الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني:
المستحاضة ترد إلى العادة أو إلى التمييز
.
وفي هذا الباب مسألة تحير فيها كثير من العلماء فضلا عن الطلبة الباحثين، فجاءت أحكام متشعبة، وتعددت المسائل بما لم يتفق الفقهاء فيها على حكم، فأصبح نيل الجواب على هذه المسألة عسيرا جدا، بل لا سبيل لمعرفة جواب صحيح إلا بالنظر في سبب هذا الخلاف ودراسته والوقوف على آراء العلماء المجتهدين الذين جمعوا الأحاديث في هذه المسألة ودرسوها، وعرفوا وجه دلالتها، فنفوا التعارض عنها، وجمعوا بين مختلفها، فأزالوا إشكالها، فهي تبدو للقارئ متعارضة مختلفة، فمنها ما يقضي بأن الواجب على المستحاضة الرجوع إلى عادتها إذا زاد الدم عن مدة الحيض المعتادة، ومنها ما يقضي بأن الواجب على المستحاضة الرجوع إلى العمل بصفة الدم.
فأما ما يقضي بالرجوع إلى العادة فأحاديث، منها:
ما ورد عن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغسلي وصلي.
وأما ما يقضي بالرجوع إلى العمل بصفة الدم فحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي".
ذكر ما استدل به على أن المستحاضة إذا كانت لها أيام معروفة ردت إلى أيامها:
عن عائشة: "أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فَقَالَ لَا إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي"(1) .
ذكر ما استدل به على أن المستحاضة ترد إلى التمييز:
عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي –صلى الله عليه وسلم: "
إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي" (2) .
وجه التعارض:
إن من يقرأ حديث فاطمة بنت أبي حبيش وفيه "دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي" يجد أن هذا الحديث عدَّ أيام الحيض المعتادة ولم يراع تميز الدم ولونه. فعليه إذا انتهت أيام الحيض المعتادة اغتسلت وصلت، سواء كان الدم متغيراً أم كان على حاله.
أما حديث فاطمة الآخر وفيه "إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي"، فمن يقرأه يجده راعى تغير الدم فجعله هو المميز بين الحيض والاستحاضة، ولم يراع أيام الحيض المعتادة.
وهذان معنيان متضادان مختلفان، نحتاج إلى توفيق بينهما، وللعلماء في ذلك أقوال.
أقوال العلماء في درء التعارض:
(1) أخرجه البخاري (1/425، 420، 409) ، ومسلم (3/17، 26) ، وأبو داود (1/74) ، والترمذي (1/217) ، والنسائي (1/117) ، وابن ماجة (1/115، 116) ، والدارمي (1/199) ، ومالك (1/61) ، وأحمد (6/204، 262) .
(2)
أخرجه أبو داود (1/82، 57) ، والنسائي (1/85، 123) ، والحاكم (1/174) ، وابن حبان (2/318) ، والدارقطني (1/206، 207) ، والبيهقي (1/325)، قال الألباني: حسن (إرواء الغليل 1/224)، قلت: والحديث حسن، وله شواهد عن ابن عباس وأبي أمامة الباهلي.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة اختلافاً كبيراً، وذلك لاختلاف الأحاديث فيها، فأخذ فريق بأحاديث العادة وجعلوها أصلا، وأخذ فريق بأحاديث التمييز وجعلوها أصلا، وفرعوا في المسألة تفاريع ليس هذا محلها، وإنما أذكر هنا مذهب كل من استند على هذه الأحاديث التي أسلفناها، وأعرض عن غيرها مما استند فيها على الرأي، أو حدت حدود لم تكن في كتاب ولا سنة.
1-
ذهب الحنفية إلى اعتبار العادة، ولم يعتبروا التمييز، إلا أنهم حدوا العادة بعشرة أيام، فلو أن معتادة تحيض عشرة أيام، إن زادت عن ذلك فهو استحاضة، وإن كان دما أسودَ. أما إن كانت معتادة تحيض خمسة أيام وزادت عن ذلك فهو حيض، وإن تميز اللون، حتى تنتهي العشرة أيام، فإن زاد الدم عن عشرة أيام فعادتها حيض، وما زاد استحاضة، أي تكون عادتها خمسة الأيام وما زاد فحيض. (1) والحنفية في تحديدهم الحيض بعشرة أيام قد اعتمدوا على أحاديث منها: عن أنس –رضي الله عنه قال: أدنى الحيض ثلاثة، وأقصاه عشرة (2) ،وفي إسناده الجلد بن أيوب ضعفه الناس.
* عن أبي أمامة –رضي الله عنه عن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: أقل الحيض ثلاث وأكثره عشر. (3) وفيه عبد الملك الكوفي عن العلاء بن كثير لا يدرى من هو (4) .
* عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام"(5) .
(1) ينظر بدائع الصنائع/ للكاساني (1/41) ، وإعلاء السنن/للعثماني (1/247-249) ، ومختصر الطحاوي ص22.
(2)
أخرجه الدارقطني (1/209) .
(3)
رواه الطبراني في الكبير7/138، والأوسط1/189، وفي مسند الشاميين 2/370 و4/317.قال الألباني ضعيف،منكر (سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/600)
(4)
قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (1/116) .
