المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني:هل يجب الغسل بالتقاء الختانين دون إنزال - دفع إيهام تعارض أحاديث الأحكام في كتاب الطهارة

[رقية المحارب]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة:

- ‌منهجي في هذا البحث:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول:معنى التعارض وأسبابه

- ‌معنى التعارض في اللغة:

- ‌التعريف الاصطلاحي:

- ‌شرح تعريف النووي:

- ‌شرح التعريف:

- ‌أسباب التعارض:

- ‌1- قد يقول النبي صلى الله عليه وسلم القول العام يريد به العام، والعام يريد به الخاص

- ‌2- أن يؤدي المخبر عنه الخبر متقصى، والخبر مختصراً:

- ‌3- عدم إدراك الراوي لاختلاف الحال:

- ‌4- بعض الرواة يدرك جواباً لسؤال، ولا يدرك السؤال فيرويه فتخالف روايتُه روايةَ من أدرك السؤال ورواهما جميعاً:

- ‌5- عدم التمكن من معرفة صحيح الحديث من سقيمه، فيعارض الصحيح بالسقيم، والسقيم لا يخلو أن يكون وهماً أو غلطاً أو كذباً أو وضعاً:

- ‌6- عدم فهم النص، وحمله على غير ما عني به:

- ‌المبحث الثاني:معنى الترجيح وأسبابه

- ‌أولاً: معنى الترجيح:

- ‌الترجيح في اللغة:

- ‌الترجيح في الاصطلاح:

- ‌ثانياً: أسباب الترجيح ووجوهه:

- ‌أما ما يعود إلى الراوي فأسباب منها:

- ‌هذا ما يعود إلى الراوي، أما ما يعود إلى الرواية فأسباب الترجيح فيها كثيرة، منها:

- ‌وأما ما يعود إلى المروي فأسباب الترجيح منها:

- ‌وأما ما يعود إلى المروي عنه فأسباب كثيرة منها:

- ‌وأما الترجيحات والأسباب العائدة إلى المتن فمنها:

- ‌المبحث الثالث:المؤلفات السابقة في هذا الموضوع

- ‌الباب الأولباب المياه والنجاسات

- ‌المبحث الأول: أينجس الماء بورود النجاسة عليه

- ‌المبحث الثاني:أيغتسل الرجل أو يتوضأ بفضل المرأة

- ‌المبحث الثالث:سؤر الكلب

- ‌المبحث الرابع:سؤر الهر

- ‌المبحث الخامس:ما جاء في المني

- ‌المبحث السادس:جلود الميتة

- ‌المبحث السابع:هل تستقبل القبلة أو تستدبر بالبول والغائط

- ‌المبحث الثامن:كيف تطهر الأرض من البول

- ‌المبحث التاسع:البول قائماً

- ‌الباب الثاني.وفيه مبحث:آنية الكفار

- ‌الباب الثالث.باب الوضوء

- ‌المبحث الأول:هل أكل ما مسَّت النار من نواقض الوضوء

- ‌المبحث الثاني:هل يتوضأ من مس ذكره أم لا

- ‌المبحث الثالث:هل النوم من نواقض الوضوء أم لا

- ‌المبحث الرابع:التسمية قبل الوضوء

- ‌المبحث الخامس:هل تجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء

- ‌المبحث السادس:حكم تخليل اللحية الكثة في الوضوء

- ‌المبحث السابع:الاطلاء بالنُّورة

- ‌المبحث الثامن:" التمندل " أو استعمال المنديل بعد الو ضوء أو الغسل

- ‌الباب الرابع:باب الغسل

- ‌المبحث الأول: ماذا يجب على الجنب إذا أراد النوم أو الأكل أو المعاودة

- ‌المبحث الثاني:هل يجب الغسل بالتقاء الختانين دون إنزال

- ‌المبحث الثالث:غسل الجمعة

- ‌المبحث الرابع:هل يجب الغسل من تغسيل الميت

- ‌المبحث الخامس:هل يجب دلك الرأس من غسل الجنابة

- ‌المبحث السادس:التستر عند الغسل في الخلوة

- ‌الباب الخامسباب السواك.وفيه مبحث:حكم السواك للصائم

- ‌الباب السادس:باب الحيض والاستحاضة

- ‌المبحث الأول:ما يجوز الاستمتاع به من الحائض

- ‌المبحث الثاني:المستحاضة ترد إلى العادة أو إلى التمييز

- ‌المبحث الثالث:كيف تتطهر المستحاضة للصلاة

- ‌الباب السابع:التيمم.وفيه مبحث:صفة التيمم

- ‌الخاتمة:

