المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ طه حسين 1889-1973م: - الأدب العربي المعاصر في مصر

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌فهرس الموضوعات:

- ‌الفصل الأول: مؤثرات عامة:

- ‌ أحداث كبرى:

- ‌ تياران: عربي وغربي:

- ‌ المطبعة والصحف:

- ‌ الشعر وتطوره:

- ‌ استمرار التقليد:

- ‌ نهضة وإحياء:

- ‌الفصل الثالث: أَعْلام الشعر:

- ‌ محمود سامي البارودي 1838-1904م:

- ‌ إسماعيل صبري 1854-1923م:

- ‌ حافظ إبراهيم 1870-1932م:

- ‌ شوقي 1869-1932م:

- ‌ خليل مطران 1872-1949م:

- ‌ عبد الرحمن شكري 1886-1958م:

- ‌ عباس محمود العقاد 1889-1964م:

- ‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

- ‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

- ‌ علي محمود طه 1902-1949م:

- ‌الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه:

- ‌ تقيد بأغلال السجع والبديع:

- ‌ حركة تحرر وانطلاق:

- ‌ بين الجديد والقديم:

- ‌ تجديد شامل:

- ‌ فنون مستحدثة:

- ‌المسرحية:

- ‌الفصل الخامس: أعلام النثر:

- ‌ محمد عبده 1849-1905م:

- ‌ مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م:

- ‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

- ‌ مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:

- ‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

- ‌ إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م:

- ‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

- ‌ طه حسين 1889-1973م:

- ‌ توفيق الحكيم:

- ‌ محمود تيمور 1894-1973م:

الفصل: ‌ طه حسين 1889-1973م:

الناس علينا وانهيالهم بما لا يقل عن سياط السائق إيلامًا ووخزًا، أو كأن النفس الإنسانية من الخسة والميل إلى الشر بحيث يجب الوقوف أمام كل إرادتها ومعارضتها في أغراضها وتقييدها بما قيدتنا به العادات العتيقة البالية".

وبهذا الأسلوب الساخر من العادات والتقاليد الاجتماعية وبما يُطْوَى فيه من وصف حسي بارع للريف والقرية المصرية كتب هيكل قصته في لغة عذبة ليس فيها سجع ولا بديع؛ بل حاول أن يجعلها لغة مصرية، فاستعار في بعض المواضع -وخاصة في الحوار- كلمات من العامية الريفية، وكأنه يستجيب لدعوة أستاذه لطفي السيد؛ إذ دعا إلى أن تكون لنا في الأدب لغة تميزنا بحيث تقترب الفصحى من العامية. غير أن هيكلًا لا يتوسع في ذلك؛ بل عاد في مقالاته وفيما ألفه بعد زينب إلى الأسلوب الفصيح. وفي الحق أنه أحد من طوعوا العربية ومرَّنوها لتؤدي المعاني والأفكار الحديثة في أسلوب شفاف بديع. وقد عاون جاهدًا منذ أوائل القرن في أن يكون لنا أدب مصري قومي منبعث من بيئتنا وشخصيتنا وحاضرنا وماضينا وعواطفنا ومشاعرنا، وكانت قصة زينب اللبنة الأولى في هذا الأدب المصري الجديد.

ص: 277

8-

‌ طه حسين 1889-1973م:

أ- حياته وآثاره:

وُلد طه حسين سنة 1889 لأب مصري من قرية في صعيد مصر على مقربة من مدينة مغاغة الواقعة على الجانب الأيسر للنيل. وكان أبوه موظفًا صغيرًا في شركة زراعية من شركات السكر، وأنجب أبناء كثيرين، كان طه سابعهم، وفقد بصره في الثالثة من عمره؛ ولكنه عُوِّض عن بصره ذكاء حادًّا وذاكرة قوية. وحدَّد فقده لبصره الطريق الذي يختاره في حياته، وهو طريق التعليم

ص: 277

الديني، فالتحق بكُتَّاب، حفظ فيه القرآن الكريم، ولما أتم حفظه أخذ في حفظ "مجموع المتون" وقراءة بعض الكتب والأشعار القديمة استعدادًا لدخول الأزهر، وكان قد سبقه إليه أخ أكبر منه، فصحبه معه وهو في الثالثة عشرة.

