الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم من اشترط الأولوية في مفهوم الموافقة وهو قضية ما نقله إمام الحرمين عن كلام الشافعي رضي الله عنه في الرسالة حيث قال في البرهان نحن نسرد معاني ككلامه في الرسالة ثم قال أما مفهوم الموافقة فهو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق الحكم في المنطوق من جهة الأولى انتهى وهو مقتضى كلام الشيخ أبي إسحاق في شرح اللمع وغيره وعليه جرى ابن الحاجب لكنه قال بعد ذلك في مفهوم المخالفة شرطه ألا يظهر أولوية ولا مساواة في المسكوت عنه فيكون موافقة فاضطرب كلامه.
الرابع: اللازم عن المركب وهو مخالف لمدلول المركب في الحكم وهذا هو مفهوم المخالفة ويسمى دليل الخطاب وهو أصناف ذكر المصنف منها أربعة وذهب أبو حنيفة إلى نفس القول بمفهوم المخالفة مطلقا ووافقه جمع من الأصوليين.
قال إمام الحرمين وأما منكروا الصيغ لما يتطرق إليها من تقابل الظنون فلا شك أنهم ينكرون المفهوم فإن تقابل الظنون فيه أوضح فهو بالتوفيق أولى وشيخنا أبو الحسن مقدم الموافقة وقد فعل النقلة عنه رد الصيغة والمفهوم وفي كلامه ما يدل على المفهوم والقول به فإن تعلق في مسألة الرؤية بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1 وقال لما ذكر الحجاب في إذلال الأشقياء أشعر ذلك بنقيضه في السعداء وقد تحققت على طول بحثي عن كلام أبي الحسن أنه ليس من منكري الصيغ على ما اعتقده معظم النقلة ولكنه قال في مفاوضاته مع أصحاب الوعيد بإنكار الصيغ وآل سر مذهبه إلى إنكار التعلق بالظواهر فيما ينبغي القطع فيه ولا نرى له المنع من العمل بقضايا الظوهر في مظان الظنون وقد باح القاضي رضي الله عنه بجحد الصيغ وصرح بنفي المفهوم.
1 سورة المطففين آية: 15.
المسألة الرابعة: تعليق الحكم بالأسم
…
قال الرابعة تعليق الحكم بالاسم
لا يدل على نفيه عن غيره وإلا لما جاز القياس خلافا لأبي بكر الدقاق.
هذه المسألة في مفهوم الاسم ومفهوم الصفة اللذين هما من جملة أصناف
دليل الخطاب أما مفهوم الاسم فنقول تقييد الحكم أو الخبر بالاسم علما كان أو اسم جنس مثل قولك قام زيد أو قام الناس لا يدل على نفي الحكم عما عداه خلافا لأبي بكر الدقاق والحنابلة وقد سفه علماء الأصول الدقاق ومن قال بمقالته وقالوا هذا خروج عن حكم اللسان والسلال عن مفاوضات الكلام فإن من قال رأيت زيدا لم يقتض ذلك أنه لم ير غيره قطعا.
