الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فحسب؛ بل أيضًا بمناظره الطبيعية وما فيها من فتنة وجمال.
وفي أثناء هذه الحقبة من أوائل القرن العشرين كان جرجي زيدان ينشر قصصه التاريخية التي بلغت نحو عشرين قصة، وقد استمد حوادثها من التاريخ الإسلامي، وهي في جملتها لا تستوفي شروط القصة من الحبكة والتسلسل الروائي؛ ولكنها على كل حال تعد عملًا جديدًا. وبجانب ذلك كتَب تاريخ التمدن الإسلامي في خمسة أجزاء كما كتب تاريخ الأدب العربي في أربعة أجزاء استقى فيها من كتابات المستشرقين.
ولا بد أن نذكر هنا أيضًا "ذكرى أبي العلاء" لطه حسين، وهو البحث الذي نال به درجة الدكتوراه من الجامعة القديمة التي أنشأها قاسم أمين وغيره من رجالات الفكر سنة 1908، واستقدموا لها كبار المستشرقين من أوربا، فبعثوا حياة علمية جديدة في دراستنا الأدبية، كانت ثمرتها هذه الرسالة التي حلل فيها كاتبها نفسية أبي العلاء وأثر الوسط المكاني والزماني فيه.
وعلى هذا النحو لم نصل إلى الحرب الأولى في هذا القرن حتى ظفرنا بتقدم واضح في الأدب ونقده. ومن المحقق أن جذوة الفكر المصري استطاعت منذ أوائل القرن أن تتوهج وأن ترسل ضوءها وشررها في مختلف الاتجاهات العقلية والفكرية؛ ولكن من المحقق أيضًا أنها كانت تصنع ذلك في أناة ورَيْث.
3-
بين الجديد والقديم:
وتتقدم الأعوام بنا إلى ما بعد الحرب الأولى، فإذا الثورة الوطنية تحتدم، وينشب كفاح مرير بيننا وبين الإنجليز، وينفون ويسجنون، ثم يُضطرون اضطرارًا أن يستجيبوا إلى مطالب الشعب استجابة قاصرة إلا أنها غيرت نظمنا، فانتقلنا إلى دور جديد، وضعنا فيه لنا دستورًا وأقمنا برلمانًا وتبدلت حياتنا من جميع وجوها تبدلًا خطيرًا، فقد أخذنا نعيش مستقلين إلى
حد ما، وأخذنا ننشر التعليم جادين، كما أخذنا نسترد حريتنا.
ولم تلبث الأحزاب أن نشأت وتصارعت، وأسَّس كل حزب منها لنفسه صحيفة ينشر فيها آراءه، ويختصم مع غيره من الأحزاب في أسس الحكم وما يرجو للأمة من خير. ومن المحقق أننا تعثرنا طويلًا في حياتنا السياسية في أثناء هذه الدورة الجديدة؛ فإن الأحزاب ولَّت في كثير من الأحوال وجهها من خدمة الأمة إلى خدمة مصالحها في كراسي الحكم، ولكن من المحقق أننا كنا في أثناء ذلك ننهض عقليًّا وروحيًّا؛ إذ كان ضميرنا الوطني أو ضمير شبابنا يزداد يقظة وتنبها بفضل ما كان يكتبه الأدباء والمفكرون في مختلف شئوننا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
بل لقد دأبت صحف هذه الأحزاب وما عاصرها من مجلات أدبية؛ كالهلال والمقتطف والسياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي على أن تنقل إلى القراء مباحث واسعة في الأدب والفكر الغربيين. وكان ذلك سببًا في اتساع نطاق الأدب؛ إذ لم تلبث الخصومات التي اشتدت بين الأحزاب في السياسة أن انتقلت إلى الكُتاب فإذا هم يتخاصمون خصومات عنيفة في الأدب وفي المثل العليا التي ينبغي أن تستقر بين المصريين في حياتهم العقلية والأدبية.
وتعنف هذه الخصومات، ويحمل لواءها نفر جديد من الكتاب، وهو ليس جديدًا خالصًا، فقد لمعت بعض أسمائه قبل الحرب مثل: العقاد والمازني وهيكل وطه حسين، بما قدم الأولان من تجديد واسع في الشعر ونقده وما حاوله هيكل في القصة وطه حسين في السيرة التاريخية. وكان العقاد والمازني يحملان في تجديدهما سلاحًا ذا حدين، فهما يهدمان نموذج الشعر عند جماعة النهضة من مثل: شوقي وحافظ، ويقيمان نموذجًا جديدًا.
