الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأجاب بأنا لو فتحنا هذا الباب لارتفع الوثوق من جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لا خبر إلا ويحتمل أن يكون منه أمرا وراء الأفهام ومعلوم أن ذلك ظاهر الفساد.
المسألة الثالثة: دلالة المنطوق والمفهوم
…
قال الثالثة الخطاب إما أن يدل على الحكم بمنطوقه فيحمل على الشرعي ثم العرفي ثم اللغوي ثم المجازي.
هذه المسألة في بيان كيفية دلالة الخطاب على الحكم الشرعي وأقسام دلالته عليه فالخطاب الدال على الحكم إما أن يدل عليه بمنطوقه أي بصيغته أو بمفهومه.
الحالة الأولى أن يدل عليه بمنطوقه فإما أن يكون له مسمى شرعي أو لا.
الأول: يحمل على المسمى الشرعي ما لم يصرف عنه صارف لأن عرف الشارع يعرف المعاني الشرعية لا اللغوية ولأنه مبعوث لبيان الشرعيات وقيل إذا دار بين الشرعي واللغوي فهو مجمل لصلاحيته لكل منهما.
وقال الغزالي إن ورد في الإثبات حمل على الشرعي كقوله صلى الله عليه وسلم "إني إذن أصوم" فإنه إذا حمل على الشرعي يدل على صحة الصوم بنيته من النهار وإن ورد في النهي كان مجملا وذلك مثل لنهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم النحس فإنه لا يمكن حمله على الشرعي وإلا كان دالا على صحته لأنه يستحيل النهي عما لا يتصور وقوعه.
وقال الآمدي في الإثبات يحمل الشرعي وفي النهي على اللغوي والصحيح الذي عليه الجمهور ما ذهب إليه المصنف وقول الغزالي والآمدي إن النهي مستلزم للصحة غير صحيح.
والثاني: وهو الذي ليس له مسمى شرعي إما أن يكون له مسمى عرفي أو لا.
والأول: يحمل على العرفي إن علم اطراد ذلك العرف في زمن ورود
الخطاب لأن الظاهر من حال الخطاب أن يكون مما يتبادر إلى أذهان المخاطبين.
والثاني: يحمل على اللغوي الحقيقي لتعينه حينئذ وكذا إذا كان له مسمى عرفي ولم يمكن حمله عليه لمانع وإن لم يمكن حمله على اللغوي لقرينة صارفة عنه فيتعين حينئذ حمله على المعني المجازي ويكون الترتيب المذكور في الحقائق جاريا في مجازاتها.
واعلم أن من القواعد المشتهرة على ألسنة الفقهاء أن ما ليس له حد في الشرع ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف قال والدي في شرح المهذب وليس مخالفا لما يقوله الأصوليون من أن لفظ الشارع يحمل على المعنى الشرعي ثم العرفي ثم اللغوي.
قال والجمع بين الكلامين أن مراد الأصوليين إذا تعارض معناه في العرف ومعناه في اللغة قدمنا العرف ومراد الفقهاء إذا لم يعرف حده في اللغة فإنا نرجع فيه إلى العرف ولهذا قالوا كل ما ليس له حد في اللغة ولم يقولوا ليس له معنى فالمراد أن معناه في اللغة لم ينصوا على حده بما يبينه فيستدل بالعرف عليه.
فائدة تنزيل اللفظ على المعنى الشرعي قبل العرفي في مسائل:
منها لو حلف لا يبيع الخمر أو المستولدة فإن أراد أنه لا يتلفظ بلفظ العقد مضافا إليها فإذا باعه حنث وإن أطلق لم يحنث لأن البيع الشرعي لا يتصور فيها وفيه وجه أنه يحنث قال به المزني قال الرافعي هنا وسيأتي خلاف في أنه هل يتعين حمل لفظ العبادات كالصوم والصلاة على الصحيح منها وهذا الخلاف الذي وعد بذكره لم أره حكاه بعد ولا خلاف أنه لو حلف لا يحج يحنث بالفاسد لأنه منعقد يجب المضي فيه كالصحيح.
ومنها لو حلف لا يركب دابة عبد زيد لا يحنث بالدابة المجعولة باسمه إلا أن يريد فإن ملكه السيد دابة فالصحيح أنه يتخرج على أنه هل يملك وقال ابن كج لا يحنث وإن قلنا يملك لأن ملكه ناقص السيد متمكن من إزالته.