الفصل: ‌المبحث الثاني:هل يجب الغسل بالتقاء الختانين دون إنزال

‌المبحث الثاني:

هل يجب الغسل بالتقاء الختانين دون إنزال

؟

ومما يشكل في هذا المبحث أحاديث جاءت لتبين موجبا من موجبات الغسل وهو الجماع، ولكن اختلفت في بيان ما يجب الغسل منه، فمنها ما يدل على أن الموجب للغسل هو نزول الماء، ومنها ما يدل على أن الموجب له التقاء الختانين فقط، أنزل أم لم ينزل.

فمما استدل به على إيجاب الغسل بإنزال الماء وعد إيجابه من التقاء الختانين أحاديث:

1-

عن زيد بن خالد الجهني أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إن جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ قال عثمان: " يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره"، قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2-

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار فأرسل إليه، فخرج ورأسه يقطر، فقال:"لعلنا أعجلناك"، قال: نعم يا رسول الله، قال:" إذا أعجلت أو قحطت (1) فلا غسل عليك وعليك الوضوء".

3-

"إنما الماء من الماء".

ومما استدل به على إيجاب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم ينزل:

حديث: " إذا جلس بين شعبه الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل".

ذكر ما استدل به على عدم وجوب الغسل من التقاء الختانين دون إنزال:

الحديث الأول:

أن زيد بن خالد الجهني أخبره: أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ قَالَ عُثْمَانُ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنهم فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ.

(1) قال النووي: " معنى الإقحاط عندم إنزال المني وهواستعارة من قحوط المطر وهو انحباسه وقحوط الأرض وهو عدم إخراجها النبات، والله أعلم: شرح مسلم 4/37، 38

ص: 141

قَالَ يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. (1)

الحديث الثاني:

عن أبي سعيد الخدري: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ فَقَالَ «لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ» .

قَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ أَقْحَطْتَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ» . وَقَالَ ابْنُ بَشَّارٍ «إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ أُقْحِطْتَ" (2) .

الحديث الثالث:

عن أبي سعيد الخدري عن النبي –صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ "(3) .

ذكر ما استدل به على إيجاب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم ينزل:

عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ"(4) .

وجه التعارض:

(1) أخرجه البخاري (1/396، 1/283) ، ومسلم (4/39) ، وأحمد (1/63، 64) ، والبيهقي (1/165) .

(2)

أخرجه البخاري (180) ، ومسلم (4/37) واللفظ له، ابن ماجة (1/199) ، وأحمد (3/21، 26) ، والبيهقي (1/65) ، وأبو عوانة (1/286) .

(3)

أخرجه مسلم (4/38) ، أبو داود (1/56) ، وابن ماجة (1/199) ، وأحمد (3/29، 36) ، وابن خزيمة (1/117) ، وابن حبان (2/242) ، وأبو عوانة (1/286) ، والبيهقي (1/167) ، والطحاوي (1/54) .

(4)

أخرجه البخاري (1/395) ، ومسلم (4/39،41) ، وأبو داود (1/56) ، والنسائي (1/110، 111) ، وابن ماجة (1/200) ، والدارمي (1/194) ، وأحمد (2/234) ، وابن حبان (2/245) ، والدارقطني (1/113) ، والبيهقي (1/163) .

ص: 142

من يقرأ في حديث زيد بن خالد رضي الله عنه وحديثي أبي سعيد –رضي الله عنه؛ يجد أن هذه الأحاديث تفيد عدم وجوب الغسل من التقاء الختانين والإيلاج إذا لم ينزل، وإنما عليه الوضوء وغسل الفرج. وقد جاءت هذه الأحاديث صريحة بذلك وهي صحيحة ثابتة، كما أن من يقرأ حديث أبي هريرة –رضي الله عنه يجد أن هذا الحديث يدل على أن من جامع وجب عليه الغسل مطلقاً، سواء أنزل أم لم ينزل. وهو حديث صحيح صريح بذلك.