وعكف طه على دراسة العلوم الدينية واللغوية بالأزهر، وكان الشيخ سيد المرصفي يدرس الأدب، فأعجب به، ولزم دروسه التي كان يقرأ فيها الكامل للمبرَّد والأمالي لأبي علي القالي وحماسة أبي تمام. ولم يلبث أن أخذ يضطرب في محيط الحركات الإصلاحية التي كان ينادي بها تلاميذ محمد عبده، من مثل قاسم أمين الذي كان يدعو إلى حرية المرأة، ولطفي السيد الذي أخذ يدعو في "الجريدة" إلى مقاييس جديدة في السياسة والأخلاق والاجتماع. وسرعان ما تحول إلى هذا المعلم يستضيء به في حياته العقلية، فاختلف إلى صحيفته، مستمعًا لأفكاره تارة، وكاتبًا بإرشاده وعلى هديه تارة أخرى.

وفتحت الجامعة الأهلية أبوابها للطلاب سنة 1908 فانتظم فيها، وسمع إلى مَن كانوا يحاضرون بها من المصريين أمثال: الشيخ المهدي ومحمد الخضري وحفني ناصف، ومن المستشرقين أمثال: نالينو وجويدي. وسرعان ما انكشف له آفاق جديدة في بحث الأدب ودراسته؛ بفضل المناهج العلمية في النقد التي استمع إليها من الأساتذة الأوربيين. واتجه توًّا إلى تعلم الفرنسية في مدارس ليلية وعلى أيدي بعض المعلمين؛ حتى يفهم المحاضرات التي كانت تُلْقَى بهذه اللغة. ولا نصل إلى سنة 1914 حتى نجده يتقدم إلى درجة الدكتوراه برسالة عن أبي العلاء، ويظفر بالدرجة التي يبتغيها بين الإعجاب والثناء.

وطُبعت الرسالة باسم "ذكرى أبي العلاء" وهي تصور استعدادًا علميًّا واضحًا، لا بما فيها من حاسة تاريخية سليمة فقط؛ بل أيضًا بما فيها من أحكام أدبية جديدة لا تتأثر رأيًا سابقًا ولا عقيدة سابقة. وعلى الرغم من أنه لم يكن قد وسَّع محيط قراءته في الآداب الغربية وفي آثار المستشرقين نجده يبحث الضرير العربي القديم بحثًا دقيقًا يستوفي فيه حياته وبيئته وعصره وظروفه التي أحاطت به، وكوَّنت أدبه وفلسفته.

لذلك قررت الجامعة الأهلية إرساله في بعثة إلى فرنسا، فنزل في مونبلييه

ص: 278

والتحق بجامعتها يدرس العلوم التاريخية وظل فيها نحو عام، عاد في نهايته إلى مصر لسوء حالة الجامعة المالية. وسرعان ما تحسنت ظروف الجامعة، فرجع بعد ثلاثة أشهر ولكن لا إلى مونبلييه، وإنما إلى باريس. وهناك أخذ يختلف إلى محاضرات المؤرخين والأدباء في السوربون والكوليج دي فرانس، تارة يستمع إلى محاضرات في التاريخ اليوناني والروماني القديم، وتارة ثانية يستمع إلى محاضرات في الفلسفة وعلم النفس، وتارة ثالثة يستمع إلى محاضرات بعض المستشرقين. ويتعلم في أثناء ذلك اليونانية واللاتينية، تعاونه فتاة فرنسية كريمة تعرَّف عليها في أثناء الدرس، وهي التي اختارها فيما بعد شريكة لحياته؛ إذ وجد عندها كل ما كان يفقده، وقد وصفها فقال: إنها بدلته من البؤس نعيمًا، ومن اليأس أملًا، ومن الفقر غنًى، ومن الشقاء سعادة وصفوًا.