قال إمام الحرمين وعندي أن المبالغة في الرد عليه صرف لأنه لا يظن بذي العقل الذي لا ينحرف كلامه عن سنن الصواب أن يخصص بالذكر ملقيا من غير غرض وحاصل ما اختاره إمام الحرمين أن التخصيص يتضمن غرضا مبهما ولا يتعين انتفاء غير المذكور ثم قال وأنا أقول وراء ذلك لا يجوز أن يكون من غرض المتكلم في التخصيص نفي ما عدي المسمى بلقبه فإن الإنسان لا يقول رأيت زيدا وهو يريد الإشعار بأنه لم ير غيره فإن هو أراد ذلك قال إنما رأيت زيدا أو ما رأيت زيدا هذا كلامه وحكى ابن برهان في كتابه في أثناء المسألة مذهبا ثالثا عن بعض علمائنا وهو التفرقة بين أسماء الأنواع وأسماء الأشخاص فقال إن تخصيص اسم النوع بالذكر دل على نفي الحكم عن غيره ومثل له ابن برهان بما إذا قال في السود من الغنم زكاة وإن تخصيص اسم الشخص مثل قام زيد فلا يدل ثم قال ابن برهان وهذا ليس بصحيح لأن أسماء الأنواع نازلة في الدلالة منزلة أسماء الأشخاص إلا أن مدلول أسماء الأنواع أكثر وهما في الدلالة متساويان إذا عرفت هذا فقد استدل في الكتاب على مذهب الجمهور بأن تعليق الحكم على الاسم لو دل لكان الدليل على ثبوت الحكم في الأصل المقيس عليه كالنص الدال على أن البر ربوي مثالا وإلا على نفي الحكم عن الفرع المقيس كالأرز في مثالنا والفرض أن القياس قاض بإلحاقه فمتى عمل بالمفهوم بطل القياس وقد ضعف هذا الدليل بأن التعارض بين مفهوم اللقب والقياس غير متصور لأن من شرط القياس مساواة الفرع للأصل وشرط مفهوم المخالفة ألا يكون المسكوت عنه أولى ولا مساويا فلا مفهوم إذا مع المساواة ولا قياس مع عدم
المساواة وأبدى والدي رحمه الله في تضعيفه وجها أحسن من هذا لا مزيد على بلاغته فقال للدقاق أن يقول المفهوم يدل على الإباحة فيما عدا البر والقياس إنما يدل على التحريم فيما شارك البر في المعنى كالأرز والحمص دون ما لم يشاركه من الرصاص والنحاس وغيرهما فغاية ما يفعل القياس حينئذ أن يخصص المفهوم ولا بدع في تخصيص المفهوم بالقياس بل ولا في تخصيص المنطوق.
فائدة في كتاب الأستاذ أبي إ سحاق في أصول الفقه أن شيخه ابن الدقاق هذا ادعى في بعض مجالس النظر ببغداد صحة ما قاله من مفهوم اللقب فألزم وجوب الصلاة فإن الباري تعالى أوجب الصلاة فهل له دليل يدل على نفي وجوب الزكاة والصوم وغيرهما قال فبان له غلطة وتوقف فيه.
قال وبإحدى صفتي الذات مثل في سائمة الغنم زكاة يدل ما لم يظهر للتخصيص فائدة أخرى خلافا لأبي حنيفة وابن سريج والقاضي وإمام الحرمين والغزالي.
هذا مفهوم الصفة وهو مقدم المفاهيم ورأسها وقد قال إمام الحرمين ولو عبر معبر عن جميع المفاهيم بالصفة لكان ذلك منقدحا فإن المعدود والمحدود موصوفان بعددهما وحدهما وكذا سائر المفاهيم وقول المصنف وبإحدى هو معطوف على قوله تعليق الحكم بالاسم أي وتعليق الحكم بإحدى صفتي الذات أو أحد أوصافها يدل على نفي الحكم عن الصفة الأخرى مثال مفهوم الصفة قوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة" 1 وهو حديث معناه ثابت في الصحيح فإن الغنم ذات والسوم والعلف وصفان يعتورانها وقد علق الحكم بأحدهما وهو السوم وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} 2 وقد
1 رواه البخاري بمعناه في كتاب أبي بكر الصديق في كتاب الزكاة باب زكاة الغنم 2/146. ولفظه "في صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة"
كما رواه أبو داود – كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة 1/358.
2 سورة النساء آية: 25.
