الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووجه استدلالهم من حديث انس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه في هذا الحديث الأمر بنقل التراب، وظاهر ذلك الاكتفاء بصب الماء فإنه لو وجب الحفر لأمر به، ولو أمر به لذكر، ولو كان نقل التراب واجباً في التطهير لاكتفى به فإن الأمر بصب الماء حينئذ يكون زيادة تكليف، وتعب من غير منفعة تعود للمقصود وهو تطهير الأرض (1) .
2-
ذهب الحنفية إلى الحفر وفرقوا بين الأرض الرخوة والصلبة.
قال الكاساني: "ولو أن الأرض أصابتها نجاسة رطبة فإن كانت الأرض رخوة يصب عليها الماء حتى يتسفل فيها، فإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وتسفلت المياه يحكم بطهارتها"" وإذا كانت صلبة فإن كان صعوداً يحفر في أسفلها حفيرة ويصب الماء عليها ثلاث مرات ويزال عنها إلى الحفيرة ثم تكبر الحفيرة، وإن كانت مستوية بحيث لا يزول عنها الماء لا تغسل لعدم الفائدة في الغسل"(2) .
وردوا على من صب الماء عليها وقالوا: " بأن ذلك فاسد لأن الماء النجس باق حقيقة، ولكن ينبغي أن تقلب فيجعل أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها ليصير التراب الطاهر وجه الأرض، وهكذا روي أن أعرابياً بال في المسجد فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفر موضع بوله"(3) .
قلت:
وقد بان لنا مما تقدم ضعف حديث الحفر فلا يصح للاحتجاج به.
ويترجح ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الحفر وأن الأرض تطهر بصب الأرض وذلك لصحة الدليل بهذا.
…
والله أعلم.
المبحث التاسع:
البول قائماً
.
ومما يدخل في باب المياه والنجاسات آداب قضاء الحاجة وقد يظهر تعارض بعض الأحاديث مع بعضها. ففي البول قائماً نجد أن أحاديث تبيحه وأخرى تمنعه.
كما يبيحه حديث حذيفة-رضي الله عنه قال:
(رأيتني أنا والنبي صلى الله عليه وسلم-نتماشى، فأتى سباطة قوم خلف حائط فقام كما يقوم أحدكم، فبال، فانتبذت منه فأشار إلي، فجئته فقمت عند عقبه حتى فرغ) .
(1) تحفة الأحوذي 1/138.
(2)
بدائع الصنائع 1/89.
(3)
بدائع الصنائع 1/89.
ومما يمنعه حديث عائشة –رضي الله عنها قالت:
(من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) .
الحديث الذي يفيد إباحة البول قائماً:
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "رَأَيْتُنِي أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَتَمَاشَى فَأَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ فَبَالَ فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُهُ فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ"(1)
الحديث الذي يفيد المنع من البول قائماً:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إِلَّا قَاعِدًا "(2) .
أقوال العلماء في درء التعارض:
1-
جمع الترمذي بين هذه الأحاديث بأن حمل النبي من البول قائما على التأدب لا على التحريم " (3) .
(1) أخرجه البخاري (1/329، 328)(5/117) ، ومسلم (3/165) ، وأبو داود (1/6) ، والترمذي (1/19) ، والنسائي (1/19، 25) ، وابن ماجة (1/111) ، والدارمي (1/171) ، وأحمد (5/382، 394، 402) ، والبيهقي (1/100، 101) ، وابن أبي شيبة (1/208) .
(2)
أخرجه الترمذي (1/17) وقال: حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح، والنسائي (1/26) ، وابن ماجة (1/122) ، وأحمد (6/136، 192، 213)، والحاكم (1/181) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وابن حبان (2/349) ، والطيالسي ص211، وابن أبي شيبة (1/209) ، والبيهقي (1/101) ،وصححه الألباني في الصحيحة (1/200)، قلت: الحديث ضعيف وله متابعة يرتقي بها إلى الحسن.
(3)
سنن الترمذي 1/18.
2-
ودرأ ابن حبان التعارض بين الحديثين "بأن حدث حذيفة رضي الله عنه كان له سبب،وهو عدم الإمكان من الجلوس، وذاك أن المصطفى –صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم، وهي المزبلة، فأراد أن يبول فلم يتهيأ له الإمكان لأن المرء إذا قعد يبول على شيء مرتفع ربما تفشى البول فرجع إليه، فمن أجل عدم إمكانه من القعود لحاجة بال قائماً.
وعائشة رضي الله عنها لم تكن معه في ذلك الوقت، إنما كانت تراه في البيوت يبول قاعداً فحكت ما رأت، وأخبر حذيفة بما عاين" (1) .
3-
وكذا درأ ابن قتيبة هذا التعارض بقوله: "لم يبل قائماً قط في منزله والموضع الذي كانت تحضره عائشة –رضي الله عنها-وبال قائماً في المواضع التي لا يمكن أن يطمئن فيها، إما للثق (2) في الأرض وطين وقذر.