وكان أهم ما شُغف به من دراسات في السوربون المشاكل الفلسفية والاجتماعية، وانتهى به هذا الشغف إلى أن يجعل رسالته للدكتوراه "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية". ومن المحقق أنه استطاع بجانب ذلك أن يفهم الأدب اليوناني واللاتيني القديم فهمًا عميقًا، كما استطاع أن يفهم الأدب الفرنسي الحديث فهمًا دقيقًا، حتى إذا عاد إلى مصر عقب الحرب العالمية الأولى أخذ يُعْنَى في محاضراته بالجامعة بدرس تاريخ اليونان وأدبهم؛ حتى يفهم المصريون الحضارة القديمة. وأخرج كتابين هما:"صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان". و"نظام الأثينيين" لأرسططاليس. وكأنه بذلك يريد أن نعتمد في نهضتنا الأدبية على الأصول اليونانية التي اعتمد عليها الأوربيون في تكوين نهضتهم الأدبية، وإليه وإلى أستاذه لطفي السيد مترجم أرسططاليس يرجع اهتمامنا بالحضارة اليونانية القديمة. ونقل فيما بعد طائفة من تمثيليات سوفوكليس باسم "من الأدب التمثيلي اليوناني".

ويُصدر حزب الأحرار الدستوريين صحيفة السياسة، ويصبح محررها الأدبي، وهنا نراه يعدِّل في اتجاهه؛ إذ ينشر يوم الأحد قصة ملخصة من الأدب الفرنسي، وفي يوم الأربعاء ينشر بحثًا في الشعر العربي. وأكبر

ص: 279

الظن أنه انصرف عن الأدب اليوناني؛ لأنه لم يجد قبولًا له عند المصريين حينئذ. وكان المسرح المصري متأخرًا، فرأى أن يُطْلع القراء على بعض المسرحيات الفرنسية؛ حتى يفهموا هذا المسرح الغربي الحديث، فنشر في سنة 1924 كتابه "قصص تمثيلية" لطائفة من أشهر الكتاب الفرنسيين، كما نقل بعد ذلك مسرحية "أندروماك" لراسين و"زاديج" لفولتير.

وحاول في المقالات التي نشرها في الشعر العربي أن يفهم طبيعة العصر العباسي الأول -عصر أبي نواس- فهمًا جديدًا غير متأثر فيه بآراء من سبقوه، ودعاه عصر الشك والزندقة والمجون. وثار عليه كثيرون في مقدمتهم أديب سوريا رفيق العظم؛ لأنهم عدوه مشوهًا لتاريخ العرب في حقبة باهرة من حقب حياتهم. ورد طه حسين بأن العلم ينكر مذهب تقديس السلف، وبأن النقد العلمي ينبغي ألا يعرف الهوى، وألا يتأثر بالميول والعواطف، واستشهد بعصور في تاريخ اليونان القديم وتاريخ فرنسا الحديث كانت من أزهى العصور، وكانت من أكثرها لهوًا ومجونًا، وانتهى إلى أن القرن الثاني الهجري كان قرن لهو ولعب وشك ومجون.

وتحولت الجامعة الأهلية في سنة 1924 إلى جامعة حكومية، وأصبح أستاذًا لآداب اللغة العربية في الجامعة الجديدة بكلية الآداب. ونراه بعد أن ترجم في سنة 1922 كتابًا في علم النفس التربوي من تأليف لوبون بعنوان "روح التربية" ينشر في سنة 1925 كتاب "قادة الفكر"، وفيه يصور مراحل التطور الفكري والثقافي في الغرب، وقد جعلها أربعة مراحل: مرحلة شعرية يصورها هوميروس، ثم مرحلة فلسفية يمثلها سقراط وأفلاطون وأرسططاليس، ثم مرحلة سياسية يمثلها الإسكندر الأكبر، وأخيرًا مرحلة دينية تمثلها المسيحية والإسلام.

