المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م: - الأدب العربي المعاصر في مصر

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌فهرس الموضوعات:

- ‌الفصل الأول: مؤثرات عامة:

- ‌ أحداث كبرى:

- ‌ تياران: عربي وغربي:

- ‌ المطبعة والصحف:

- ‌ الشعر وتطوره:

- ‌ استمرار التقليد:

- ‌ نهضة وإحياء:

- ‌الفصل الثالث: أَعْلام الشعر:

- ‌ محمود سامي البارودي 1838-1904م:

- ‌ إسماعيل صبري 1854-1923م:

- ‌ حافظ إبراهيم 1870-1932م:

- ‌ شوقي 1869-1932م:

- ‌ خليل مطران 1872-1949م:

- ‌ عبد الرحمن شكري 1886-1958م:

- ‌ عباس محمود العقاد 1889-1964م:

- ‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

- ‌ إبراهيم ناجي 1898-1953م:

- ‌ علي محمود طه 1902-1949م:

- ‌الفصل الرابع: تطور النثر وفنونه:

- ‌ تقيد بأغلال السجع والبديع:

- ‌ حركة تحرر وانطلاق:

- ‌ بين الجديد والقديم:

- ‌ تجديد شامل:

- ‌ فنون مستحدثة:

- ‌المسرحية:

- ‌الفصل الخامس: أعلام النثر:

- ‌ محمد عبده 1849-1905م:

- ‌ مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924م:

- ‌ محمد المويلحي 1858-1930م:

- ‌ مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م:

- ‌ أحمد لطفي السيد 1872-1964م:

- ‌ إبراهيم عبد القادر المازني 1889-1949م:

- ‌ محمد حسين هيكل 1888-1956م:

- ‌ طه حسين 1889-1973م:

- ‌ توفيق الحكيم:

- ‌ محمود تيمور 1894-1973م:

الفصل: ‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

وهذا هو العقاد، عالم كبير من عوالم شعرنا الحديث، وربما كان أكثر شعرائنا أصالة في تجديده؛ لأنه تجديد يقوم على استيعاب الآداب الغربية والعربية جميعًا واستخلاص صورة جديدة للشاعر، فيها روحه وقومه وشخصيته. وكل ما يمكن أن يلاحظ عليه أنه يسرف أحيانًا في توليداته العقلية، حتى يصبح أسلوب شعره قريبًا من الأسلوب النثري؛ لكثرة ما فيه من منطق ووضوح.

ص: 145

8-

‌ أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:

أ- حياته:

وُلد أحمد زكي أبو شادي في 9 من فبراير سنة 1892 بحي عابدين في القاهرة لأب كان محاميًا وخطيبًا مفوهًا، اشتهر بمواقفه الوطنية، هو محمد أبو شادي، ولأم كانت تنظم الشعر وتشدوه هي أمينة أخت الشاعر مصطفى نجيب. فالجو الذي نشأ فيه كان جوًّا أدبيًّا. وقد اختلف على شاكلة لداته إلى المدارس الابتدائية فالثانوية، وتفتحتْ فيه مبكرة مواهبه الأدبية والشعرية؛ إذ لا نصل معه إلى سن السادسة عشرة حتى نجده ينشر طائفة من شعره ونثره بعنوان:"قطرة من يراع في الأدب والاجتماع"، ولا يلبث أن يلحقها في العام التالي بقطرة ثانية، ويتبعهما بقطرتين أخريين من النثر والنظم.

وتتضح في هذه الكتب جميعًا ثقافته المنوعة بالآداب العربية والغربية وإحساسه بمشاكل قومه السياسية والاجتماعية ومشاكل الشعر العربي في المادة والشكل والمضمون. ونراه معجبًا بخليل مطران وبآراء "برادلي" أستاذ الشعر حينذاك في جامعة أوكسفورد، ويترجم بعض أشعار غربية، ويعرض لبعض الرسامين، وكأنه يضع تحت أيدينا المؤثرات التي ستظل تؤثر في روحه وفي شاعريته.