اختلفوا في هذا المفهوم فذهب الجمهور وكبيرهم الشافعي وأبو الحسن وأبو عبيدة معمر بن المثنى وجمع كثير من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يدل على النفي واختباره المصنف ثم اختلاف هؤلاء في أنه هل يدل على نفي الحكم عما عداه مطلقا سواء كان من جنس المثبت فيه أم لم يكن أو يختص بما إذا كان من جنسه مثاله إذا قلنا في الغنم السائمة زكاة هل يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة مطلقا سواء كانت معلوفة الغنم أم الإبل والبقر أو يختص بالنفي عن معلوفة الغنم وهذا الخلاف حكاه الشبخ أبو حامد في كتابه في أصول الفقه عن أصحابنا وقال الصحيح تخصيصه بالنفي عن معلوفة الغنم فحسب وذهب أبو حنيفة والقاضي وأبو بكر وأبو العباس بن سريج إمام أصحابنا والقفال الشاشي والغزالي وجماعة إلى أنه لا يدل واختاره الآمدي وفرق أبو عبد الله البصري فقال بالمفهوم في الخطاب الوارد لبيان المجمل كقوله عليه السلام زكوا عن سائمة الغنم فإنه ورد بيانا لقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} والوارد للتعليم كقوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة" 1 الحديث والوارد فيما انتفى عنه الصفة إذا كان داخلا تحت المتصف بها نحو الحكم بالشاهدين والشاهد الواحد فإن الشاهد الواحد داخل تحت الشاهدين وفرق إمام الحرمين بين الوصف المناسب وغير المناسب فقال بمفهوم الأول دونه.
الثاني: وقد اطلعه في الكتاب تبعا للإمام النقل عنه في إنكار مفهوم الصفة وليس بجيد.
وقال الإمام أنه لا يدل على النفي بحسب وضع اللغة لكنه يدل عليه بحسب العرف العام هذا تحرير الخلاف في المسألة وأما محل النزاع فهو كما أشار إليه المصنف بقوله ما لم يظهر أي إنما يدل على القائلين به إذا لم يظهر لتعليق الحكم بالصفة المذكورة فائدة أخرى مغايرة لنفي الحكم عما عداها ككونه جوابا عن سؤال سائل عن حكم إحدى الصفتين أو خارج مخرج الغالب أو
1 رواه أحمد وأبو داود والنسائي ولفظ ابن ماجه "والمبيع قائم بعينه" وفي رواية لأحمد "والسلعة كما هي".
المنتقى من أحاديث الأحكام لابن تيمية ص 457، 458.
غير ذلك مثل قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فإن قوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا مفهوم له لأن النهي عن موالاة الكافرين عام فيمن وإلى المؤمنين ومن لم يوالهم وإنما معنى قوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم ففي هذه الأشياء لا يدل على نفي الحكم عما عدا الصفة المذكورة كما نقله المتأخرون من الأصوليين وقد نازع إمام الحرمين فيما إذا خرج مخرج الغالب بعد أن عن الشافعي ما قلناه من أنه لا مفهوم حينئذ وأطال الكلام فيه والشيخ عز الدين ابن عبد السلام قال القاعدة تقتضي العكس وهو أن الوصف إذا خرج مخرج الغالب يكون له مفهوم بخلاف ما إذا لم يكن غالبا وذلك لأن الوصف الغالب على ثبوته لها عن ذكر اسمه فإذا أتى بها مع أن العادة كافية فيها دل على أنه إنما أتى لتدل على سلب الحكم عما عداه لانحصار غرضه فيه وأما إذا لم يكن عادة فقد يقال إن غرض المتكلم بتلك الصفة أن يفهم السامع أن هذه الصفة ثابتة لهذه الحقيقة.
وقد أجاب القرافي عن هذا بأن الوصف إذا كان غالبا لازما لتلك الحقيقة في الذهن بسبب الشهرة والغلبة فذكره إياه مع الحقيقة عند الحكم عليها لعله لحضوره في ذهنه لا لتخصيص الحكم به وأما إذا لم يكن غالبا فالظاهر أنه لا يذكر مع الحقيقة إلا لتقييد الحكم به لعدم مقارنته للحقيقة في الذهن حينئذ فاستحضاره معه واستجلابه لذكره عند الحقيقة عند الحكم إنما يكون لفائدة والغرض عدم ظهور فائدة أخرى فيتعين التخصيص وهذا الجواب الصحيح.