وفي سنة 1926 نشر كتابه "في الشعر الجاهلي"، وبنى دراسته فيه على منهج ديكارت الذي يدعو إلى الشك في كل شيء حتى نصل إلى اليقين على أسس وطيدة، وبهذا المنهج اعتبر الأحكام التاريخية القديمة إضافية يمكن أن يعاد النظر فيها، فإذا قال القدماء رأيًا في

ص: 280

شاعر فلا مانع من أن نذكر بجانب هذا الرأي رأيًا آخر، ربما كان أدق وأصدق، فكثير من الأشياء يمكن أن يكون قد فات القدماء. وقد انتهى إلى نظرية عامة هي نظرية الانتحال في الشعر الجاهلي. وفي أثناء ذلك دعا إلى حرية الفكر، وأن ننظر في الأدب نظرًا غير مقيد بمذهب أو عقيدة سوى روح البحث التحليلي. وثارت ثائرة النقاد وخاصة مصطفى صادق الرافعي ورجال الأزهر، وتخلف عن هذه الثورة كثير من الكتب وتدخلت الحكومة؛ ولكن العاصفة مرت بسلام، وأعاد طبع كتابه باسم "في الأدب الجاهلي".

ووجهته هذه المعركة العنيفة إلى النظر في شأنه وتطوره، ومن هنا بدأ يكتب ترجمته الذاتية "الأيام"؛ فأخرج الجزء الأول منها في سنة 1929 بعد أن نشره فصولًا في مجلة الهلال

وأصبح عميدًا لكلية الآداب، إلا أن عهد إسماعيل صدقي يُظلُّ مصر، وتدخل في أيام مظلمة، في السياسة وغير السياسة، فيُبْعَدُ طه حسين عن الجامعة، ويستقيل منها لطفي السيد. ولا يلبث أن ينضم إلى حزب الوفد، ويكتب في "صحيفة كوكب الشرق"، ويخرج صحيفة "الوادي"، ويحول قلمه إلى ما يشبه سوطًا، يلهب به لحم صدقي الطاغية.

ويظل في هذا الصراع من سنة 1931 إلى سنة 1934؛ أي: طوال حكم صدقي، ولكنه لا ينصرف عن الأدب والكتابة فيه؛ فقد أخرج في سنة 1932 كتابه "في الصيف"، وهو مجموعة رسائل كتبها بأوربا في صيف سنة 1928 يصف فيها رحلته في البحر وأثرها فيه، ويجره ذلك إلى ذكريات أول رحلة له إلى فرنسا، وتتجسم في مخيلته صور أخرى من شبابه حين كان في الأزهر وحين كان يشغف مع رفقائه فيه بالنزعة العقلية المتحررة التي دعا إليها محمد عبده. وفي سنة 1933 ينشر دراسته عن "حافظ وشوقي"، كما ينشر أول جزء له من سلسلته البديعة "على هامش السيرة"، وظهر له بعد هذا الجزء جزآن. وفي الأجزاء الثلاثة يتخذ من السيرة النبوية وما فيها من أحداث وأشخاص مادة لقصص رائع.