ص: 145

وفي إبريل من سنة 1912 أرسله أبوه إلى إنجلترا ليدرس الطب، وأتم هذه الدراسة في ديسمبر من سنة 1915، وظفر بجائزة "وب" في علم "البكتريولوجيا" أو علم الجراثيم، وظل هناك يشتغل بهذا العلم نحو سبع سنوات، وفي أثناء ذلك تيقظ اهتمامه بتربية النحل، وأسس جمعية له، وأسس بجانب الجمعية مجلة عالم النحل "Bee-world". وعُني بالتصوير كما عُني بالشعر، وكأنه كان هناك خلية نحل دويًّا ونشاطًا.

وقد أخذ يعمق معرفته بالأدب الإنجليزي وغيره من الآداب الغربية، وخاصة النزعة الرومانسية التي كان قد أعجب بظلالها عند خليل مطران، فعكف على شللي وكيتس وأضرابهما من شعراء الوجدان الفردي. وأتقن الإنجليزية بحيث أخذ ينظم بها، غير أنه لم ينسَ وطنه وقومه، فكان يرسل بمقالاته وأشعاره إلى الصحف المصرية. وأنشأ جمعية آداب اللغة العربية، وأخذ يجمع أبناء وطنه حوله في النادي المصري بلندن، ويتحدث معهم في شئون بلاده، وتنبهت له الشرطة هناك، فضيقت عليه تضييقًا جعله يؤثر العودة إلى وطنه ومعه زوجته الإنجليزية في ديسمبر سنة 1922.

عاد أبو شادي إلى مصر بنشاطه الجم، فلم يمضِ عليه شهران حتى أنشأ "نادي النحل المصري" الذي حيَّاه شوقي بقصيدته المعروفة "مملكة النحل". وفي إبريل من سنة 1923 تولى إدارة قسم "البكتريولوجيا" في معهد الصحة بالقاهرة. ودار العام فنُقل إلى السويس ثم إلى بورسعيد فالإسكندرية، ولم يمكث طويلًا خارج القاهرة، فقد عاد إليها في سنة 1928.

وكان في كل مكان يحل فيه يؤسس الجمعيات كجمعية رابطة مملكة النحل "والاتحاد المصري لتربية الدجاج" و"جمعية الصناعات الزراعية" و"الجمعية البكتريولوجية المصرية". وبجانب هذه الجمعيات كان ينشئ المجلات التي تخدم أهدافها مثل "مملكة النحل" و"الدجاج" و"الصناعات الزراعية".

وكان في أوقات فراغه يُقبل على نظم الشعر في سرعة شديدة، فكثر إنتاجه الشعري كثرة مفرطة، وما نصل إلى سنة 1932 حتى نراه يؤلف جماعة أبولو التي تحدثنا عنها في غير هذا الموضع، والتي ظلت قائمة إلى سنة 1935، وكان لها

ص: 146

أثر كبير في نهضتنا الشعرية حينئذ؛ إذ أسس باسمها مجلة فتحتْ صدرها للشباب وغذتهم بآداب الغرب وآراء نقاده في الشعر والشعراء. وكانت مصر في هذه الأثناء تجتاز محنتها بصدقي؛ إذ كان يحكمها بالحديد والنار تسنده حراب الإنجليز الغاشمين، فانطوى شعراؤنا على أنفسهم متغنين بشعر رومانسي حزين، ويظهر أن كوارث مالية حَفَّت بأبي شادي، فرأيناه في بعض أشعاره يفزع إلى صدقي الجائر ومليكه الطاغية، وهي سقطة يشفع فيها لأبي شادي شعره الوطني الكثير الذي ناصر فيه أحرارنا وزعماءنا الشعبيين منذ مصطفى كامل.

ونمضي مع أبي شادي إلى سنة 1935، فتنفضُّ جمعية أبولو وتحتجب مجلتها، وقد أخرج من بعدها مجلتي "الإمام" و"أدبي" ولم يكتب النجاح لهما. ويظل في القاهرة إلى أن تنشأ جامعة الإسكندرية، فيختار أستاذًا "للبكتريولوجيا" بها. وتتوفَّى زوجه، وكأنه ضاق ذرعًا بالحياة بعدها في موطنه فيرحل في سنة 1946 إلى أمريكا. وهناك عاوده نشاطه، فاشترك في الأندية الأدبية، وحرر جريدة "الهدى" العربية، وعمل في "صوت أمريكا"، وأسس "جماعة منيرفا" على غرار جماعة أبولو، ونشر ديوانه "من السماء". وما وافاه القدر سنة 1955 حتى كان قد أعد للطبع أربعة دواوين؛ هي:"من أناشيد الحياة" و"النيروز الحر" و"الإنسان الجديد" و"إيزيس".