وكذلك الموضع الذي رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة يبول قائما كان مزبلة لقوم، فلم يمكنه القعود فيه ولا الطمأنينة وحكم الضرورة خلاف حكم الاختيار" (3) .
4-
وذكر الخطابي لبوله –صلى الله عليه وسلم قائماً وجوهاً منها:
1-
أنه لم يجد للقعود مكانا فاضطر إلى القيام إذ كان ما يليه من طرف السباطة مرتفعا عالياً.
2-
وقيل: إنه كان برجله جرح لم يتمكن من القعود معه وقد روي ذلك في حديث أبي هريرة-رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً من جرح كان بمأبضه (4) .
3-
وحدثونا عن الشافعي أنه قال: كانت العرب تستشفي لوجع الصلب بالبول قائماً. فترى أنه لعلة به إذ ذاك وجع الصلب (5) .
(1) الإحسان (2/348، 350) بتصرف.
(2)
اللثق: البلل. الفائق للزمخشري 3/303.
(3)
تأويل مختلف الحديث ص 87.
(4)
المأبض: باطن الركبة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/15.
(5)
معالم السنن 1/29.
5-
وقال ابن القيم: والصحيح أنه إنما فعل ذلك-أي البول قائماً- تنزها وبعدا من إصابة البول، فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم وهو ملقى الكناسة وتسمى المزبلة، وهي تكون مرتفعة، فلو بال فيها الرجل قاعدا لارتد عليه بوله وهو صلى الله عليه وسلم استتر بها وجعلها بينه وبين الحائط فلم يكن بد من بوله قائماً (1) .
6-
وذكر النووي الأوجه الثلاثة التي حكاها الخطابي وزاد وجهاً رابعاً عن المارزي والقاضي عياض رحمهما الله وهو أنه بال قائماً لكونها حالة يؤمن خروج الحدث من السبيل الآخر في الغالب بخلاف حالة القعود، ولذلك قال عمر: البول قائماً أحصن للدبر. ويجوز وجه خاص أنه-صلى الله عليه وسلم فعله للجواز في هذه المرة وكانت عادته المستمرة يبول قاعداً ويدل عليه حديث عائشة –رضي الله عنها قالت: من حدثكم أن النبي –صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعداً (2) .
رواه أحمد بن حنبل والترمذي والنسائي وآخرون. وإسناده جيد والله أعلم.
وقد روي في النهي عن البول قائماً أحاديث لا تثبت، ولكن حديث عائشة هذا ثابت فلهذا قال العلماء: يكره البول قائماً إلا لعذر، وهي كراهة تنزيه لا تحريم.
قال ابن المنذر في الإشراق: اختلفوا في البول قائماً فثبت عن عمر ابن الخطاب –رضي الله عنه وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد أنهم بالوا قياما، قال: وروي ذلك عن أنس وعلى وأبي هريرة رضي الله عنهم وفعل ذلك بن سيرين وعروة بن الزبير وكرهه بن مسعود والشعبي وإبراهيم بن سعد وكان إبراهيم بن سعد لا يجيز شهادة من بال قائماً.
(1) زاد المعاد 1/172.
(2)
شرح صحيح مسلم 3/165، 166.
وفيه قول ثالث: أنه كان في مكان يتطاير إليه من البول شيء فهو مكروه، فان كان لا يتطاير فلا بأس به، وهذا قول مالك قال بن المنذر: البول جالسا أحب إلى وقائما مباح وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا كلام ابن المنذر والله أعلم. (1)
7-
وأورد السيوطي هذه الأوجه الخمسة، وزاد:" وذكر المنذري وجهاً سادساً أنه لعله كان فيهما نجاسات رطبة وهي رخوة فخشي أن تتطاير عليه قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: كذا ولعل القائم أجدر بهذه الخشية على القاعد، قلت مع أنه يؤول إلى الوجه الثالث، وذهب أبو عوانة وابن شاهين إلى أنه منسوخ. (2)
8-
وذكر ابن حجر الأوجه التي ذكرها النووي وعلق على الوجه الثاني بقوله:" ولو صح هذا الحديث لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي والأظهر أنه فعله لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود. والله أعلم.
وسلك أبو عوانة في صحيحه وابن شاهين فيه مسلكاً آخر فزعما أن البول عن قيام منسوخ، واستدلا عليه بحديث عائشة الذي قدمناه "ما بال قائماً منذ أنزل عليه القرآن" وبحديثها أيضاً " من حدثكم أنه كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً"، والصواب أنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع عليه، وقد حفظه حذيفة وهو من كبار الصحابة، وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن، وقد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قياماً، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش، والله أعلم. ولم يثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيء
…
" (3) .
(1) المرجع السابق والصفحة.
(2)
سنن النسائي بشرح السيوطي 1/20.
(3)
فتح الباري 1/330.