فلما كان هذا التعارض، وجب النظر في هذه الأحاديث ومعرفة كيف نؤلف بينها، وقد تكلم العلماء فيها بما يشفي، وهذا عرض لأقوالهم في ذلك.

أقوال العلماء في درء تعارض هذه الأحاديث:

1-

ذهب الشافعي إلى النسخ، حيث أورد حديث عدم الإيجاب من طريق أبي؛ وحديث الإيجاب من طريق عائشة رضي الله عنهما، ثم أورد بسنده حديث رجوع أبي عن قوله فقال: "عن أبي بن كعب أنه كان يقول: ليس على من لم ينزل غسل، ثم نزع عن ذلك أبي قبل أن يموت (1) .

ثم قال:" وإنما بدأت بحديث أبي في قوله "الماء من الماء"، ونزوعه، أن فيه دلالة على أنه سمع "الماء من الماء" عن النبي –صلى الله عليه وسلم ولم يسمع خلافه فقال به، ثم لا أحسبه تركه إلا لأنه ثبت له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعده ما نسخه. وقال:" وحديث الماء من الماء ثابت الإسناد، وهو عندنا منسوخ بما حكيت، فيجب الغسل من الماء، ويجب إذا غيب الرجل ذكره في فرج المرأة حتى يواري حشفته".

(1) الحديث أخرجه مالك (1/52) ، وقد أخرج أبو داود عن أبي مثله (1/55) ، وابن ماجة (1/200) ، والدارمي (1/194) ، وأحمد (5/115) .

ص: 143

ثم ذكر رأي من خالفه في قوله هذا ومناقشته له. قال: " فخالفنا بعض أصحاب الحديث من أهل ناحيتنا وغيرهم، فقالوا: لا يجب على الرجل إذا بلغ من امرأته ما شاء الغسل حتى يأتي منه الماء الدافق، واحتج فيه بحديث أبي بن كعب وغيره مما يوافقه، وقال: أما قول عائشة:"فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا"، فقد يكون تطوعا منهما بالغسل، ولم تقل إن النبي عليه الصلاة والسلام قال عليه الغسل.

قال الشافعي: فقلت له الأغلب أن عائشة لا تقول إذا مس الختان الختان أو جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل وتقول فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا؛ إلا خبرا عن رسول الله بوجوب الغسل منه، قال: فيحتمل أن تكون لما رأت النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل اغتسلت ورأته واجبا، ولم تسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إيجابه، فقلت: نعم، قال: فليس هذا خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: الأغلب أنه خبر عنه.

ص: 144

قال: وأما حديث علي بن زيد فليس مما يثبته أهل الحديث وهو لا تقوم به الحجة، فقلت له: فإن أبي بن كعب قد رجع عن قوله "الماء من الماء" بعد قوله به عمرا من عمره، وهو يشبه أن لا يكون رجع إلا بخبر يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن هذا لأقوى فيه من غيره وما هو بالبين، وقلت له: ما أعلم عندنا من جهة الحديث شيئا أكبر من هذا، قال: فمن جهة غير الحديث؟ فقلت: نعم، قال الله جل ثناؤه:(لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) إلى قوله (حتى تغتسلوا (1) فكان الذي يعرفه من خوطب بالجنابة من العرب أنها الجماع دون الإنزال، ولم تختلف العامة أن الزنا الذي يجب به الحد: الجماع دون الإنزال، وأن من غابت حشفته في فرج امرأة وجب عليه الحد، وكان الذي يشبه أن الحد لا يجب إلا على من أجنب من حرام، وقلت له: قد يحتمل أن يقال حديث أبي: إذا جامع أحدنا فأكسل أن ينزل أن يقول: إذا صار إلى الجماع ولم يغيب حشفته فأكسل، فلا يكون حديث الغسل إذا التقى الختانان مخالفا له، قال: أفتقول بهذا؟ فقلت: إن الأغلب أنه إذا بلغ أن يلتقي الختانان ولم ينزل، وكذلك والله أعلم الأغلب من قول عائشة "فعلته أنا والنبي –صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا" على إيجاب الغسل، لأنها توجب الغسل إذا التقى الختانان.

(1) النساء آية: 43.