ولما دار الزمان بهما وظفرت مصر بحريتها بعد الحرب رأيناهما يؤلفان كتاب "الديوان"، وفيه نقد العقاد شوقي نقدًا عنيفًا، أما المازني فنقد شكري، ثم نقد المنفلوطي وأسلوبه نقدًا ثائرًا وهو الذي يهمنا الآن، فقد لاحظ عليه ضعف الثقافة، وأن أسلوبه لفظي خالص لا يحوي معنى ولا فكرة ذات بال، وبالغ
فقال: إن أسلوبه ناعم، وإنه فارغ لا يحوي سوى الدموع والعَبَرات مما يستهوي المراهقين.
وهو نقد يعود إلى تغير المثل الأعلى في الكتابة، فإن الكاتب الجديد لم يعد يرضيه الأسلوب الجزل الرصين فحسب؛ بل هو يطلب الفكر الواسع الذي يوطد ويمهد للتعبير الدقيق عن الخوالج النفسية ودرجات الإدراك الفكري، ولو أن المازني لم يوضح ذلك تمامًا.
وقد أخذ المازني يُثبِّت هذا الاتجاه في النثر، فتارة يترجم نماذج أوربية، وتارة يصوغ نماذج عربية جديدة في القصة وغير القصة. وللعقاد جولات واسعة في هذا الصدد مع مصطفى صادق الرافعي، وكان لا يعجب بالعقاد ولا بشعره ونثره، وكان محافظًا محافظة شديدة، ووضعته الظروف ليحمل راية القديم في تلك الفترة الثائرة من حياتنا الأدبية.
وحدث أن كتب في سنة 1923 رسالة عتاب على النمط المسجوع القديم، وأرسلها إلى صحيفة "السياسة" التي يرأس تحريرها هيكل، ويكتب فيها طه حسين بعد أن عاد من بعثته مستمدًّا في كتابته من مقاييس النقد الغربي، ومتأثرًا بمثُل القوم الأدبية.
فأحدثت هذه الرسالة ضجة؛ لأن صاحبها قذف بها في معسكر ثائر من معسكرات التجديد، ولم يلبث طه حسين أن أعلن رأيه فيها، وأنها لا تلائم الذوق الأدبي الحديث. ونشبت بينه وبين الرافعي معركة حادة، فالرافعي يذود عن حصنه القديم وطه حسين يرميه بسهام الذوق الحديث الذي تغير تغيرًا تامًّا، والذي أصبح يؤمن أصحابه بأنه ينبغي أن نعبر تعبيرًا حرًّا طبيعيًّا عن حياتنا، ولا بأس من أن نستعير من الغربيين بعض معانيهم وأساليبهم ما دام ذلك لا يفسد جمال اللغة العربية وروعتها.
ويكتب طه حسين مقالات في الصحيفة نفسها عن أبي نواس ومجونه ويسمى عصره عصر المجون والزندقة، ويثور كثيرون إذ يرون في ذلك تشويهًا للقرن الثاني الهجري الذي عاش فيه أبو نواس. وتحدث خصومة عنيفة بينهم وبين
الكاتب، وتتحول المسألة من أبي نواس إلى القديم كله والقدماء وما يقولون، فهل نقبل كل ما يقولون أو نعرض ما يقولونه على الامتحان؟ ويذهب طه حسين إلى أن الأحكام التاريخية في الأدب أحكام إضافية، فإذا قال لنا القدماء قولًا في شاعر أو خليفة ينبغي أن نأخذه على أنه رأي ومن حقنا أن نغيره؛ لأنه ليس رأيًا مقدسًا، ولأنه ينبغي ألا نلغي عقلنا، وطبائع الأشياء -كما يقول- تؤيد أن يكون عقل المحدثين أرقى من عقول القدماء، ومن الجائز أن يتورطوا في الخطأ، فلا بد أن نناقش أقوالهم، ولا بد أن نخضعها للبحث والنقد.