فإن قلت هذا لا يتضح بالنسبة إلى كلام الله تعالى لعلمه بالغالب وغير الغالب على حد سواء.
قلت هذا السؤال أورده الشيخ صدر الدين بن المرجل في كتابه الأشباه والنظائر وقد ذكر اختلاف الأصوليين في أن العام هل يشمل الصورة النادرة فقال هذا الخلاف لا يبين لي حرمانه في كلام الله تعالى لأنه لا يخفى عليه خافية فهو يعلم ذلك النادر وقال وإنما يتبين لي دخوله في كلام الآدميين وقد
أجبت عنه في كتابي الأشباه والنظائر بما لو عرض على ذوي التحقيق لتلقوه بالقبول.
فقلت الخلاف جار في كلام الله تعالى لا للمعنى الذي ذكره ابن المرحل بل لأن كلام الله تعالى منزل على لسان العرب وقانونهم وأسلوبهم فإذا جاء فيه لفظ عام تحته صورة نادرة وعادة العرب إذا أطلقت ذلك اللفظ لا تمر تلك الصورة ببالها يقول هذه الصورة ليست داخلة في مراد الله تعالى من هذا اللفظ وإن كان عالما بها لأن هذا اللفظ يطلق عند العرب ولا يراد هذه الصورة كما يجيء في القرآن ألفاظ كثيرة يستحيل وقوع معانيها من الله تعالى كالترجي والتمني وألفاظ التشكيك ولك ذلك منتف في جانبه تعالى وإنما تجيء ليكون القرآن على أسلوب كلام العرب.
قال لنا أنه المتبادر من قوله عليه السلام: "مطل الغنى ظلم" ومن قولهم الميت اليهودي لا يبصر وإن ظاهر التخصيص يستدعي فائدة وتخصيص الحكم فائدة وغيرها منتف بالأصل فيتعين وإن الترتيب يشعر بالعلية كما ستعرفه والأصل ينفي علة أخرى فينتفي بانتفائها قيل لو دل لدل إما مطابقة أو التزاما قلنا دل التزاما لما ثبت أن الترتيب يدل على العلية وانتفاء العلة يستلزم انتفاء معلولها المساوي قيل ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ليس كذلك قلنا غير المدعى.
استدل على أن مفهوم الصفة حجة بثلاثة أوجه:
الأول: أن يتبادر إلى الفهم حيث كان كما أن من سمع ما رواه البخاري ومسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغنى ظلم" 1 فهم أن مطل من ليس بغنى ليس ظلما وقد فهم ذلك من الحديث أبو عبيدة وهو من أئمة اللغة
1 رواه البخاري في كتاب الحوالات باب في الحوالة 3/123 ومسلم 5/34 باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة وأبو داود كتاب البيوع باب في المطل 2/222 كما رواه الترمذي تحفة الأحوذي 4/535 والنسائي 7/278 كتاب البيوع باب مطل الغني.
وكذلك الشافعي وهو إمام اللغة وابن بجدتها والتسمك بقول الشافعي وأبي عبيدة أولى من التمسك بقول أعرابي جلف وكذلك أهل العرف يتبادر إلى فهمهم من قول القائل الميت اليهودي لا يبصر أن الميت الذي ليس هو بيهودي يبصر بدليل أنهم يسخرون من هذا الكلام ويضحكون منه وإنما ذكر المصنف هذين المثالين ليبين أن المتبادر إلى الفهم في الأول عند أهل اللغة وفي الثاني عند أهل العرف فيجتمع التبادر من الجهتين وهذا من محاسنه.
وقد اعترض إمام الحرمين على التمسك بفهم الشافعي وأبي عبيدة فقال هذا المسلك فيه نظر فإن الأئمة قد يحكمون على اللسان عن نظر واستنباط وهم في مسالكهم في محل النزاع مطالبون بالدليل والأعرابي الجلف طبعه فيقع التمسك بمنظومه ومنثوره.