ص: 145

قال: فماذا التقاء الختانين؟ قلت: إذا صار الختان حذو الختان وإن لم يتماسا، قال: فيقال لهذا التقاء؟ قلت: نعم، أرأيت إذا قيل التقى الفارسان، أليس إنما يعني إذا تواقفا؛ فصار أحدهما وجاه الآخر، أو اختلفت دوابهما فصار أحد الرجلين وجاه صاحبه، ويقال إذا جاوز بدن أحدهما بدن صاحبه قد خلف الفارس، قال: بلى، قلت: ويقال إذا تماسا التقيا، لأنه أقرب التقاء وبعض اللقاء أقرب من بعض، قال: إن الناس ليقولونه، قلت: وهذا كله صحيح جائز في لسان العرب، فإنما يراد بهذا أن تغيب الحشفة في الفرج حتى يصير الختان الذي خلف الحشفة حذو ختان المرأة وإنما يجهل هذا من جهل لسان العرب" (1) .

2-

ذهب ابن خزيمة إلى النسخ أيضا فقال: " باب ذكر أخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرخصة في ترك الغسل في الجماع من غير إمناء قد نسخ بعض أحكامها.

ثم أورد حديث عثمان بن عفان –رضي الله عنه الذي أوردناه في الباب ثم قال: " باب ذكر نسخ إسقاط الغسل في الجماع من غير إمناء"، وساق بإسناده حديث أبي بن كعب في إيضاح أن "الماء من الماء" كان رخصة في أول الإسلام.

ثم أورد ما يدل على الإيجاب بالتقاء الختانين فقال:" باب ذكر إيجاب الغسل بمماسة الختانين أو التقائهما وإن لم يكن أمنى".

(1) اختلاف الحديث للشافعي (90، 94) .

ص: 146

وأورد في هذا الباب حديث أبي موسى الأشعري:"أنهم كانوا جلوساً، فذكروا ما يوجب الغسل. فقال من حضر من المهاجرين: إذا مس الختان الختان وجب الغسل، وقال من حضره من الأنصار: لا، حتى يدفق، قال أبو موسى: أنا آتيكم بالخبر. فقام إلى عائشة رضي الله عنها فسلَّم ثم قال: إني أريد أن أسألك عن شيء، وأنا أستحي منه. فقالت: لا تستحي، إن تسأل عن شيء تسأل عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك، قال: قلت: ما يوجب الغسل؟ قالت على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان وجب الغسل"(1) .

وبهذا يتبين ما ذهب إليه ابن خزيمة من نسخ الأحاديث الثلاثة الأُول بحديث عائشة وأبي هريرة –رضي الله عنهما. (2)

3-

وقد أفاض الإمام الطحاوي في هذه المسألة، فأورد حديث عثمان بإسناده، وروى معناه أيضاً من طريق أبي أيوب والزبير بن العوام وأبي بن كعب والأنصار.

وكذا أورد حديث أبي سعيد بإسناده، وكذا روى معناه عن أبي أيوب وأبي هريرة، قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى أن من وطيء في الفرج فلم ينزل فليس عليه غسل، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.

وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا عليه الغسل وإن لم ينزل، واحتجوا بحديث عائشة –رضي الله عنها المتقدم من عدة طرق.

قال أبو جعفر: قالوا: فهذه الآثار تخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل إذا جامع، وإن لم ينزل.

فقيل لهم: هذه الآثار إنما تخبر عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يجوز أن يفعل ما ليس عليه، والآثار الأول تخبر عما يجب وما لا يحب فهي أولى.

فكان من الحجة لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى؛ أن الآثار التي رويناها في الفصل الأول من هذا الباب على ضربين:

(1) هذا لفظ ابن خزيمة ورواه مسلم (4/40) .

(2)

ينظر صحيح ابن خزيمة (1/112-114) .

ص: 147

فضرب منهما: الماء من الماء لا غير، وضرب منهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا غسل على من أكسل حتى ينزل.

فأما ما كان من ذلك فيه ذكر "الماء من الماء" فإن ابن عباس رضي الله عنه قد روي عنه في ذلك أن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم به قد كان غير ما حمله عليه أهل المقالة الأولى.

ثم ذكر بسنده عن ابن عباس –رضي الله عنه قوله: "الماء من الماء":" إنما ذلك في الاحتلام، إذا رأى أنه يجامع ثم لم ينزل، فلا غسل عليه".

فهذا ابن عباس قد أخبر أن وجهه غير الوجه الذي حمله عليه أهل المقالة الأولى، فضاد قوله قولهم.

