المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ خليل مطران 1872-1949م: - الأدب العربي المعاصر في مصر

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌فهرس الموضوعات:

- ‌الفصل الأول: مؤثرات عامة:

- ‌ أحداث كبرى:

- ‌ تياران: عربي وغربي:

- ‌ المطبعة والصحف:

- ‌ الشعر وتطوره:

- ‌ استمرار التقليد:

- ‌ نهضة وإحياء:

- ‌الفصل الثالث: أَعْلام الشعر:

- ‌ محمود سامي البارودي 1838-1904م:

- ‌ إسماعيل صبري 1854-1923م:

- ‌ حافظ إبراهيم 1870-1932م:

- ‌ شوقي 1869-1932م:

- ‌ خليل مطران 1872-1949م:

- ‌ عبد الرحمن شكري 1886-1958م:

- ‌ عباس محمود العقاد 1889-1964م:

- ‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

- ‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

- ‌ علي محمود طه 1902-1949م:

- ‌الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه:

- ‌ تقيد بأغلال السجع والبديع:

- ‌ حركة تحرر وانطلاق:

- ‌ بين الجديد والقديم:

- ‌ تجديد شامل:

- ‌ فنون مستحدثة:

- ‌المسرحية:

- ‌الفصل الخامس: أعلام النثر:

- ‌ محمد عبده 1849-1905م:

- ‌ مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م:

- ‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

- ‌ مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:

- ‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

- ‌ إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م:

- ‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

- ‌ طه حسين 1889-1973م:

- ‌ توفيق الحكيم:

- ‌ محمود تيمور 1894-1973م:

الفصل: ‌ خليل مطران 1872-1949م:

5-

‌ خليل مطران 1872-1949م:

أ- حياته:

في أسرة عربية عريقة من أسر بعلبك في لبنان وُلد خليل عبده مطران لأب مسيحي كاثوليكي. ولم تكن أمه "ملكة الصباغ" لبنانية الأصل؛ بل كانت فلسطينية، هاجر أبوها إلى لبنان فرارًا من اضطهاد الحاكم العثماني له في بلده، واتخذها وطنًا. وعنها ورث ابنها الشعر إذ كانت أمها شاعرة، أما هي فكانت حصيفة راجحة العقل، وظل يستشعر لها إلى آخر حياته حنانًا وحبًّا عميقًا، مما يدل على أثرها العميق في تكوين شخصيته. وإذا كان قد ورث الشعر عن أمه، فقد ورث عن آبائه بغض الظلم والوقوف في وجه الجبارين.

ولما رأى فيه أبوه مخايل الذكاء اهتم بتعليمه، فأرسله إلى الكلية الشرقية بزحلة، ولا يزال اسمه منقوشًا على أحد مقاعدها إلى اليوم. ولما أتم دروسها ألحقه أبوه بالمدرسة البطريركية للروم الكاثوليك في بيروت، وفيها نهل اللغة العربية على أديب عصره إبراهيم اليازجي، وفي ديوانه مرثية له أشاد فيها به إشادة رائعة، افتتحها بقوله:

رب البيان وسيد القلم

وفَّيْت قسطك للعلا فنم

وفي هذه المدرسة حذق الفرنسية على معلم فرنسي. ولم يكد يتم دروسه فيها حتى أظهر موهبة غير عادية في نظم الشعر وصوغه، وكانت نفسه أُشربت حب الحرية، فأخذ يتغنى بشعر ضد العثمانيين الذين كانوا يحكمون وطنه حكمًا جائرًا، وكان يخرج مع بعض رفاقه إلى مشارف بيروت، وينشدون نشيد المارسيلييز الفرنسي، ينفِّسون بما فيه من حب للحرية عن أمانيهم القومية. ويقال: إن أعوان الحاكم العثماني رموا فراشه بالرصاص في بعض الليالي، ومن حسن حظه وحظ

ص: 121

الأدب أن كان غائبًا، فلم يصبه سوء، إلا أن ذلك دفع أهله إلى أن يرسلوه إلى باريس، حتى لا يغاضبهم الحاكم، وحتى يكفوا ابنهم شر نقمته.