وأما الرجوع إلى العرف ففي مسائل تخرج عن حد الحصر وقد أتينا في كتابنا الأشباه والنظائر منها بالعد الكثير.
قال أو بمفهومه وهو إما أن يلزم عن مفرد لوقف عليه عقلا أو شرعا مثل ارم واعتق عبدك عني ويسمى اقتضاء أو مركب موافق وهو فحوى الخطاب كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب وجواز المباشرة إلى الصبح على جواز الصوم جنبا أو مخالف كلزوم نفي الحكم عما عدا المذكور ويسمى ذلك دليل الخطاب.
الحالة الثانية أن يدل الخطاب على الحكم بمفهومه فإن أن يكون ما دل عليه بالمفهوم لازما عن مفرده أو عن مركب واللازم عن المفرد قد يكون المقتضي لكونه لازما هو العقل وقد يكون الشرع واللازم عن المركب قد يكون موافقا للمنطوق فيما اقتضاه من الحكم وقد يكون مخالفا فهذه أقسام.
الأول: اللازم عن المفرد الذي اقتضى العقل كونه لازما عن المفرد بأن يكون شرطا للمعنى المدلول عليه بالمطابقة مثل قولك ارم فإنه يدل بمفهومه على لزوم تحصيل القوس والمرمى لتوقف الرمي الذي هو مفرد عليهما عقلا إذ يحيل العقل الرمي بدونهما:
الثاني: اللازم عن المفرد باقتضاء الشرع كونه لازما كقولك لمالك العبد اعتق عبدك عني فإنه يدل على استدعاء تمليك العبد إياه لأن العتق شرعا لا يكون إلا في مملوك.
وهذان القسمان اللازمان عن المفرد يسميان في اصطلاح الأصوليين بدلالة الاقتضاء وإليه أشار بقوله ويسمى اقتضاء.
ومن الأصوليين من جعل دلالة اللفظ على مقدر يتوقف عليه صدق الكلام داخلا في قسم الاقتضاء أيضا كدلالة قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ
والنسان 1 " على رفع الإثم وعبارة لا تنافي ذلك ولا تقتضيه لأنها لا تقتضي انحصار الافتضاء في المذكور فيه.
نعم تقتضي أن يكون ذلك من قبيل ما دل عليه اللفظ بمنطوقه لأنه لم يعده في أقسام المفهوم بل في المنطوق الغزالي على الاقتضاء بجملة أقسامه من المفهوم.
الثالث: اللازم عن اللفظ المركب وهو موافق لمدلول ذلك المركب في الحكم ويسمى فحوى الخطاب لأن فحوى الكلام ما يفهم منه قطعا وهذا كذلك ويسمى أيضا لحن الخطاب لأن لحن الكلام عبارة عن معناه ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} 2 أي معناه وربما سماه الشافعي رضي الله عنه بالجلي واختلفوا في أن دلالة النص عليه هل هي لفظية أم قياسية والذي عليه الجمهور أنها قياسية قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وهو الصحيح لأن الشافعي سماه القياس الجلي.
وهذا الثالث: أعني مفهوم الموافقة تارة يكون أولى بالحكم من المنطوق كدلالة تحريم التأفيف من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} على تحريم الضرب وسائر أنواع الأذى الذي هو أبلغ من التأفيف وتارة يكون مساويا له كدلالة جواز المباشرة من قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 3 على جواز أن يصبح الرجل صائما جنبا لأن لو لم يجز ذلك لما جاز للصائم مد المباشرة إلى طلوع الفجر بل كان يجب قطعها مقدار ما يسع فيه الغسل قبل طلوع الفجر وإنما ذكر المصنفين مثالين ليعلم أن مفهوم الموافقة قد يكون أولى بالحكم كالمثال الأول وقد يكون مساويا كالثاني وهذا هو المختار.
1 رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب طلاق المكره والناسي 1/659 بلفظ "إن الله تجوز عن أمتي الخطأ والنسيان" وصححه ابن حبان والحاكم وقال: على شرط الشيخين.
سبل السلام 3/176، 177.
2 سورة محمد آية: 30.
3 سورة البقرة آية: 187.