وحياة أبي شادي على هذا النحو مكتظة بالنشاط، فقد أسس -كما رأينا- جمعيات ومجلات مختلفة، وكتب مقالات أدبية وعلمية كثيرة، بالإضافة إلى ما كان يذيعه من محاضرات في أجوائنا الأدبية وأحاديث في "صوت أمريكا". وقد نقل إلى العربية من الإنجليزية غير قصيدة ومقطوعة، كما نقل رباعيات عمر الخيام وحافظ الشيرازي. ومن مصنفاته العلمية:"تربية النحل" و"أوليات النحالة" و"الطبيب والمعمل" و"إنهاض تربية النحل في مصر" و"مملكة الدجاج" و"مملكة العذارى في النحل وتربيته". ونُشر له بعد وفاته ثلاثة كتب؛ هي: "دراسات إسلامية" و"دراسات أدبية" و"شعراء العرب المعاصرون".

ص: 147

ب- شعره:

لعل عصرنا لم يعرف شاعرًا كثر إنتاجه الشعري على نحو ما عرف ذلك عند أبي شادي؛ إذ كان الشعر يتدفق على لسانه منذ نشأته تدفقًا. وأتاحت له ثقافته الواسعة بالآداب الغربية أن يطلع على أنواع الشعر هناك من قصصية وغنائية وتمثيلية، وعلى مذاهبه من واقعية ورومانسية ورمزية. ومن ثم مضى يتأثر في شعره بكل هذه الأنواع والمذاهب، وإن كنا نلاحظ غلبة المذهب الرومانسي عليه، وقد اجتمعت ظروف كثيرة دفعته إلى المعيشة الفنية فيه دفعًا؛ إذ اتصل مبكرًا بأكبر من تأثروا من شعرائنا بهذا المذهب في مطالع القرن، ونقصد خليل مطران الذي يسميه في غير قصيدة أستاذه، وهام في حداثته بفتاة تدعى زينب، غير أنها هجرته، فانسكب الألم في قلبه ومضى يتغناه إلى آخر حياته. وكان مما ضاعفه في نفسه البؤس الجاثم على وطنه؛ بسبب تسلط الإنجليز وظلمهم وطغيانهم، وأيضًا ضاعفته حملات شعواء على شعره، جاءته من عدم تأنيه في صنعه. فعاش يجتر الألم والحزن والحب المحروم، باحثًا عن عزاء له في الطبيعة والأساطير القديمة.

ومما لا شك فيه أن أبا شادي بثقافته الواسعة ومواهبه الشعرية كان معدًّا لأن يحتل منزلة رفيعة في شعرنا المعاصر غير أنه كان متعجلًا، لا يستقر عند موقف في الحياة ولا في الشعر؛ بل ينتقل من موقف إلى موقف في سرعة شديدة، وهي سرعة أصابت معانيه بالضحولة وحالت بينه وبين الافتنان في الفكر والخيال؛ ومن ثم كانت كثرة أشعاره مغسولة من كل وميض للذهن إلا ما جاء نادرًا وفي الحين بعد الحين، ولم يأته ذلك من سرعته في نظم الشعر وحدها؛ بل أتاه أيضًا من أنه وزع نفسه في اتجاهات الشعر المختلفة على شاكلة توزيعه لها في حياته العملية؛ بحيث كانت له شخصيات متعددة، فهو طبيب وهو بكتريولوجي، وهو يهتم بتربية الدجاج وبمملكة النحل، كما يهتم بتأسيس الجمعيات المختلفة

ص: 148

وإخراج المجلات العلمية والأدبية. وهو على هذا القياس في شعره إذ حاول أن يجمع فيه بين الشعر القصصي والشعر الدرامي والشعر الرومانسي الحزين والشعر الصوفي والشعر الوعظي والشعر الفلسفي والشعر الواقعي والشعر الرمزي والشعر المرسل والشعر الحر. ولم يكتفِ بفن الشعر؛ إذ ضم له عناية بفني التصوير والموسيقى. فتعددت اتجاهاته، وكثر ما يحمله من أدوات؛ إذ كان يحمل في يد مبضعًا ومجهرًا ومجلات علمية، وفي يد قلمًا وريشة وآلة موسيقية ومجلات أدبية، وربَّة الشعر توحي إليه بين ضجيج المعامل وطنين النحل ودويه.