فنزل باريس في سنة 1890، وعكف فيها على دراسة الآداب الفرنسية، واتصل هناك بفريق من جماعة تركيا الفتاة، وهم من حزب تألف في تركيا لمناهضة خليفتها عبد الحميد وسياسته الفاسدة. وخشي على نفسه بعد هذا الاتصال من الرجوع إلى بلاده، ففكر في النزوح إلى أمريكا الجنوبية متأسيًا ببعض من كان يهاجر إليها من مواطنيه، وتعلم لذلك الإسبانية، إلا أنه لم يلبث أن عزم على الهجرة إلى مصر، فنزلها في سنة 1892، وكانت حينئذ ملجأ الأحرار من البلاد العربية، ينزلون بها فرارًا من العثمانين وبطشهم.

ومن هذا التاريخ تبنته مصر، واحتضنته، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في سنة 1949. وبدأ حياته فيها صحفيًّا بجريدة الأهرام، ولم يلبث في سنة 1900 أن أنشأ لنفسه مجلة مستقلة هي "المجلة المصرية"، ثم حولها يومية وسماها "الجوائب المصرية"؛ لكنه لم يلقَ النجاح الذي كان ينشده، فأكب على الأعمال التجارية، إلا أنه خسر كل ماله في بعض المضاربات، وأظلمت الدنيا في عينه، ومدت مصر الحانية عليه يدها إليه، فعُين في الجمعية الزراعية الخديوية، وأخذ يسهم في المجال الاقتصادي بأبحاث دقيقة، كما أسهم من قبل في المجال الصحفي، وجعله ذلك يتصل مباشرة بأحداث مصر المختلفة من اقتصادية وسياسية واجتماعية، فكان صوته يدوِّي في هذه الأحداث.

وتدل دلائل مختلفة على أن ثقافته بالآداب الفرنسية كانت واسعة، ولم يقف بها عند التأثير في شعره، فقد طمح إلى النهوض بالمسرح المصري، وترجم لذلك عطيل وهملت وماكبث وتاجر البندقية لشكسبير. ولعل ذلك ما جعل أولي الأمر يسندون إليه إدارة الفرقة القومية منذ سنة 1935 حتى ينهض بمسرحنا، وأدَّى في ذلك خدمات جُلَّى.

وأحيل إلى التقاعد، ولكن ظلت مصر ترمقه، وأقامت له في سنة 1947 مهرجانًا أدبيًّا في دار الأوبرا تكريمًا له ولشعره، وما أدى لوطنه الثاني، بل وطنه

ص: 122

الحقيقي من أعمال وآثار، وجُمعت القصائد والخطب التي قيلت في تكريمه ونُشرت في مجلد ضخم؛ اعترافًا بفضله، وما أدى لمصر والعرب من روحه وعقله.

ص: 123

ب- شعره:

يجري في شعر خليل مطران كما يجري في شعر شوقي تياران من القديم العربي والجديد الغربي، وهما إن كانا يتفقان في هذه الظاهرة العامة فإنها يختلفان بعد ذلك في كل شيء؛ ذلك لأن خليل مطران لا يسرف على نفسه في الصب على القوالب القديمة، فقد كان شوقي وخاصة قبل منفاه يبدو شاعرًا تقليديًّا، فهو يُعْنَى أشد ما يعنى بمعارضة الأقدمين، وهو يصرح بذلك ولا يخفيه كما كان يصنع سلفه البارودي.

أما خليل مطران فلم يلجأ إلى المعارضة والاحتذاء التام على قصائد العباسيين وغيرهم في الوزن والرَّوِيِّ، بل كان يكتفي باللفظ الفصيح والمفردات السليمة من كل شائق في العربية ورائق؛ ومعنى ذلك أنه يحتفظ بشخصيته إزاء القدماء بأكثر مما يحتفظ شوقي، هو يأخذ منهم المادة، ولكنه يدخلها إلى مخيلته ليحملها أفكاره ومعانيه. ومن ثم لا يبدو التقليد واضحًا عنده؛ بل لقد اندفع إلى التجديد حتى في الصياغة والأسلوب، فلم يعد همه التمسك بأهداب القدماء لا في معانيهم ولا في تشبيهاتهم واستعاراتهم؛ بل همه التعبير عما في نفسه تعبيرًا حرًّا مستقيمًا لا تحجبه تراكيب قديمة ولا أصداف خيال قديمة.