(5)
رواه الدارقطني (1/181) وقال: ابن المنهال مجهول، ومحمد بن أحمد بن أنس ضعيف.
2-
أما المالكية فيعتبرون التمييز، ولو كان بعد الطهر، وذلك إن وجد التمييز، وإن لم يوجد فتحيض خمسة عشر يوماً (1) .
3-
وحكى النووي مذهب الشافعية فقال: "مذهبنا أن العادة إذا انفردت عمل بها، وإذا انفرد التمييز عمل به، وإذا اجتمعا قدم التمييز على الصحيح"(2) .
4-
ومذهب الإمام أحمد كمذهب الشافعي، إلا أنه يقدم العادة إذا اجتمعا. فإذا كانت المستحاضة لها عادة تعرفها، ولم يكن لها تمييز؛ فإنها تجلس العادة بلا نزاع، وإن كان لها تمييز يصلح أن يكون حيضا ولم يكن لها عادة، أو كان لها عادة ونسيتها؛ عملت بالتمييز بلا نزاع. وتارة يختلفان، إما بمداخلة بعض أحدهما في الآخر، أو مطلقاً، فالصحيح من المذهب أنها تجلس العادة، وعليه جماهير الأصحاب، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، وعنه يقدم التمييز، وهو اختيار الخرقي" (3) .
هذا موجز مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة.
وقد جمع بعض العلماء بين الأحاديث بما يوفق بينهما ويعملهما دون إبطال أي منهما.
(1) ينظر مختصر خليل ص 19، 20.
(2)
المجموع شرح المذهب (2/432) .
(3)
الإنصاف/ المرداوي (1/365) بتصرف، وينظر الروض المربع لابن قدامة (1/388-390) .ومنار السبيل 1/59
قال ابن دقيق العيد في شرحه لحديث فاطمة بنت أبي حبيش الدال على العادة "في رواية" وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي، قال:(قوله "فإذا أقبلت" تعليق الحكم بالإقبال والإدبار، فلابد أن يكون معلوماً لها بعلامة تعرفها، فإن كانت مميزة وردت إلى التمييز، فإقبالها بدء الدم الأسود، وإدبارها: إدبار ما هو بصفة الحيض، وإن كانت معتادة وردت إلى العادة، فإقبالها: وجود الدم في أول أيام العادة، وإدبارها: انقضاء أيام العادة" (1) .
وعلق الصنعاني على رواية أبي داود "دم الحيض أسود يعرف" بما يزيل التعارض والإشكال فقال: اعلم أن من جمع الرواية للصفة والعادة إشارة إلى أنهما لا يكادان يفترقان، وأن الصفة لا تكون إلا في عادة الحيض، وأنها كلما وجدت وجد الحيض، وكلما فقدت فقد، وأن التعليل على الصفة في الحيض والاستحاضة، لكنه إنما احتيج إلى بيانها في الاستحاضة لأنها محل إشكال، وأن استمرار الدم مع فقد الصفة بمنزلة أيام النقاء ممن ليست بها استحاضة (2) .
وجمع الخطابي بين الأحاديث بأن المصير إلى العادة إذا لم يتميز الدم، فإن تميز فالمصير إليه، واستدل بما رواه أبو داود "إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود..الحديث..".
(1) العدة حاشية الصنعاني على إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/477، 278) .وأنو إلى أن المقصود المستحاضة التي يطول بها نزول الدم لا الحائض التي لا ينتابها استحاضة فإنها تعتبر الحيض بأول علاماته سواء كان كدرة أو خيطا أو دما، وتبقى في حكم الحيض حتى ينقطع وترى القصة البيضاء.
(2)
العدة/ الصنعاني (1/479) .
قال: فهذا يبين لك أن الدم إذا تميز كان الحكم له، وإن كانت لها أيام معلومة، واعتبار الشيء بذاته وبخاص صفاته أولى من اعتباره بغيره من الأشياء الخارجة عنه، فإذا عدمت التمييز (1) فالاعتبار للأيام. على معنى حديث أم سلمة، أي حديث عائشة المتقدم عند البخاري. (2)
قال الشوكاني: "والأحاديث الصحيحة منها ما يقضي بأن الواجب عليها الرجوع إلى العمل بصفة الدم، ومنها ما يقضي باعتبار العادة، ويمكن الجمع بأن المراد بقوله: "أقبلت حيضتك"الحيضة التي تتميز بصفة الدم، أو يكون المراد بقوله:"إذا أقبلت الحيضة"في حق المعتادة والتمييز بصفة الدم في حق غيرها، وينبغي أن يعلم أن معرفة إقبال الحيضة قد يكون بمعرفة العادة، وقد يكون بمعرفة دم الحيض وقد يكون بمجموع الأمرين
…
".
(1) يكون التمييز ياللون وثخونة الدم والريح فإن دم الحيض له نتنبخلاف دم الاستحاضة فريحه ريح الدم المسفوح وقد جاء ذكر معرفة الحيضة بريح الدم فيما رواه الطبراني في الكبير 11/208 عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن للحائض دفعات ولدم الحيض ريح ليس لغيره فإذا ذهب قرء الحيض فلتغتسل إحداكن ثم لتغسل عنها الدم) لكنه ضعيف لأجل حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس متروك (الضعفاء والمتروكين للنسائي 1/33)
(2)
معالم السنن (1/182) .