وأول ديوان أخرجه "أنداء الفجر" إذ نشره في الثامنة عشرة من عمره، وتتضح فيه نزعته الرومانسية المبكرة؛ إذ نراه يفسح فيه للحب والطبيعة وأصدائهما في نفسه، غير متناسٍ لمشاكلنا السياسية والاجتماعية. ولا نمضي في قراءته حتى نحس ضعف صياغته ونزارة معانيه وأخيلته؛ لسبب بسيط؛ هو أنه لا يزال ناشئًا، ولم يتمرس بعدُ بصناعة الشعر تمرسًا كافيًا.

ويرحل إلى إنجلترا، ويعود، وقد نظم كثيرًا، وما تلبث دواوينه ومنظوماته أن تتعاقب كالمطر، وكان أول ما ظهر منها ديوانه "زينب" الذي نشره في سنة 1924، وقد اختار له اسم صاحبته القديمة، فذكراها لا تفارقه، والحب والطبيعة هما محور هذا الديوان، وتلقانا فيه قوالب الموشح والدوبيت وقصيدة غزل في زينب "ص16" حاول أن يجدد بها في القوالب الشعرية، ومن خير قصائده فيه قصيدته "الحلم الصادق" التي يفتتحها بقوله:

هات لي العود وغنى

واسمعي شجوى وأني

تطرحي الأحزان عني

فأؤدي صلواتي

وفي السنة التالية نشر ديوانين بنفس النغم هما "أنين ورنين" و"شعر الوجدان"، ونجد فيهما مشاعر وطنية صادقة. ونشر في نفس السنة ديوانه "مصريات"، صوَّر فيه أمانيه الوطنية محركًا همم المصريين للخلاص من الإنجليز الغاشمين. ولم يلبث في سنة 1926 أن أخرج ديوانه "وطن الفراعنة"، وفيه

ص: 149

يتغنى بأمجاد مصر وآثارها القديمة. ونراه في نفس السنة يخرج ديوانه الضخم "الشفق الباكي"، وهو يقع في أكثر من ألف صحيفة، تسبقها مقدمات وتليها دراسات في شعره. ونراه في هذا الديوان ينظم بعض الأقاصيص ويترجم عن الإنجليزية بعض الأشعار، ويذكر بين يدي بعض منظوماته أنها من الشعر المرسل، وقد تكون من الشعر الحر "ص535".

وقد علق في طائفة من أشعاره على كثير من الأخبار العالمية، وشكا من أعباء مهنته التي تعوق ميله إلى الشعر "ص197"، غير أنه عاد فاعترف بأن ملكة الملاحظة التي تعوَّد عليها في الطب أفادته في شعره، ومن ثم خص مجهره "الميكروسكوب" بقصيدة أطراه فيها، جعل عنوانها "رفيقي الكشاف".

وفي رأينا أن هذه الملكة جارت عليه أكثر مما ينبغي؛ إذ جعلته يحوِّل كل ملاحظاته إلى شعر، ونراه يحتفظ في هذا الديوان بطائفة من قصائده التي نظمها في إنجلترا؛ كقصيدته في سقوط الجليد وحديث البحر وصحبة الآلام. وعلى شاكلة دواوينه السابقة تبرز في "الشفق الباكي" أمانيه الوطنية ومشاعره القومية، سواء في بعث الذكرى لدانشوي ويوم التل الكبير، أو في تحيته لعبد الكريم بطل الريف المغربي، وتألمه لكارثة دمشق حين قذفها الفرنسيون بالمدافع سنة 1925، وقد رد على "كبلنج" الشاعر الإنجليزي الاستعماري في قولته:"الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" ردًّا مفحمًا. ودائمًا نجده يرتبط بأحداثنا السياسية وكثير من المشاهد اليومية. ويحدثنا عن أعياد أسرته التذكارية. ولما توفي سعد زغلول خصه بكتيب ضمنه رثاءه له، حتى إذا كانت ذكرى الأربعين نظم فيه مرثية أخرى بعنوان "التراث الخالد".