ص: 281

ويعود إلى عمادة كلية الآداب في نهاية سنة 1934، وينشر سلسلة من محاضراته في نشأة النثر العربي وفي طائفة من الشعراء العباسيين باسم "من حديث الشعر والنثر"، كما ينشر طائفة من مقالات كتبها في باريس وفي بلجيكا وفيينا باسم "من بعيد". ومن أروع مقالاته في هذه المجموعة مقالته عن "ديكارت" ومذهبه في الشك واليقين. وهو في دراساته المختلفة يُعد مثلًا حيًّا لتطبيق هذا المذهب الفلسفي وحَمْل الباحثين في الأدب العربي عليه. وفي هذه الفترة نشر قصة "أديب" صور فيها أحد زملائه في البعثة، وتحدث في أثناء ذلك عن الجامعة القديمة وعن سفره إلى أوربا، ويُعد هذا الكتاب من روائع أدبنا التصويري الحديث. وعقب ذلك وضع كتابًا عن المتنبي سنة 1936 سماه "مع المتنبي"، حلل فيه حياته وشعره. ويتصادف أن يقضي الصيف في قرية من قرى جبال الألب ويلتقي بتوفيق الحكيم، وتكون ثمرة هذا اللقاء "القصر المسحور"، وهو مجموعة رسائل أدبية، تخيلا فيها شهرزاد، وأفضى كل منهما أمامها بآرائه في الأدب والحياة.

ومضى طه حسين يفكر في حياتنا الثقافية والتعليمية، ووضع لها برنامجًا مفصلًا في كتابه "مستقبل الثقافة" الذي أصدره في سنة 1939 وهو يقع في جزأين. وكان قد ترك الجامعة ليعمل في وزارة التربية والتعليم. وعُين مستشارًا فنيًّا لهذه الوزارة، ثم عين مديرًا لجامعة الإسكندرية سنة 1942 فأتم إنشاءها.

وفي أثناء ذلك يقبل على الدرس والكتابة، فنراه بعد أن أعاد كتابه القديم عن أبي العلاء باسم "تجديد ذكرى أبي العلاء" ينشر عنه بحثًا جديدًا باسم "مع أبي العلاء في سجنه"، يصور فيه جوانب نفسية وفلسفية دقيقة لهذا العقل الكبير، وأفرده بعد ذلك بكتيب سماه "صوت أبي العلاء" نثر فيه بعض أشعاره. واتجه إلى القصة، فنشر "أحلام شهرزاد" و"شجرة البؤس" و"دعاء الكروان"، وهو فيها جميعًا يعبر عن مُثُله القومية والإنسانية. أما

ص: 282

في الأولى فيعرض مشاكل العصر ونظام الطبقات خلال هذه الأسطورة القديمة عن شهرزاد وشهريار، وبذلك تُبعث الأسطورة من جديد وتحيا في محيط حياة الكاتب وآرائه. وأما القصة الثانية فيعرض علينا فيها صورة حية لأسرة مصرية تعاقب فيها ثلاثة أجيال، أعدوا لظهور صراع عنيف بين المثل العليا للعقل والعلم وبين التقاليد البالية، وفي أثناء ذلك تصوَّر الطبقة المصرية الفقيرة وما تعاني من بؤس واعتقاد في التوكل والقضاء. وفي القصة الثالثة يشترك الكروان مع أشخاص القصة في الآلام، وتصوَّر حياة المصريين في طوائف من البدو والفلاحين والموظفين كما تصور مشاكل التعليم، ويقوم صراع بين الغريزة والضمير ومطالب الفرد والجماعة.

وينشر في هذه الفترة مجموعة من مقالاته في النقد باسم "فصول في الأدب والنقد"، كما ينشر طائفة من نظراته التحليلية في القصص والمسرحيات الفرنسية بعنوان "صوت باريس" و"لحظات". وتستقيل الوزارة الوفدية، ويخرج من الحكومة، فيحرر صحيفة "الكاتب المصري"، ويعمل على نهضة كبيرة في الترجمة، ويترجم أوديب لأندريه جيد. ويكتب في صحيفته مقالات أدبية مختلفة تتناول بعض الأدباء الغربيين وبعض الدراسات في الأدب العربي، وينشر منها مجموعة باسم "ألوان". ويؤلف كتابًا عن "عثمان" يصور فيه فتنته وكل ما اقترن بها من مؤثرات ودوافع بشرية. ويصف رحلة له إلى أوربا في صيف سنة 1948 ويذيعها باسم "رحلة الربيع". وينشر كتاب "جنة الحيوان" وهو مجموعة رسائل أدبية رمزية، كما ينشر "مرآة الضمير الأدبي" وهي رسائل في نقد الأخلاق والمجتمع. ويذيع "جنة الشوك" وهي تجري في محاورات قصيرة بين شيخ وتليمذه، وهي محاورات لاذعة ترمي إلى إصلاح الفاسد في مجتمعنا وتقويم المعوج في صور قوية. ويكتب أقاصيصه "المعذبون في الأرض" راسمًا فيها ما كان يقع على المصريين من ظلم في عهود الإقطاع والفساد السياسي.