وأما ما روي فيما بين فيه الأمر، وأخبر فيه بالقصد، أنه لا غسل عليه في ذلك حتى يكون الماء؛ فإنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك.

وذكر بإسناده حديث أبي هريرة المتقدم في المبحث "إذا قعد بين شعبها..الحديث".

وذكر أيضاً بإسناده عن عائشة –رضي الله عنهما.

قال أبو جعفر: فهذه الآثار تضاد الآثار الأول، وليس في شيء من ذلك دليل على الناسخ من ذلك ما هو، فنظرنا في ذلك –وذكر بإسناده عن أبي بن كعب- قال: إنما كان الماء من الماء في أول الإسلام، فلما أحكم الله الأمر نهى عنه.

قال أبو جعفر: فهذا أبي يخبر أن هذا هو الناسخ لقوله "الماء من الماء"، وقد روي عنه بعد ذلك من قوله ما يدل على هذا أيضاً.

وذكر بسنده عن محمود بن لبيد: أنه سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل، فقال زيد: يغتسل. فقلت له: إن أبي بن كعب كان لا يرى فيه الغسل، فقال زيد: إن أبيًّا قد نزع (رجع) عن ذلك قبل أن يموت.

قال أبو جعفر: فهذا أبي قد قال هذا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، فلا يجوز هذا عندنا إلا وقد ثبت نسخ ذلك عنده من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك عثمان وأبو هريرة قالا ذلك ورويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم-خلافه، فلا يجوز هذا إلا وقد ثبت النسخ عندهما.

ص: 148

ثم ذكر ما يدل على النسخ أيضاً فروى بسنده عن سعيد بن المسيب قال: قال رجال من الأنصار يفتون أن الرجل إذا جامع المرأة ولم ينزل فلا غسل عليه، وكان المهاجرون لا يتابعونهم على ذلك.

قال:" فهذا يدل على نسخ ذلك أيضا لأن عثمان والزبير هما من المهاجرين، وقد سمعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد روينا عنهما في أول هذا الباب ثم قد قالا بخلاف ذلك، فلا يجوز ذلك منهما إلا وقد ثبت النسخ عندهما.

ثم قد كشف ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فلم يثبت ذلك عنده، فحمل الناس على غيره، وأمرهم بالغسل، ولم يعترض عليه في ذلك أحد وسلموا ذلك له؛ فذلك دليل على رجوعهم أيضا إلى قوله.

وذكر بسنده حديث عمر، قال عبيد بن رفاعة الأنصاري: كنا في مجلس فيه زيد بن ثابت فتذاكرنا الغسل من الإنزال، فقال زيد: ما على أحدكم إذا جامع فلم ينزل إلا أن يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة. فقام رجل من أهل المجلس، فأتى عمر فأخبره بذلك. فقال عمر للرجل: اذهب أنت بنفسك فائتني به حتى تكون أنت الشاهد عليه. فذهب فجاء به، وعند عمر ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، فقال عمر أنت عدو نفسك تفتي الناس بهذا؟! فقال زيد: أما والله ما ابتدعته، ولكني سمعته من عماي رفاعة بن رافع ومن أبي أيوب الأنصاري. فقال عمر لمن عنده من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما تقولون؟ فاختلفوا عليه، فقال عمر: يا عباد الله، فمن أسأل بعدكم وأنتم أهل بدر الأخيار؟ فقال له علي بن أبي طالب: فأرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إن كان شيء من ذلك ظهرت عليه.

ص: 149

فأرسل إلى حفصة فسألها فقالت: لا علم لي بذلك، ثم أرسل إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك: لا أعلم أحدا فعله ثم لم يغتسل؛ إلا جعلته نكالا.

قال أبو جعفر: فهذا عمر قد حمل الناس على هذا بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر ذلك عليه منكر.

قال الطحاوي:

وأما وجهه من طريق النظر: فإنا رأيناهم لم يختلفوا أن الجماع في الفرج الذي لا إنزال معه حدث، فقال قوم هو أغلظ الأحداث، فأوجبوا فيه أغلظ الطهارات، وهو الغسل. وقال قوم هو كأخف الأحداث، فأوجبوا فيه أخف الطهارات، وهو الوضوء.