الوجه الثاني: أن ظاهر تخصيص الحكم بالصفة يستدعي فائدة صونا للكلام عن اللغو وتلك الفائدة ليست لا نفي الحكم عما عداه لأن غيرها منتف بالأصل فتتعين هي ولأن الكلام فيما إذا لم يظهر للتخصيص فالذكر فائدة أخرى.
فإن قلت هذا يلزمكم في مفهوم اللقب.
قلت اللقب له فائدة تصحيح الكلام إذ الكلام بدونه غير مفيد بخلاف الصفة.
الثالث: أن الحكم المرتب على الخطاب المقيد بالصفة معلول تلك الصفة كما ستعرفه إن شاء الله تعالى في كتاب القياس من أن تريتب الحكم على الوصف يشعر بالعلية والأصل عدم علة أخرى لأنا لز جوزنا التعليل بعليتين فلا شك أن الأصل عدمه وإذا لم يكن له علة غير الوصف لزم انتفاء الحكم فيما انتفى عنه الوصف لأن انتفاء العلة يستلزم انتفاء المعلول.
قال قيل إن احتج الخصم بوجهين:
أحدهما: أنه لو دل تخصيص الحكم بإحدى الصفتين على نفيه عما عداها
لدل عليه إما بالمطابقة او بالالتزام ضرورة انحصار الدلالة فيهما فإن المراد بدلالة الالتزام هنا دلالة اللفظ على لازم مسماه واللازم أعم من الجزء والوصف فيشتمل دلالة التضمن لكنه لا يدل بالمطابقة لأن ثبوت الحكم في إحدى الصفتين ليس عين ثبوته في الأخرى لأن قوله: " زكوا عن الغنم السائمة" غير موضوع لنفي الزكاة عن المعلوفة فالدال على أحدهما بالمطابقة لا يدل على الآخر بها وإنما قلنا إنه لا يدل بالالتزام لأنه إن كان التضمن فواضح لأن نفي الحكم عما عدا المذكور ليس جزءا لثبوته في المذكور وإن كان الالتزام المعرف في تقسيم الألفاظ فلأن شرطه سبق الذهن من المسمى إليه والسامع قد يتصور وجوب الزكاة بنفي أو إثبات بل قد يغفل عن تصور المعلوفة.
وأجاب في الكتاب بأنه يدل عليه بالالتزام لما ثبت من أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية وأن الأصل عدم علة أخرى فانتفاء الحكم عما عدا تلك الصفة من لوازم ثبوته لها لأن انتفاء العلة يستلزم انتفاء معلولها المساوي فالدال على ثبوت الحكم للصفة المخصوصة بالذكر مطابقة يدل على نفيه عما عداها التزاما.
قوله المساوي أراد به ألا يكون له علة أخرى احترازا عما يكون له علة أخرى كالحرارة فإنها معلولة للنار وللشمس فلو كانت له علة أخرى لم يلزم من انتفاء هذه العلة انتفاء المعلول لجواز ثبوته بالعلة الأخرى هذا تقرير الجواب ولقائل أن يقول إنما يتأتى هذا عند من لا يشترط في دلالة الالتزام اللزوم البين ويكتفي باللازم الخارجي سواء كان لزومه بواسطة أو بغير واسطة.
الوجه الثاني: أنه لو دل لما كان حكم المنطوق به ثابتا مع عدم الصفة لكنه ثابت كما في قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} 1 فإن قتل الأولاد محرم في الحالتين.
وأجاب بأن هذا غير المدعى لأنا لم ندع أن مفهوم الصفة حجة إلا فيما إذا
1 سورة الاسراء آية: 31.
لم يظهر له فائدة أخرى كما تقدم وهنا قد ظهرت له فائدة وهي خروجه مخرج الغالب لأن غالب أحوالهم أنهم لا يقتلون أولادهم إلا عند خشية الفقر.
هذا جواب المصنف والحق أن هذا ليس مما نحن فيه لأن دلالته على حرمة القتل عند انتفاء خشية الإملاق من باب الأولى فهو من فحوى الخطاب لا من دليله.