ويصبح في سنة 1950 وزيرًا للتربية والتعليم، فينادي بتكافؤ الفرص ويصيح بأن التعليم ضروري لكل أفراد الشعب ضرورة الغذاء والماء والهواء،

ص: 283

ويفكه من عقال المصاريف، ويجعله مجانًا للشعب كله. ويخرج قصته "الوعد الحق" مصورًا فيها ظهور الإسلام، وداعيًا إلى مثله الاشتراكية في الحياة. وينشر كتابًا باسم "بين بين"، وهو خواطر في الحياة والمجتمع. وتقوم ثورتنا المباركة ويجد مجالًا فسيحًا لنشر آرائه في السياسة والأدب، ويؤلف كتابًا عن "علي بن أبي طالب"، وكتابًا ثانيًا عن أبي بكر وعمر، وينشر كتابه "مرآة الإسلام"، كما ينشر مجاميع من مقالاته في الحياة والأدب والنقد.

وهذه هي حياة طه حسين حتى وفاته سنة 1973، وهي حياة كانت حافلة بالكفاح؛ إذ نراه يكافح المحافظين في الدين والأدب والسياسة، ويكافح من أجل تغذية أمته بالمثل الأدبية عند اليونان وعند الغربيين، ويختط طرقًا جديدة في أبحاثه الأدبية وفي عالم القصة، يسعفه في ذلك استعداد أدبي أصيل، وهو استعداد شهد له به عالمه العربي، فمنح في سنة 1959 جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهًا بجهوده الأدبية، كما شهد له به العالم الغربي فمنح درجة الدكتوراه الفخرية من جامعات أوربية مختلفة. ونقف وقفة قصيرة عند قصته الأولى "الأيام".

ص: 284

ب- الأيام:

في رأي كثير من النقاد الشرقيين والغربيين أن هذه القصة أروع ما كتبه طه حسين، وقد أخرج منها جزأين يقص في أولهما طفولته، وفي الثاني صباه وشبابه الأول قَصَصًا بديعًا، يتحول إلى اعترافات صادقة صريحة، وهي اعترافات لا تقل روعة وجمالًا عما كتبه أدباء الغرب المشهورون من أمثال: جيته وروسو وشاتوبريان؛ إذ يعرض طه ذكرياته عن طفولته وشبابه برقَّة وصراحة منقطعة النظير.

وهو يقص علينا في الجزء الأول كيف نما هذا الطفل الضرير وسط بيئته المتوسطة، وكيف أخذ يسيطر تدريجًا على صورة العالم الخارجي من حوله يرعاه

ص: 284

حنان أبويه وسط دائرة كبيرة من الإخوة والأخوات. وينتقل بنا إلى الكُتَّاب الذي حفظ فيه القرآن ويعرض علينا صورته في أمانة، لا يستر عيبًا ولا يخفي شيئًا؛ بل يضع بين يدينا كل النقائص التعليمية في هذا الكُتَّاب، الذي لم يستطع أن يقدم لعقله المتطلع شيئًا سوى القرآن الكريم. ويصف وصفًا مؤثرًا آلام أبويه لوفاة أخت له، كما يصف آلامه. وما تكاد الأسرة تفرغ من الجزع عليها؛ حتى تفاجأ بوفاة أخ من إخوته، نزعته من بينهم "الكوليرا".