ومع ذلك تقرأ فيه فتشعر شعورًا واضحًا بأن صورة الشعر العربي لم تتغير؛ لأنه يحتفظ بالأصول المسبوقة مع التحرر منها، فهو يتابع في الظاهر والخارج، أما في الباطن والداخل فإنه يجدد ويخالف ويعبر عما في نفسه تعبيرًا كاملًا، يصور فيه معانيه العقلية والنفسية، وشرح ذلك أجمل شرح في مقدمته لديوانه؛ إذ يقول:

ص: 123

"شرعت أنظم الشعر لترضية نفسي حيث أتخلى أو لتربية قومي عند وقوع الحوادث الجلى، متابعًا عرب الجاهلية في مجاراة الضمير على هواه ومراعاة الوجدان على مشتهاه، موافقًا زماني فيما يقتضيه من الجرأة على الألفاظ والتراكيب، لا أخشى استخدامها أحيانًا على غير المألوف من الاستعارات والمطروق من الأساليب، ذلك مع الاحتفاظ جهدي بأصول اللغة وعدم التفريط في شيء منها إلا ما فاتني علمه، ولم أكن مبتكرًا فيما صنعت، فقد فعل فصحاء العرب قبلي ما لا يُقاس إليه فعلي، فإنهم توسعوا في مذاهب البيان توسع الرشد والحزم".

فهو يعلن أنه يفك نفسه وشعره من القوالب الجامدة ويعود إلى الفطرة والسليقة، وحسبه أنه تمثَّل مادة اللغة العربية، وأنه لا يخرج على أصولها. وهو بذلك يسير خطوة إلى الإمام في الدرب الذي سلكه البارودي وشوقي؛ فقد كانا حريصين على القوالب القديمة وما يتصل بها من تشبيهات واستعارات، أما هو فيرى من الواجب التخلص تمامًا من هذه القوالب والاكتفاء بالإطار بالعام، ولكن لا تظن أنه تخلص وتحرَّر إلى آخر الشوط، فقد كان يصنع ذلك في توازن بارع؛ إذ احتفظ لشعره بالأوزان القديمة ولم يخرج عنها إلا إلى المزدوج والموشح والدوبيت، وكل ذلك عرفه القدماء. وهو كذلك في ألفاظه احتفظ فيها بالجزالة والرصانة اللتين احتفظ بهما البارودي وشوقي؛ لذلك لا نكون مبالغين إذا وضعناه في هذه المدرسة المصرية التي كان يقوم شعرها على البعث والإحياء، وإن كان يبدو أكثر من أفرادها تحررًا، ولكن مما لا شك فيه أنه عاش على نفس المائدة التي بسطها البارودي للشعراء من بعده.

وقد يكون من أهم ما يوضح ذلك عند مطران كثرة نظمه في التهاني والأعراس والمواليد مما يندمج في الشعر العربي القديم، ومما يظهر في دواوينه على شكل رُقع غريبة عن ذوق العصر. ولعل الذي دفعه إلى ذلك ما فُطر عليه من رقة وشعور مرهف وميل متأصل في نفسه إلى مجاملة الناس من حوله؛ ولذلك لا نعجب إذا وجدنا باب الرثاء في ديوانه أكثر الأبواب التي شغلته وهو باب قديم، ومن المحقق أنه لا يبرز فيه على شوقي وحافظ؛ بل إنهما يتفوقان عليه فيه تفوقًا ظاهرًا.

ص: 124

على كل حال، لم ينفصل مطران عن القديم؛ بل له عنده ظواهر مختلفة؛ إذ يجري في شعره، ولكنه لا يجري منفردًا؛ بل يجري معه تيار جديد صب في شعره من الغرب وآدابه، وكان يحس هذا التيار إحساسًا عميقًا، وهو الذي دفعه للاحتفاظ بشخصيته، فلم يفنَ في القديم، بل مضى يجدد على ألوان شتى.

وكان من أهم ما اتجه إليه في تجديده أن يعبر تعبيرًا مستقيمًا عن أحاسيسه غير متكلف لتشبيهات القدماء واستعاراتهم على نحو ما يصنع شوقي، وبذلك أحلَّ الشعورَ الدقيق محل الخيال، وأعطى لشعره فسحة واسعة من الابتكار في المعاني والأفكار.