ولا يكاد يفرغ من نشر ديوانه الكبير "الشفق الباكي" حتى يتخذ العدة لنشر ديوانه "وحي العام"، معلنًا أنه سيصدر كل عام ديوانًا بهذا العنوان على طريقة الحوليات. ونمضي معه إلى سنة 1931، فنراه يخرج ديوانه "أشعة وظلال" نازعًا عن نفس القوس التي رأيناها في الدواوين السابقة، وهو فيه كثيرًا ما يأتي بإحدى الصور لبعض الرسامين العالميين، ويحلل خواطره إزاء موضوعها، كما أنه كثيرًا ما يترجم مقطوعات ومنظومات عن بعض الشعراء الغربيين،

ص: 150

وقد يذكر الأصل الذي نقله، ويفجؤنا أحيانًا بوضعه عنوانين لبعض قصائده: عنوانًا عربيًّا وآخر إنجليزيًّا! ولا نصل إلى سنة 1933 حتى نراه يخرج ديوانيه: "الشعلة" و"أطياف الربيع". ويقدم الحب والطبيعة والأساطير المصرية واليونانية أخصب البواعث في الديوانين جميعًا، ولا ينسى آماله الوطنية، فقد كان يحس مشاعر شعبه، ومن قصائده الجيدة في الديوان الأول "الناس"، وفيها يصور صراعهم وعدوانهم بعضهم على بعض. وتلقانا في ديوانه الثاني قصيدته "الفنان"، وفيها يصور حبه الظامئ أبدًا إلى لقاء الحبيبة، على شاكلة قوله:

أمانًا أيها الحب

سلامًا أيها الآسي

أتيت إليك مشتفيا

فرارًا من أذى الناس

أطِلي يا حياة الرو

ح في عينيَّ تحييني

شرابي منكِ أضواء

وقوتي أن تنجايني

ويخرج في سنة 1934 ديوانه "الينبوع" بنفس المادة والمضمون. ونراه فيه يشكو شكوى مرة من نقاده في قصيدته "المهزلة"، وكثيرًا ما تلقانا هذه الشكوى عنده. وفي سنة 1935 نشر ديوانه "فوق العباب" بنفس الروح ونفس الانطلاق في موضوعات الحب والطبيعة والأساطير القديمة ومشاهد الحياة. ويتكاثر غبار النقد من حوله، فيقف إنتاجه الشعري ولكن إلى حين، فقد أخرج في عام 1942 ديوانه "عودة الراعي"، ونراه لا يزال يفكر في الشعر المرسل فينظم منه بعض قصائده كما نراه يحلم بمثالية إنسانية دقيقة في "حلم الغد". وهو في هذا الديوان -كدواوينه السالفة- يحاول دائمًا إيقاظ الوعي في الشعب المصري وإثارته للحصول على حقوقه المقدسة والثورة على الحكام الفاسدين، على نحو ما نجد في قصيدته "حداد القطن"، وفيها يقول:

يا شعب قم وانشد حقو

قك فالخنوع هو الممات

تشكو الغريب وعلة الـ

ـشكوى الزعامات الموات

ص: 151

ويرحل إلى أمريكا، وينشر بها ديوانه "من السماء" سنة 1949، وفيه كثير من صور البحر والطبيعة والحياة هناك. وقد تُوفي -كما أسلفنا- وهو على أهبة إصدار أربعة دواوين.