وينتقل بنا إلى الجزء الثاني، فنراه يتبع أخاه إلى الأزهر؛ حيث زاول الدراسة القديمة فيه إلى جانب عمود من أعمدته، يستمع إلى هذا الشيخ أو ذاك. ووصف لنا في أثناء ذلك المصاعب التي واجهته، والإهمال الذي عاناه من أخيه، وأعطانا صورة دقيقة لحياة الأزهري الضرير من أمثاله في أوائل هذا القرن وما كان يشقى به في غدوِّه ورواحه ويقظته ونومه. وكأنما كان يحمل في عقله آلة تصوير دقيقة، تسجل كل ما يقع حولها في دوائر الطلاب، وهو يتنقل بهذه الآلة بين حلقات الشيوخ المختلفين يلتقط ويختزن. ويظل في ذلك ثماني سنوات، قضاها بين الضجر والملل من حياة الأزهر الضيقة الراكدة حينئذ، وتفتح الجامعة الأهلية أبوابها، فينتقل إلى هذه الجامعة الجديدة، ويتتلمذ على أساتذتها المصريين والأوربيين.

وعلى هذا النحو يعرض الجزآن صُوَرَ المجتمع المصري في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ويجلوان علينا صورة الثقافة والتعليم في الكُتَّاب وفي الأزهر من جميع أطرافهما. ويتحول طه حسين إلى ما يشبه آلة دقيقة من آلات الرصد تُحصي كل هزة كبيرة أو صغيرة في محيطه، وهو يضع تحت عينيك هذا الرصد في صدق يخلبك، لا بأسلوبه فحسب؛ بل بصراحته ودقته وإخلاصه لحكاية الواقع بجميع حقائقه ودقائقه على هذا النحو الذي يتحدث فيه عن نفسه لابنته مقارنًا بين حاضرها الرَّغْد وماضيه:

"عرفته في الثالثة عشرة من عمره حين أرسل إلى القاهرة ليختلف إلى دروس العلم في الأزهر، إن كان في ذلك الوقت لصبي جِدٍّ وعمل. كان نحيفًا شاحب اللون مهمل الزي أقرب إلى الفقر منه إلى الغني، تقتحمه العين اقتحامًا في

ص: 285

عباءته القذرة وطاقيته التي استحال بياضها إلى سواد قاتم، وفي هذا القميص الذي يبين أثناء عباءته وقد اتخذ ألوانًا مختلفة من كثرة ما سقط عليه من الطعام، وفي نعليه الباليتين المرقعتين. تقتحمه العين في هذا كله؛ ولكنها تبتسم له حين تراه، على ما هو عليه من حال رثة وبصر مكفوف، واضح الجبين، مبتسم الثغر، مسرعًا مع قائده إلى الأزهر، لا تختلف خطاه، ولا يتردد في مشيته، ولا تظهر على وجهه هذه الظلمة التي تغشى عادة وجوه المكفوفين. تقتحمه العين ولكنها تبتسم له، وتلحظة في شيء من الرفق، حين تراه في حلقة الدرس، مصغيًا كله إلى الشيخ يلتهم كلامه التهامًا، مبتسمًا مع ذلك لا متألمًا ولا متبرمًا، ولا مظهرًا ميلًا إلى لهو؛ بينما الصبيان من حوله يلهون أو يشرئبون إلى اللهو.

عرفته يابنتي في هذا الطور، وكم أحب لو تعرفينه كما عرفته، إذن تقدرين ما بينك وبينه من فرق. ولكن أنَّى لك هذا وأنت في التاسعة من عمرك ترين الحياة كلها نعيمًا وصفوًا. عرفته ينفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونًا واحدًا يأخذ منه حظه في الصباح، ويأخذ منه حظه في المساء لا شاكيًا ولا متبرمًا ولا متجلدًا ولا مفكرًا في أن حاله خليقة بالشكوى. ولو أخذت يابنتي من هذا اللون حظًّا قليلًا في يوم واحد لأشفقت أمك، ولقدمت إليك قدحًا من الماء المعدني، ولانتظرت أن تدعو الطبيب.