فأردنا أن ننظر إلى التقاء الختانين: هل هو أغلظ الأشياء فنوجب فيه أغلظ ما يجب في ذلك؟

فوجدنا أشياء يوجبها الجماع، وهو فساد الصيام والحج، فكان ذلك بالتقاء الختانين وإن لم يكن معه إنزال، ويوجب ذلك في الحج الدم وقضاء الحج، ويوجب في الصيام القضاء والكفارة، في قول من يوجبها.

ولو كان جامع فيما دون الفرج، وجب عليه في الحج دم فقط، ولم يجب عليه في الصيام شيء إلا أن ينزل، وكل ذلك محرم عليه في حجه وصيامه، وكان من زنى بامرأة حد، وإن لم ينزل، ولو فعل ذلك على وجه شبهة فسقط بها الحد عنه، وجب عليه المهر.

وكان لو جامعها فيما دون الفرج، لم يجب عليه في ذلك حد ولا مهر، ولكنه يعزر إذا لم تكن هناك شبهة.

وكان الرجل إذا تزوج المرأة فجامعها جماعا لا خلوة معه في الفرج ثم طلقها، كان عليه المهر أنزل أو لم ينزل، ووجبت عليها العدة وأحلها ذلك لزوجها الأول.

ولو جامعها فيما دون الفرج لم يجب في ذلك عليه شيء، وكان عليه في الطلاق نصف المهر إن كان سمي لها مهرا، أو المتعة إذا لم يكن سمي لها مهرا.

فكان يجب في هذه الأشياء التي وصفنا، التي لا إنزال معها أغلظ ما يجب في الجماع الذي معه الإنزال، من الحدود والمهور، وغير ذلك.

ص: 150

فالنظر على ذلك، أن يكون كذلك، هو في حكم الأحداث أغلظ الأحداث، ويجب فيه أغلظ ما يجب في الأحداث، وهو الغسل.

وحجة أخرى في ذلك: أنا رأينا هذه الأشياء التي وجبت بالتقاء الختانين، فإذا كان بعدها الإنزال لم يجب بالإنزال حكم ثان، وإنما الحكم لالتقاء الختانين.

ألا ترى أن رجلا لو جامع امرأة جماع زناء، فالتقى ختاناهما، وجب الحد عليهما بذلك، ولو أقام عليهما حتى أنزل لم يجب بذلك عليه عقوبة، غير الحد الذي وجب عليه بالتقاء الختانين، ولو كان ذلك الجماع على وجه شبهة، فوجب عليه المهر بالتقاء الختانين، ثم أقام عليها حتى أنزل؛ لم يجب عليه في ذلك الإنزال شيء بعد ما وجب بالتقاء الختانين، وكان ما يحكم به في هذه الأشياء على من جامع فأنزل؛ هو ما يحكم به عليه إذا جامع ولم ينزل، وكان الحكم في ذلك هو لالتقاء الختانين لا للإنزال الذي يكون بعده.

فالنظر على ذلك، أن يكون الغسل الذي يجب على من جامع وأنزل، هو بالتقاء الختانين لا بالإنزال الذي يكون بعده.

فثبت بذلك قول الذين قالوا: إن الجماع يوجب الغسل، كان معه إنزال أو لم يكن.

وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وعامة العلماء رحمهم الله تعالى (1) .

4-

وقد ذكر أبو بكر الحازمي نحوا مما قدمناه من قول أبي جعفر الطحاوي، وذكر الأحاديث بأسانيده، ثم قال: " وقد صحت الأخبار في طرفي الإيجاب والرخصة، وتعذر الجمع، فنظرنا هل نجد مناصاً من غوائل التعارض من جهة التاريخ، حيث تعذر معرفته من صريح اللفظ؛ فوجدنا آثاراً تدل على ذلك وبعضها يصرح بالنسخ، فحينئذٍ تعين المصير إلى الإيجاب لتحقق النسخ في ذلك.

ثم ذكر بسنده ما يدل على النسخ من حديث أبي بن كعب المتقدم: "كان الماء من الماء شيئاً في أول الإسلام ثم ترك ذلك بعد، وأمروا بالغسل إذا مس الختان الختان". وقد أورد هذا عن أبي من قوله (2) .

(1) شرح معاني الآثار (1/53- 62) .بتصرف

(2)

الاعتبار ص 52-61 بتصرف.

ص: 151