فإن قلت هب أن هذه الآية لا تدل لما ذكرناه ولكن آية أخرى مؤيده ة له وهي قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} 1 فلو كان مفهوم الصفة حجة للزمكم القول بأن لهم شفيعا لا يطاع.
قلت هذا الصفة لها فائدة أخرى غير التخصيص فلا يكون من محل النزاع وقال والدي أيده الله في تفسيره هذه الآية ست فوائد لهذه الصفة
احداها: أنها الذي يتشوق إليه نفوس من يقصد أن يشفع فيه فكان التصريح بنفيها نفيا قاطعا لأطماع الظالمين ومظالمهم ليقطعوا إياسهم لأن من كان متشوقا إلى شيء فصرح له بأنه لا يبلغه كان أنكى له من أن يدل عليه بلفظ عام شامل له أو مستلزم إياه فلم يقصد بهذه الصفة التخصيص وإنما قصد ما ذكرناه.
الثانية: أن من الشفعاء من لا يقبل شفاعته فلا غرض فيه أصلا ومنهم مقبول الشفاعة وهو المقصود فنص عليه تحقيقا لمن قصد نفيه وهي صفة مخصصة وقدم هذه الفرض على ما يقتضيه مفهوم الصفة من وجود غيره لقيام الدليل على عدمه وهذه الفائدة مغايرة للأولى لأن هذه في آحاد الشفعاء وتلك في صفة شفاعتهم.
الثالثة: ما يدل عليه مادة يطاع والغالب في الشفاعة استعمال لفظ القبول والنفع وما أشبههما أما الطاعة فإنما تقال في الأمر فكان ذكرها ههنا لنكتة بديعة وهي أنه لما ذكر الظالمين وشأن الظالمين في الدنيا القوة والمتكلم
1 سورة غافر آية: 18.
لهم بمنلة من يأمر فيطاع نفى عنهم ذلك في الآخرة تبكيتا وحسرة فإن النفس إذا ذكرت ما كان عليه وزال عنها وخوطبت به كان أشد عليها.
الرابعة: أنه أشارة إلى قول ذلك اليوم العصيب وأن شدته بلغت مبلغا لا ينفع إلا شفيع له قوة ورتبة أن يطاع لو وجد وهو لا يوجد وهذه قريبة من التي قبلها إلا أنها بحسب الحاضر وتلك بحسب الماضي.
الخامسة: التنبيه على ما فضل الشفيع لأجله كقول المغلوب الذي ليس عنده أحد ما عندي أحد ينصرني تنبيها على أن مقصوده النصرة.
السادسة: فائدة ذكرها الزمخشري وفهمها يتوقف على تحرير كلامه وفيه نظر طويل وقد تكلم عليه الشيخ الإمام والدي أبلغ كلام وأحسنه ولولا خشية التطويل والخروج عن مقصد الشرح لاستوعبنا ذكره فإنه مما يشح به اللبيب ويثبط به ذو الذهن السليم.
قاعدة أصل وضع الصفة أن تجيء إما للتخصيص أو للتوضيح ويكثر مجيئها للتخصيص في النكرات وللتوضيح في المعارف نحو مررت برجل عاقل وبزيد العالم وقد تجيء لمجرد الثناء كصفات الله تعالى أو لمجرد الذم نحو الشيطان الرجيم أو للتوكيد مثل نفخة واحدة أو للتحنن مثل زيد المسكين.
وهذه الأقسام لا مفهوم لها وقد يعبر عن التخصيص بالشرط عن التوضيح بالتعريف والمعنى واحد ولما احتمل كون كل منهما مرادا وقع في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة أماكن اختلف فيها العلماء وفي الحكم المرتب عليها لأجل اختلافهم فيها فمن تلك قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} 1 فقوله: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} متردد بين أن يكون للتوضيح أو للتخصيص فإن كان فيه دلالة لمذهب الشافعي رضي الله عنه أن العبد لا يملك شيئا ويكون معنى الآية أن هذا شأن العبد كما في قوله
1 سورة النحل آية: 75.