وفي أثناء ذلك يكتب سلامة موسى في "الهلال" مقالًا عن مصطفى صادق الرافعي، ويجعله ممثلًا للقديم، ويهاجمه هجومًا عنيفًا، وقد بنى هجومه على أنه يحسن الصنعة ولا يحسن الفن؛ أي: أنه يحسن التعبير ولا يحسن تصور المثل الأعلى في الأدب. والحق أنه كان يحسنهما جميعًا على نحو ما سنرى في ترجمته، وقد استطرد سلامة موسى في مقاله يهاجم القديم جملة، فالأدب العربي السابق كله لا يصلح لحياتنا، وكذلك أسلوبه الموشى بالسجع وغير السجع؛ لسبب بسيط؛ وهو الرقي العلمي الحديث!
فمن رأيه أن الحياة العلمية والمادية قد تغيرت، وهذا يقتضي تغير الشعور والعواطف وتغير التعبير عنهما، وبالتالي تغير الأدب. وفي هذا الرأي مبالغة؛ لأن رقي العلم والحياة المادية لا يغيران مشاعرنا وعواطفنا تغييرًا تامًّا، وهذا ما يجعل الأدب خالدًا، فنحن نقرأ اليوم ما نظمه هوميروس في اليونانية وفرجيل في اللاتينية، وامرؤ القيس في العربية، ونتأثر بكل الأدب القديم، ونجد فيه متاعًا وغذاء لعقولنا وأرواحنا.
ولكن سلامة موسى يتميز في هذه الدورة من أدبنا بعد الحرب الأولى بأنه كان ثائرًا ثورة عنيفة، فهو يدعو بقوة إلى الانغمار في التيار الأوربي بكل ما فيه من علم وأدب ونظم سياسية. وله في ذلك مقالات وكتب كثيرة، وقد أخرج صحيفة هي "المجلة الجديدة" ينشر فيها تعالميه بين الشباب، وقلما ظهر مذهب أوربي في علم أو غير علم إلا نادى به وتقدم الصفوف يدعو إليه دعوة حارة. وقد ظل
إلى الأيام الأخيرة من حياته يدعو إلى مبادئه في إخلاص وحرارة، غير أنه كان يتطرف في دعوته، وخاصة من حيث اللغة؛ إذ يرى -كما نراه الآن في نقده للرافعي- أن ننبذ الإطار القديم جملة، وأن نتخفف في لغتنا، ولا بأس من أن نجعلها أقرب إلى عاميتنا التي نعبر بها في حياتنا اليومية.
وكان يقف وحده في هذا الاتجاه، فإن أدباءنا المجددين من أمثال: طه حسين وهيكل والعقاد والمازني، وكانوا يرون أن يظلوا مع الأسلوب الفصيح الرصين الجزل؛ حتى يكون لأدبهم موقع حسن في الأسماع والقلوب، فهم يحرصون على الإعراب وعلى الألفاظ الصحيحة التي تقرها المعاجم، وهم في داخل هذا الإطار يجددون تجديدًا لا يخرج بهم عن أصول العربية، وإنما يُغنيها ويُنمِّيها بما يضيفون من نماذج جديدة وفكر جديد.
وهذا الاتجاه هو الذي ثبت واستقر في حياتنا الأدبية الحديثة، وهو اتجاه يقوم على التحول والتطور بلغتنا وأدبنا على نحو ما تحولت وتطورت الآداب الأوربية، فهي لم تقع صلتها بالقديم، وفي الوقت نفسه لم تقف عنده؛ بل جددت نفسها وتطورت من جيل إلى جيل.
وإذا كان سلامة موسى يتطرف في التجديد حتى يريد أن يقطع صلتنا بالقديم؛ فقد كان الرافعي يقف له بالمرصاد، وقد رد عليه في صحيفة "الهلال" ردًّا مفحمًا غير أنه أقحم الدين في كلامه، ولم يكن الدين متصلًا بموضوع الخصومة؛ ولكنه أراد أن يجعل قضية التجديد قضية دينية حتى يكسب في صفه أناسًا كثيرين. وقال: إن التجديد إن كان في الأفكار والمعاني فهو لا يدفعه، أما إن كان في اللغة فإنه ينكره إنكارًا شديدًا.