ودفعتْ أبا شادي معرفته الدقيقة بالآداب الغربية وما رآه عند أستاذه مطران من أشعار قصصية إلى أن يقوم بمحاولات في هذا الاتجاه، وكانت أولى محاولاته "نكبة نافارين" التي نشرها في سنة 1924، وفيها خلد ذكرى القوات البحرية المصرية التي ذادت عن الخلافة العثمانية والترك في موقعة نافارين لعهد محمد علي. وقد صور فيها الأسطول المصري منذ خروجه من قواعده إلى أن حاقت به الهزيمة في صور زاخرة بالحياة، وختمها بندب سيز وستريس للقتلى وبكائهم. وفي سنة 1925 نظم قصة جديدة بعنوان "مفخرة رشيد" خلد فيها ذكرى القوات المصرية التي ردت عدوان الإنجليز الآثم عن هذه المدينة في موقعة إبريل سنة 1807. وأتبع ذلك بقصتين اجتماعيتين هما:"عبده بك" و"مها"، وهو فيهما أقل توفيقًا من الناحية القصصية والشعرية.

وعلى نحو ما عالج القصة في شعره عالج المغناة "الأوبرا"، فقد مضى منذ سنة 1927 يؤلف فيها آثارًا مختلفة، ومعروف أن المغناة لا تعتمد على الشعر والتمثيل فحسب؛ بل تعتمد أيضًا على موسيقى مركبة. وقد يكون اعتمادها على هذه الموسيقى وألحانها أكثر من اعتمادها على التمثيل والشعر. ولعل ذلك هو السبب في أن مغنياته أو "أوبراته" لم تلقَ النجاح المنشود، وكأنه أحس بما كان ينتظرها، فكتب في ذيل مغناته الأولى "إحسان" بحثًا مسهبًا في تعريف المغناة "الأوبرا" وتاريخها ومدارسها الإيطالية والفرنسية والألمانية، مبينًا أن المدرسة الأولى وحدها هي التي تعوِّل فيها على الموسيقى والغناء، بينما تعترف المدرسة الثانية بالنص الأدبي، وتبالغ الثالثة في الاعتماد عليه وتجعله الأساس. وقد مضى مهتديًا بالمدرسة الأخيرة في صنع مغنياته، محاولًا أن تكون لها قيمة درامية مستقلة.

ومما لا شك فيه أنه وفق في الوعاء الذي اختاره لمغنياته؛ إذ اتخذ موضوعها

ص: 152

من التاريخ تارة ومن الأسطورة تارة ثانية، غير أنه لم يستكمل لها القيمة الدرامية التي كان ينشدها، سواء في بنائها وعناصرها الفنية أو في رسم شخوصها وتوليد حوارها وتتابعه بينهم. وهو أيضًا لم يستكمل لها القيمة الغنائية الخالصة؛ إذ يقصر شعره عن النهوض بأعباء الغناء والتلحين وما يستلزمان من أناشيد بسيطة عذبة.

وأول ما أخرجه في هذا الاتجاه "مغناة إحسان" -كما قدمنا- وحوادثها تجري في أثناء الحرب المصرية الحبشية التي نشبت في سنة 1876، وكانت إحسان زوجة لابن عم لها ضابط اشترك في تلك الحرب وأظهر بسالة نادرة، غير أنه وقع في الأسر، فأشاع بعض رفاقه أنه مات. وعاد بعد خمس سنوات ليجد امرأته وقرة عينه قد تزوجت ومرضت، وهي في النزع الأخير، وتراه فيُغشى عليها من الدهشة وتموت. وأتبع هذه المغناة بمغناته "أردشير وحياة النفوس" اقتبسها من "ألف ليلة وليلة" وهي في أربعة فصول. وينظم مغناة "الآلهة" وهي مغناة رمزية، يجري فيها حوار بين شاعر فيلسوف وإلهتي الجمال والحب وإلهتي الشهوة والقوة، وهي في حقيقتها حوار خيالي وليست عملًا دراميًّا. ويعود إلى التاريخ فيؤلف مغناة "الزباء" ملكة تدمر.

وعلى هذا النحو كان أبو شادي غزير الإنتاج في شعرنا المعاصر غزارة مفرطة، ومن المحقق أنه لم تكن تنقصه موهبة الشعر، وأنه كان يستطيع أن ينظم توًّا في أي موضوع يعن له أو يفكر فيه، غير أنه استرسل في ذلك استرسالًا حال في أكثر الأحيان بينه وبين نضوج تجاربه الشعرية، كما حال بين كثير من شعره وبين إرضاء الفن فيه والنهوض بحقه.

ص: 153