وتبع ذلك أن القصيدة عنده أصبحت تعبيرًا نفسيًّا متكاملًا، وبعبارة أخرى: أصبحت عملًا ذاتيًّا تامًّا، فتجلت فيها الوَحْدَة الفنية، وأصبحت في مجموعها تعالج موضوعًا واحدًا؛ إذ لم يعد يسلك إلى موضوعاته الأدبية مقدمات القدماء، ولم يعد ينهج نهجهم في بعثرة موضوعات مختلفة في القصيدة الواحدة؛ بل القصيدة تقف عند تجربة نفسية خاصة، والشاعر يصوغها في أبيات متعاقبة، كل بيت فيها جزء في التجربة، فلا نبو ولا شذوذ ولا تفكك بين الأبيات؛ وإنما الالتحام والاتساق؛ إذ هي خيوط في نسيج واحد أُحْكمت صياغته إحكامًا دقيقًا.

ومطران إنما يستمد في ذلك من نموذج القصيدة الغنائية عند الغربيين؛ إذ تصل بين الأبيات فيها وَحْدَة عضوية تامة. وليس هذا كل ما جاءه من الاتصال الأدبي والذهني بالغرب، فقد شعر مثل أدبائهم -وخاصة عند أصحاب الرومانسية منهم- بآلام النفس البشرية، وتغنَّى هذه الآلام غناء مليئًا بالحزن والشجَى، وتمثِّل ذلك قصيدته "الأسد الباكي" وكذلك قصيدته "في تشييع جنازة" وهي جنازة عاشق انتحر يأسًا من عشقه، كما تمثله قصيدة "الجنين الشهيد" الذي صور فيها حزن فتاة أغواها شاب ثم رماها في الطريق.

وهذا الجانب عند مطران يفوح على قارئه بشذى وجداني ينفذ إلى قلبه وأعماقه، وهو يمد عين بصيرته فيه إلى عناصر الطبيعة على نحو ما يصنع شعراء

ص: 125

الغرب، فإذا هو يحيلها كائنات حية، تنعكس عليها أحزانه وآلامه وحبه وعواطفه ونوازعه. ومن أروع ما يصور ذلك كله عنده قصيدة المساء التي يستهلها بقوله:

داء ألم فخلت فيه شفائي

من صبوتي فتضاعفت بُرَحائي

وهو يذكر لنا في مفتتحها أنه كان مريضًا مرضين: مرض الحب والقلب، ومرض الجسد. وأشار عليه أصدقاؤه أن يعزِّي نفسه بالذَّهاب إلى الإسكندرية، وهناك عاوده المرضان، فبث شكواه ومزَج الطبيعة معه في هذه الشكوى، فإذا كل ما فيها صورة من جروحه:

ثاوٍ على صخر أصم وليت لي

قلبًا كهذي الصخرة الصماء

ينتابها موج كموج مكارهي

ويفتها كالسقم في أعضائي

والبحر خفَّاق الجوانب ضائق

كمدًا كصدري ساعة الإمساء

تغشى البرية كدرة وكأنها

صعدت إلى عيني من أحشائي

ويناجي صاحبته في وسط هذه الهموم التي تدافعت على نفسه وعلى كل ما في الطبيعة من حوله، فيقول:

ولقد ذكرتك والنهار مودِّع

والقلب بين مهابة ورجاء

وخواطري تبدو تجاه نواظري

كَلْمَى كدامية السحاب إزائي

والدمع من جفني يسيل مشعشعًا

بسنا الشعاع الغارب المترائي

والشمس في شفق يسيل نضاره

فوق العقيق على ذرًى سوداء

مرت خلال غمامتين تحدرا

وتقطرت كالدمعة الحمراء

فكأن آخر دمعة للكون قد

مُزجت بآخر أدمعي لرثائي

وهي قصيدة باهرة، وبها كل طوابع الجديد عند خليل مطران، فهي تجربة شعورية كاملة، صب فيها نفسه المليئة بالأوجاع والآلام، ولم يصبها فقط؛ بل صب أيضًا عناصر الطبيعة من حوله بعد أن أودعها نفس القروح والأوصاب. وتحتل الطبيعة في شعر مطران حيزًا واضحًا، ومن أجمل قصائده "وردة ماتت" و"النوارة أو زهرة المارغريت" و"بنفسجة في عروة" و"نرجسة"

ص: 126

و"من غريب إلى عصفورة مغتربة"، وهو فيها جميعًا يبتكر في المعاني، فيحلل الأحاسيس، ويأتي بأخيلة جديدة، ويطوف بك في خواطر وخلجات إنسانية حزينة.