وتدخَّل في هذه المعركة طه حسين، فأيد سلامة موسى في التجديد من الناحية العامة، ورد على الرافعي قوله بأن المجددين يمسون أو يفكرون أن يمسوا بتجديدهم اللغة، فهو وكثير غيره من المجددين يكتبون بأسلوب عربي فصيح مستقيم. وكان الرافعي قد تعرض في مقاله للحضارة الغربية وهاجمها، فرد هجومه طه حسين، وقال: إن هذه الحضارة غنية.
ويُكثر طه حسين من المقالات في هذه الجوانب، فتارة يتحدث عن القديم والجديد، وتارة يتحدث عن الذوق الأدبي وتجديده، ثم يُخْرج كتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي أعاد نشره باسم جديد هو "في الأدب الجاهلي"، وفيه بحث الشعر الجاهلي على أساس مذهب غربي هو مذهب "ديكارت" الذي يقوم على الشك، فالأصل أن نشك في الأشياء ثم نقلبها بعد بحث وامتحان. واستضاء بما كتبه الأوربيون عن إلياذة هوميروس وشكِّهم في حقيقة مَنْ نظم هذه القصيدة القصصية الطويلة، وقد رأى بعضهم أنه نظمها شعراء مختلفون. فحاول طه حسين أن يطبق هذه الدراسات في الشعر اليوناني القديم على الشعر الجاهلي، وأخرج في ذلك كتابه المذكور آنفًا الذي يوضح كثرة الانتحال في الشعر الجاهلي، وأن شعرًا كثيرًا دخل فيه.
وأثار هذا البحث بما فيه من آراء جديدة ضجة واسعة في الناس والبرلمان، وكتب الرافعي وغير الرافعي كتبًا في الرد عليه، وكثر الجدال؛ ولكن طه حسين ثبت للمعركة، وكان ثبوته إيذانًا بنجاح مقاييس النقد الجديدة. وهذه المقاييس لم تكن أوربية خالصة، فقد كان أدباؤنا المجددون يقرءون في الأدب والنقد الأوربيين وكانوا يقرءون في الأدب والنقد العربيين، واستطاعوا أن يجمعوا بين الطريقتين -طريقتي العرب والغربيين- ويستخلصوا لأنفسهم مقاييس جديدة لا هي أوربية خالصة ولا عربية خالصة؛ إنما هي مصرية تصور ما كسبته مصر من التيار الغربي ومن التيار العربي القديم، ثم ما كسبته من الحرية الجديدة بعد الثورة الوطنية الأولى في هذا القرن، الحرية إلى أبعد الحدود في الأفكار والآراء.
ومعنى ذلك أن هذه النزعة المجددة لم تكن هدمًا للقديم؛ وإنما كانت إحياء له وبعثًا وتنمية في صور جديدة، فنحن في تجديدنا لم ننقطع عن القديم لا في الأدب ولا في النقد؛ بل ظللنا نعتمد على عنصرين متكافئين؛ وهما: المحافظة على إحياء القديم، والإفادة من الآداب الغربية.
ونشأ عن ذلك أن مقاييس النقد تغيرت عندنا بالقياس إلى ما كان منها
قبل الحرب، حقًّا أن العقاد والمازني استطاعًا أن يؤصِّلا بعض القواعد النقدية في الشعر في أثناء العشرة الثانية من هذا القرن كما مر في غير هذا الموضع؛ ولكنهما كانا حينئذ يعتمدان كثيرًا على طريقة النقد القديمة، تلك الطريقة اللفظية التي تحلل العبارات والألفاظ وتبحث في السرقات، ونراهما يتطوران بعد الحرب، ويتطور منهجهما النقدي، فتصبح الأصول العامة هي أساس نقدهما، ويكثران من الحديث في القديم والجديد والذوق الأدبي، ويدرسان كثيرًا من شعرائنا القدماء على أصول النقد الغربي وقواعده. وكان يصنع صنيعهما طه حسين وهيكل. ولم يكونوا جميعًا يقفون بدرسهم عند أدبائنا القدماء؛ بل أخذوا يعرضون أدباء الغرب أنفسهم ويحللون آثارهم، ويُصدرون عليهم أحكامًا لا يستمدونها فقط من الباحثين الغربيين؛ وإنما يستمدونها في الغالب من أذواقهم المصرية الجديدة، ومما أتاحوا لأنفسهم من مُثُل أدبية هي مزيج من الآداب العربية القديمة والأوربية الحديثة.
