الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
قال الشوكاني: "والإنصاف أن أحاديث الباب بعد تسليم انتهاضها للاحتجاج، وصلاحيتها للاستدلال لا تدل على الوجوب لأنه أفعال، وما ورد في بعض الروايات من قوله صلى الله عليه وسلم" هكذا أمرني ربي" لا يفيد الوجوب على الأمة لظهوره في الاختصاص به، وهو يتخرج على الخلاف المشهور في الأصول: هل يعم الأمة ما كان ظاهر الاختصاص به أم لا.
والفرائض لا تثبت إلا بيقين، والحكم على ما لم يفرضه الله بالفريضة كالحكم على ما فرضه بعدمها، لا شك في ذلك، لأن كل واحد منهما من التقول على الله بما لم يقل، ولا شك أن الغرفة الواحدة لا تكفي كث اللحية لغسل وجهه وتخليل لحيته، ودفع ذلك -كما قال بعضهم- بالوجدان مكابرة منه. نعم الاحتياط والأخذ بالأوثق لا شك في أولويته؛ لكن بدون مجاراة على الحكم بالوجوب (1) .
قلت:
لا تعارض بين هذين الحديثين وهذا كثير في الكتاب والسنة، فحديث أنس ورد فيه الإخبار عن أمر الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر للوجوب ما لم يكن له صارف، والصارف هنا عن الوجوب حديث ابن عباس حيث بين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلل لحيته. وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ثم ورد تركه بعدم تخليله لها في بعض أحيانه؛ دل ذلك على ندبه وأنه ليس واجباً.
…
والله أعلم.
المبحث السابع:
الاطلاء بالنُّورة
.
إن الإسلام دين الطهارة والنظافة البدنية والمعنوية، فحث على نظافة الباطن من الشرك والنفاق والغل والحسد، واعتنى بنظافة الظاهر، فرغب في حلق العانة وإزالة الشعر عنها، حتى لا تجتمع الأوساخ والأقذار، وحث على نتف الإبط، حتى لا ينبعث من المؤمن روائح كريهة ينفر منها جلساؤه. وأمر بالغسل بعد كل جنابة، كما نبه على الغسل لكل جمعة، وغير ذلك كثير.
(1) نيل الأوطار 1/186.
ومن مظاهر العناية بالبشرة وإزالة الأوساخ عنها؛ الاطلاء بالنورة، وهي نوع من الحجر الذي يحرق ويسوى منه الكلس، ويحلق به شعر العانة (1) وسائر الجسد.
أما شعر العانة فلم تختلف الأحاديث في حلقه، وأما سائر الجسد فقد تعارضت فيه الأحاديث، فجاء بعضها قاضياً بجواز ذلك واستحبابه، وبعضها جاء قاضياً بنفي استحباب ذلك.
ومما يدل على استحباب التنور حديث أم سلمة –رضي الله عنها (أن النبي –صلى الله عليه وسلم كان إذا اطلى بدأ بعورته فطلاها بالنورة، وسائر جسده أهله) .
ومما يدل على عدم استحبابه وعدم فعله حديث قتادة:
(أن النبي –صلى الله عليه وسلم لم يتنور، ولا أبو بكر، وعمر، ولا عثمان) .
فلزم كذلك البحث في هذه الأحاديث صحة وسقماً، ومعنى وحكماً؛ لنرى بأيهما نأخذ، وكيف ندرأ هذا التعارض.
ذكر الحديث الذي يدل على التنور:
عن أم سلمة –رضي الله عنها: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اطًّلَى بَدَأ بِعَوْرَتِهِ فَطَلاهَا بِالنُّورَةِ، وَسَائِرَ جَسَدِهِ أهْلُهُ)(2) .
الحديث الذي يفيد نفي التنور:
عن قتادة: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَنَوَّرْ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَر وَلَا عُثْمَان)(3) .
وجه التعارض:
(1) لسان العرب 5/244، والكلس: شبه الجص. لسان العرب 6/197.
(2)
أخرجه ابن ماجة (2/1234، 1235) ، والبيهقي (1/152) ، والطيالسي ص 224، عبد الرزاق (1/292)، قال في الزوائد: هذا حديث رجاله ثقات، وهو منقطع (مصباح الزجاجة 3/183) ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4/176)، قلت: والحديث له شواهد من حديث أبي معشر وابن عمر ولا يخلو كل منها من علة فلا يعتضد بها.
(3)
أخرجه أبو داود في المراسيل ص228، والبيهقي (1/152) ، وابن أبي شيبة (1/187)، قال ابن كثير: منقطع (السنن الكبرى 1/152)، قلت: رجاله ثقات إلا أنه مرسل، والموصول منه ضعيف؛ فالحديث ضعيف.
إن من يقرأ هذه الأحاديث يجد حديث أم سلمة –رضي الله عنها يفيد أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم كان يتنور، ويجد حديث قتادة ينفي عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم التنور، وهذان معنيان مختلفان متعارضان، وقد وجه العلماء هذا الاختلاف ودرؤوا التعارض.
أقوال العلماء في درء التعارض:
1-
قال السيوطي بعد ذكر أحاديث عدم التنور:
قلت: فرجع الأمر إلى أنه حديث واحد وهو:
أولاً: ضعيف.
ثانياً: معارض بالأحاديث السابقة، وهي أقوى منه سنداً ومتناً، وأكثر عدداً.
وثالثاً: أن تلك مثبتة، وهذا نافٍ، والقاعدة الأصولية عند التعارض: تقديم المثبت على النافي خصوصاً أن التي روت الإثبات باشرت الواقعة وهي من أمهات المؤمنين، وهي أجدر بهذه القضية، فإنها مما يفعل في الخلوة غالباً، لا بين أظهر الناس، وكلاهما من وجوه الترجيحات، فهذه خمسة أجوبة.
وسادس: وهو أنه على حسب اختلاف الأوقات، فتارة كان يتنور، وتارة كان يحلق ولا يتنور.
وقد روي مثل هذا الاختلاف عن ابن عمر، فروي عنه أنه كان يتنور، وأخرج الطبراني في الكبير بسند رجاله موثوقون عن مسكين بن عبد العزيز عن أبيه قال: دخلت على عبد الله بن عمر وجاريته تحلق عنه الشعر، فقال: إن النورة ترق الجلد.
فالجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه فعل الأمرين معاً، هذا في أوقات وهذا في أوقات، نعم ثبت عن عمر أنه كان يكره التنور ويعلله بأنه من النعيم.
قال سعيد بن منصور: حدثنا حبان بن علي عن محمد بن قيس الأسدي عن رجل قال: كان عمر بن الخطاب يستطيب بالحديد فقيل له: ألا تنور؟! قال: إنها من النعيم، وإنا نكرهها.