الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانياً: أسباب الترجيح ووجوهه:
إن التعارض إذا وقع بين حديثين نظر؛ فإن كان بينهما نسخ-وذلك بمعرفة التاريخ- أبطل العمل بالأول وعمل بالآخر، فإن لم يعرف التاريخ نظر؛ فإن أمكن الجمع بينهما عمل به، فإن لم يمكن الجمع ولم يعرف التاريخ تعين المصير إلى ترجيح أحدهما على الآخر.
والترجيح له أسباب ووجوه كثيرة، منها ما يكون باعتبار السند، ومنها ما يكون باعتبار المتن.
وسأبدأ بذكر الأسباب التي تكون باعتبار السند، وهي إما تعود إلى الراوي وإما إلى الرواية، وإما إلى المروي، وإما إلى المروي عنه.
أما ما يعود إلى الراوي فأسباب منها:
1-
أن تكون رواة أحدهما أكثر من رواة الآخر، فما كان رواته أكثر يكون مرجحَاً، لأنه أغلب على الظن من جهة أن احتمال وقوع الغلط والكذب على العدد الأكثر أبعد من احتمال وقوعه في العدد الأقل، ولأن خبر كل واحد من الجماعة يفيد الظن.
ولا يخفى أن الظنون المجتمعة كلما كانت أكثر كانت أغلب على الظن حيث ينتهي إلى القطع، ولهذا فإنه لما كان الحد الواجب في الزنا من أكبر الحدود وآكدها؛ جعلت الشهادة عليه أكثر عددا من غيره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمل بقول ذي اليدين (أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ)(1) ، حتى أخبره بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
2-
أن يكون راوي أحد الحديثين مشهوراً بالعدالة والثقة بخلاف الآخر، أو أنه أشهر بذلك، فروايته مرجحة لأن سكون النفس إليه أشد والظن بقوله أقوى.
نحو: ما إذا اتفق مالك بن أنس وشعيب بن أبي حمزة في الزهري؛ فإن شعيباً وإن كان حافظاً ثقة غير أنه لا يوازي مالكاً في إتقانه وحفظه، ومن اعتبر حديثهما وجد بينهما بوناً بعيداً.
3-
أن يكون أحد الراويين متفقاً على عدالته والآخر مختلفاً فيه، فالمصير إلى المتفق عليه أولى.
(1) أخرجه البخاري (1/565) .
مثاله: حديث بسرة بنت صفوان في مس الذكر مع ما يعارضه من حديث طلق، فحديث بسرة رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة بن الزبير وليس فيهم إلا من هو عدل صدوق متفق على عدالته، وأما رواة حديث طلق فقد اختلف في عدالتهم، فالمصير إلى حديث بسرة أولى (1) .
4-
أن يكون أحد الراويين قد عمل بما روى والآخر خالف ما روى، فمن لم يخالف روايته أولى لكونه أبعد عن الكذب بل هو أولى من رواية من لم يظهر منه العمل بروايته.
5-
أن يكون أحد الراويين أعلم وأضبط من الآخر أو أورع وأتقى، فروايته أرجح لأنها أغلب على الظن.
6-
أن يكون أحد الراويين حال روايته ذاكراً للرواية عن شيخه غير معتمد في ذلك على نسخة سماعه أو خط نفسه بخلاف الآخر، فهو أرجح لأنه يكون أبعد عن السهو والغلط.
7-
أن يكون راوي أحد الحديثين حين سمع الحديث كان بالغاً، والثاني كان صغيراً حال الأخذ، فالمصير إلى حديث الأول أولى؛ لأن البالغ أفهم للمعاني وأتقن للألفاظ، وأبعد من غوائل الاختلاط وأحرص على الضبط وأشد اعتناءً بمراعاة أصوله من الصبي، ولأن الكبير سمعه في حال لو أخبر به لقبل منه بخلاف الصبي، ولهذا فإن بعض أهل المعرفة بالحديث لما ذُوكِر في أصحاب الزهري رجح مالكاً على سفيان بن عيينة لأن مالكاً أخذ عن الزهري وهو كبير، وابن عيينة إنما صحب الزهري وهو صغير دون الاحتلام.
8-
أن يكونا مرسلين وقد عرف من حال أحد الراويين أنه لا يروي عن غير العدل كابن المسيب ونحوه، بخلاف الآخر، فرواية الأول تكون أولى (2) .
(1) سيأتي الحديث في مسألة مس الذكر بالتفصيل في باب الوضوء ص
(2)
وذلك لمن يحتج بالمرسل.
9-
أن يكون سماع أحد الراويين تحديثاً وسماع الثاني عرضاً، فالأول أولى بالترجيح، إذ لا طريق أبلغ من النطق بالثبوت، ولهذا قدم بعضهم عبيد الله بن عمر في الزهري على ابن أبي ذئب لأن سماع عبيد الله تحديث وسماع ابن أبي ذئب عرض (1) .
10-
أن يكون أحد الراويين مباشراً لما رواه والثاني حاكياً، فالمباشر أعرف بالحال، مثاله: حديث ميمونة (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَكَحَهَا وَهُوَ حَلَالٌ)(2) ، وبعضهم رواه (وهو حرام)(3) ، فممن رواه (نكحها وهو حلال) أبو رافع، وممن رواه (نكحها وهو حرام) ابن عباس، وحديث أبي رافع أولى بالتقديم لأن أبا رافع كان السفير بينهما فكان مباشراً للحال، وابن عباس كان حاكياً (4)، ولهذا أحالت عائشة على علي لما سألوها عن المسح على الخفين وقالت:" سلوا علياً فإنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم"(5) .
11-
أن يكون أحد الراويين صاحب القصة فيرجح حديثه لأن صاحب القصة أعرف بحاله من غيره وأكثر اهتماماً، ولذلك رجع نفر من الصحابة ممن يرى الماء من الماء إلى حديث عائشة رضي الله عنها من التقاء الختانين (6) .
12-
أن يكون أحد الراويين أحسن سياقاً لحديثه من الآخر وأبلغ استقصاءً فيه، لأنه قد يحتمل أن يكون الراوي الآخر سمع بعض القصة فاعتقد أن ما سمعه مستقل بالإفادة، ويكون الحديث مرتبطاً بحديث آخر لا يكون هذا الراوي قد تنبه له، ولهذا من ذهب إلى الإفراد في الحج قدم حديث جابر (7) لأنه وصف خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة مرحلة مرحلة ودخوله مكة وحكى مناسكه على ترتيبه وانصرافه من المدينة، وغيره لم يضبطه ضبطه.
(1) هذا عند من يقدم السماع على العرض.
(2)
أخرجه مسلم (9/196، 197) .
(3)
أخرجه مسلم (9/196) .
(4)
المراد بالنكاح وهو حلال أي عقد عليها وليس معناه دخل بها.
(5)
أخرجه مسلم (3/157) .
(6)
سيأتي الكلام عن هذه المسألة مفصلاً من باب الغسل ص
(7)
أخرجه البخاري (3/423) .