وليس هذا كل ما جاء به في شعره من تأثيرات غربية، فقد حاكى الغربيين في اتجاه جديد لم تكن تعرفه العربية، ولا نقصد اتجاه الشعر التمثيلي الذي جاء به شوقي، إنما نقصد اتجاهًا آخر هو الاتجاه القصصي، وليس قصص الحيوان الذي نجده عند شوقي، وإنما القصص الدرامي الذي يتصل بالحياة الإنسانية، وله فيه طرائف بديعة يستمدها من الحياة اليومية؛ كقصة "الجنين الشهيد" التي أشرنا إليها، ومثلها "الطفلان" وهي قصة طفلة ثرية عشقت طفلًا فقيرًا، وظلت تذكره إلى الممات، و"فنجان قهوة" وهي قصة ابنة أمير عشقت حارس أبيها.

وخليل مطران يسوق هذه القصص في أسلوب درامي لا عهد للعربية به، ولا يقف بهذا الأسلوب عند الحوادث اليومية أو الخيالية؛ بل يوسعه ويدخل فيه بعض حوادث التاريخ؛ كالحرب بين فرنسا وألمانيا من سنة 1806 إلى سنة 1870 وهي من بواكير شعره، فكأن هذا المنزع صحبه منذ تيقظت فيه مواهبه. وكتب بعد ذلك قصيدة "مقتل بزرجمهر" و"فتاة الجبل الأسود" و"نيرون" ولا تلفتنا في هذه القصائد النزعة القصصية أو الدرامية وحدها؛ بل تلفتنا أيضًا نزعة رمزية فيها، فقد كتبها ليصور حياة الشعوب العربية المظلومة التي يظلمها المستعمرون وحكامها الجائرون، فهو يعرض للطغاة وغدرهم بالشعوب، ونراه يدعو دعوة حارة إلى الحرية والكرامة القومية ويستشير الحمية في الأمم الغربية من مثل قوله في قصيدة "نيرون" محرِّق روما المشهور، وقد امتدت إلى أكثر من ثلاثمائة بيت:

من يلم "نَيْرُون" إني لائم

أمَّة لو كهرته ارتد كهرا1

أمة لو ناهضته ساعة

لانتهى عنها وشيكا واثبجرَّا2

1 كهرته: انتهرته.

2 اثبجر: ارتدع وتراجع.

ص: 127

كل قوم خالقو نيرونهم

قيصر قيل له أم قيل كسرى

ومن هذا الشعر الرمزي قصيدته "شيخ أثينا"، وفيها يصف استيلاء الرومان على أثينا، وكأنه يحذر المصريين من مغبة الاحتلال الإنجليزي. ومثلها قصيدته "السور الكبير في الصين"، وفيها يستثير عزائم المصريين ضد الإنجليز المستعمرين في أثناء محاورة طريفة.

وشارك حافظًا وشوقي في كثير من الأحداث السياسية والاجتماعية، وتبع شوقي ينظم في الآثار المصرية القديمة، وتعظيم الفراعنة والإشادة بأمجادهم، ومن أجمل قصائده في ذلك قصيدته "في ظل تمثال رمسيس" وهي من بدائعه، وفيها يقول:

تاريخ مصر ورمسيس فريدته

عِقدٌ من الدر منظوم بعقيان1

ولوطنه الأول "لبنان" شعر كثير في دواوينه يدل على شدة تعلقه به، وكان كثيرًا ما يزوره، وأروع قصائده فيه "قلعة بعلبك"، وهو يستهلها بذكرياته السعيدة في الطفولة والشباب، ثم يصف آثارها الفينيقية وصفًا بارعًا. والحق أنه كان شاعرًا ممتازًا من شعراء النهضة الذين بثوا في الشعر العربي الحديث روح العصر، متأثرين بالآداب الغربية مع دعمهم لوَحْدَة القصيدة، ومع الاحتفاظ الشديد بمقومات شعرنا الأصيلة من الجزالة والقوة والمتانة.

1 فريدته: جوهرته النفيسة. العقيان: الذهب الخالص.

ص: 128