وبذلك أصبح لنا نقد مصري ومقاييس أدبية مصرية، وحقًّا ظهر صراع حاد بين هذه المقاييس الجديدة والمقاييس القديمة، فكان هناك مَن يتشددون في التقيد بالقدماء، وأخذ ذلك شكل معارك حادة بين الرافعي وطه حسين من جهة، والرافعي والعقاد من جهة ثانية.
على أن الرافعي حين نبحث فيه ونعرض آثاره على الدرس نجده يحاول التجديد، فقد حاول في مقالاته وكتبه أن يعبر عن معانٍ حديثة في العواطف وفي الجمال والحب والبغض، وكان يتعمق في هذه المعاني تعمقًا بعيدًا، فتسرب الغموض إلى بعض أساليبه مما جعل الكثرة من الشباب تنصرف عنه إلى خصومه المجددين الذين استطاعوا بثقافتهم العربية والغربية أن يعبروا عما في نفوسهم وعقولهم تعبيرًا حرًّا سهلًا، لا يتقيدون فيه بألفاظ القدماء وأساليبهم؛ وإنما يحتفظون بإطار لغوي عام، ثم يكيِّفون اللغة بعد ذلك بأشكال مختلفة، فتارة ينقلون إلينا بعض الأساليب الغربية، وتارة يخترعون بعض الأساليب اختراعًا.
والحق أن هؤلاء المجددين من أدبائنا أحدثوا في لغتنا مرونة واسعة، وقد أخذت جماعتهم تتكاثر؛ إذ أخذت تدخل فيها عناصر من الشباب الذي حذق اللغات الأجنبية، وفهم في وضوح الآداب العربية من مثل: توفيق الحكيم ومحمود تيمور وغيرهما، ممن أجبروا اللغة العربية وما فيها من صلابة على اللين والعذوبة.
وعلى هذا النحو أصبحنا بين الحربين الأولى والثانية في هذا القرن نملك أدبًا جديدًا، وهو أدب لم يقف عند المقالة أو عند قصة ناقصة التأليف؛ بل أصبحت المقالة فيه أكثر غنًى وتنوعًا، سواء في السياسة أو في الأدب، وكتَبْنا قصصًا ومسرحيات كاملة التأليف، ففيها الحبكة وفيها العقدة، وفيها التسلسل الروائي الدقيق. وكل ذلك يعرض أدبًا مصريًّا جديدًا في لغة عربية فصيحة.
وكان طبيعيًّا في هذه الحركة التي خَلقتْ لنا هذا الأدب المصري الخالص أن يدعو بعض نقادنا إلى تمصير أدبنا، وأن نتجه فيه اتجاهًا قوميًّا، وأبلى هيكل في هذا الاتجاه بلاء واسعًا، فقد نشر كثيرًا من المقالات فيه، وجمعها في كتابه "ثورة الأدب"، وفيها ذهب في صراحة إلى أنه ينبغي أن نلتمس مصادر أدبنا المصري الحديث في الأدب الفرعوني القديم، فندرس تاريخنا وأساطيرنا، ونستلهم منهما في أدبنا، ووضَع عدة قصص استوحى فيها تاريخ الفراعنة وأساطيرهم.
ولكن هذا الاتجاه القومي لم ينجح، فإن أدباءنا اتجهوا اتجاهًا أوسع، أفادوا من هذا الاتجاه الذي دعا إليه هيكل؛ ولكنهم لم يقصروا أنفسهم عليه؛ بل بسطوها على تراثنا كله من فرعوني ومن عربي إسلامي، ونفس هيكل ابتغى فيما بعد الحياة الإسلامية الخالصة، واتخذ منها مصدرًا لأعماله الأدبية، وبدأ في ذلك بصاحب الرسالة الإسلامية، فكتب عنه كتابه "حياة محمد"، وتلاه بكتابين عن أبي بكر وعمر.
وأكبر الظن أن مرجع ذلك إلى أسس هذه الحركة المجددة، فهي ليست حركة هادمة؛ وإنما هي حركة بانية، وهي تبنى على القديم العربي، تبنى عليه في اللغة إذ تحتفظ بإطارها العام، وتبنى عليه في الموضوع، فتدرس تاريخنا القديم، وتستوحي عناصره الإسلامية وغير الإسلامية، كما تدرس حياتنا