، كأن يفتتح عباس مدرسة أو يأخذ بنظام الشورى في حكمه أو يغاضب الإنجليز في سياسته. وكان يمد آفاق شعره إلى حدود أبعد من ذلك خارج وطنه؛ إذ كان يعتصر في بعض مدائحه اللحن الإسلامي الذي يهم المسلمين في جميع الأقطار على نحو ما نرى في قصيدته التي مدح بها عباسًا حين حج إلى بيت الله. ولعل ذلك ما جعله يصوغ قصائده
في مديح الرسول حتى يُرضي عواطف قرائه الدينية، وأشاد مرارًا بعيسى ليرضي قراءه من المسيحيين، وله وقفات نبيلة يدعو فيها المصريين إلى توحيد صفوفهم من أقباط ومسلمين.
ويُنْفَى إلى إسبانيا، فينظم قصائد يقارن فيها بين فردوسه المفقود وفردوس العرب الضائع في الأندلس، وينشج وينوح ويصور قروحه النفسية لا في سينيته فقط؛ بل أيضًا في نونيته، ولكن دون أن يشعر بهوان؛ بل إنه يستشعر كبرياء قومه في أقوى صورة، كما نرى في مثل قوله:
نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا
…
ولم يَهُنْ بيد التشتيت غالينا
لم تنزل الشمس ميزانًا ولا صعدت
…
في ملكها الضخم عرشًا مثل وادينا
وهذه القصيدة الرائعة صاغها على نسق قصيدة لابن زيدون، وكذلك صاغ سينيته على نسق قصيدة البحتري في إيوان كسرى. ومعنى ذلك: أنه كان لا يزال في الأندلس شاعرًا تقليديًّا من بعض جوانبه؛ إذ يُعْنَى ببعض القصائد القديمة الرائعة، فيعارضها، وينظم من وزنها وقافيتها، وإن اختلفت القوالب بالقياس إلى ما تؤديه، فإن القوالب القديمة عنده دائمًا لا تستعصي على أداء ما يريد من معانٍ وأفكار، وهي لذلك تصبح عنده كيانًا فنيًّا حيًّا، له روعته وجماله.
ويعود من المنفى بعد الحرب، فيجد الشعب في ثورته السياسية، ويجد أبواب القصر مغلقة من دونه فيتجه إلى الجمهور، ويصور عواطفه وأهواءه السياسية تصويرًا قويًّا باهرًا يتفوق فيه على حافظ؛ لأن مواهبه أقوى من مواهب حافظ، ولأن حافظًا كان حبيسًا في قفص الوظيفة بدار الكتب المصرية.
على كل حال، أهم ما يميز شعر شوقي في هذه الدورة الثانية من حياته أنه تحول من القصر إلى الشعب، فصوَّره في آماله الوطنية وحركاته السياسية، ولم يعد شاعرًا تقليديًّا، بل أصبح شاعرًا شعبيًّا، ولكن بطريقته الفنية الخاصة، وهي طريقة لم تعد تعتمد على معارضات الشعراء القدماء؛ وإنما تعتمد اعتمادًا عامًّا على الجزالة والمتانة. ومن خير ما قاله في هذه الفترة قصيدته التي نظمها في
سنة 1924 يدعو فيها الأحزاب إلى الاتحاد والائتلاف، ومطلعها:
إلام الخلف بينكم إلاما؟
…
وهذي الضجة الكبرى علاما؟
وفيها صوَّر تطاحن الأحزاب على كراسي الحكم ونسيانهم لمصالح الأمة العامة في سبيل مصالحهم الشخصية. وليس هناك مفاوضة يُذكر فيها السودان إلا وينادي شوقي بالمحافظة على الإخوة الأشقاء وتخليصهم من براثن الاستعمار، ولا ينشأ مشروع ولا تقوم مؤسسة إلا ويجلجل فيها صوته من مثل: إنشاء بنك مصر وإنشاء الجامعة المصرية ومشروع القرش، فله في كل ذلك وغيره قصائد رنانة. ونظم كثيرًا من الأناشيد الوطنية رجاء أن تذيع بين طبقات الشعب وشبابه. وأخذ يغني الشعب مطامحه الاجتماعية في التعليم وفي وجوه الإصلاح الاجتماعي المختلفة، وقصيدته في العمال:
أيها العمال أفنوا الـ
…
ـعمر كدا واكتسابا
أين أنتم من جدود
…
خلدوا هذا الترابا
قلدوه الأثر المعـ
…
ـجز والفن العجابا
من رائع شعره وأعذبه. وكان لا يغيب عن ذهنه مجدنا القديم، فدائمًا يلحنه على قيثارته، وقصيدتاه في أبي الهول وتوت عنخ آمون مما لا يتطاول معاصروه من الشعراء إليه.
ولم يكتفِ بوطنه، فقد ذهب يتغنَّى بأمجاد العرب، وقصيدته أو موشحته في عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" من آياته. وله ديوان شعر سماه "دول العرب وعظماء الإسلام"، وقد قصره كما يتضح من عنوانه على تاريخ العرب في عصورهم الزاهية. وقد تغنى بعد عودته من منفاه عواطف الأوطان العربية المختلفة، وشاركها في ثوارتها مشاركة قلبية حارة، أنَّ فيها وناح مقابلًا بين حاضر العرب وماضيهم، وحقًّا ما يقوله:
كان شعري الغناء في فرح الشر
…
ق وكان العزاء في أحزانه
وللرثاء جزء خاص من دواوينه، وحافظ يسبقه في هذا الفن، وإن كان لشوقي فيه بعض قصائد طريفة. ومرجع ذلك أن حافظًا كان من الشعب وكان يتأثر -أكثر منه- حين يموت مصلح من المصلحين، وشتان بين مراثيه ومراثي شوقي في الشيخ محمد عبده ومصطفى كامل. وربما كان أروع مراثي شوقي مرثيته في أبيه:
ما أبي إلا أخ فارقته
…
وده الصدق وود الناس مين
لأنها صدرت من قلبه. وله مرثية مشهورة "على قبر نابليون".
وللمخترعات العصرية صحف مختلفة في دواوينه، نظمها بداعي هذا التحول الذي تحدثنا عنه مرارًا في الشعر؛ إذ أصبح جزءًا من الصحافة الحديثة، وأصبح يتناول موضوعاتها المختلفة من أخبار وأحداث، وربما كان ذلك هو الذي دعاه ليرثي تولستوي وليحيِّي ذكرى شكسبير.
وعلى هذا النحو كان شوقي يحلق بشعره في كل الأجواء. وقام أخيرًا بمحاولة رائعة؛ إذ حاول تمصير الفن المسرحي، فنظم طائفة من المسرحيات تحدثنا عنها في غير هذا الموضع. وعلى الرغم مما في هذه المحاولة من عيوب، أهمها أنه طبع شعره التمثيلي بطوابع شعره الغنائي، لا تزال أروع محاولة تمثيلية في الشعر العربي الحديث. وإذا قلنا: إنه سابق الشعراء في النصف الأول من هذا القرن غير منازَع ولا مدافَع لم نكن مغالين ولا مبالغين. وحقًّا تلقى قوالب شعره عن البارودي؛ ولكنه صب فيها مشاعر أمته والأمم العربية، كما صب فيها التمثيل صبًّا بديعًا، وهو صب لا يزال مثار الدهشة وموضع الإعجاب بين الأدباء والنقاد.