لقد كان أبوك ينفق الأسبوع والشهر لا يعيش إلا على خبز الأزهر، وويل للأزهريين من خبز الأزهر، إن كانوا يجدون فيه ضروبًا من القش وألوانًا من الحصى وفنونًا من الحشرات. وكان ينفق الأسبوع والشهر والأشهر لا يغمس هذا الخبز إلا في العسل الأسود، وأنت لا تعرفين العسل الأسود، وخير لك ألا تعرفيه".

وبهذا الأسلوب البارع الذي يمس القلوب ويثير العواطف بما فيه من سلاسة وعذوبة وصفاء وقدرة على التصوير والتلوين، كتب طه حسين هذه الترجمة الذاتية "الأيام" كما كتب بقية قصصه وكتبه. وقد تُرْجمت الأيام إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية والعبرية.

ومن أهم ما يميز طه حسين في "الأيام" -وغير الأيام- أسلوبه المتموج الزاخر

ص: 286

بالنغم، فلا تستمع إلى كلام له حتى تعرفه بطوابعه المعينة في عباراته الملفوفة التي يأخذ بعضها برقاب بعض في جرس موسيقي بديع.

وكأنه يرى أن الأدب الجدير بهذا الاسم هو الذي يروع السمع كما يروع القلب في آنٍ واحد؛ وهو لذلك يوفر لصوته كل جمال ممكن. ومن الغريب أنه لا يعدل عبارة يمليها، ولا يعد محاضرة قبل إلقائها، فقد أصبح هذا الأسلوب جزءًا من نفسه وعقله، فهو لا يملي ولا يحاضر إلا به، وكثيرًا ما تجد فيه الألفاظ المكررة، وهو يعمد إلى ذلك عمدًا؛ حتى يستتم ما يريد من إيقاعات وأنغام ينفذ بها إلى وجدان سامعه وقارئه.

وطه حسين من هذه الناحية يشبه أدباءنا القدماء من أمثال الجاحظ الذين كانوا يقصدون قصدًا إلى التأثير بموسيقى كلامهم، فالكلام لا يؤدَّى بأوجز عبارة؛ وإنما يُبْسَط بسطًا ليحمل أداء موسيقيًّا يضاف إلى أداء الأفكار والمعاني. وقد يكون سبب ذلك في القديم أن الناس لم يكونوا -مثلنا الآن- يقرءون الأدب بعيونهم؛ بل كانوا يقرءونه بأصواتهم وآذانهم، فكان الشعر ينشد إنشادًا، وكان النثر يُتلى في الصحف تلاوة؛ لذلك حافظوا على موسيقى الكلام محافظة دقيقة.

واحتفظ لنا في هذا العصر طه حسين بخصائص لغتنا القديمة، فوفر لأسلوبه كل ما يستطيع من جمال صوتي، وأتاح لهذا الجمال أن يعبر تعبيرًا طبيعيًّا عن نظراته وتحليلاته وكل ما نقله إلينا من الغرب، وكل ما جدده وابتكره من أبحاث في الأدب ومن قصص وصور فنية مختلفة. فلم يعد الجمال الصوتي عنده فارغًا؛ بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من أدبه؛ بل لقد غدا في يده أداة مرنة شفافة، تنقل إلينا كل ما يختلج في عقله وقلبه من خواطر ومشاعر نقلًا دقيقًا، فالأسلوب ليس عنده كساء أو طلاء؛ وإنما هو قوام أدبه ومادة فنه، يسند به كل ما يتدفق على ذهنه من معانٍ وأفكار وألفاظ وكلمات.

ص: 287