الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
أن حديث جابر إما أن يكون بعد ورود حديث أبي ثعلبة فيكونون على علم بالأمر بالغسل فهم يغسلونها ويستعملونها ولا يعاب عليهم الاستعمال، وهو بيان للاستمرار في الإباحة.
وإما أن يكون قبل وروده فيكون حديث أبي ثعلبة بياناً لهم ليغسلوها قبل استعمالها حيث كانوا لا يعلمون ذلك.
3-
أن حديث عمران بن حصين لا دلالة فيه -عندي- على طهارة آنية المشركين، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ منها مباشرة بل أفرغ منها وتزايد الماء حتى بلغ حد كفاية الجميع وملء أسقيتهم فهو لا ريب أكثر من القلتين بكثير مما دعا المرأة للعجب واتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر، وقد حققنا في الباب الأول أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، وإنما سقته وعرضته لاستدلال الفقهاء به.
والله أعلم.
الباب الثالث.
باب الوضوء
.
وفيه مباحث:
الأول: هل أكل ما مست النار من نواقض الوضوء.
الثاني: هل يتوضأ من مس ذكره أم لا؟
الثالث: هل النوم من نواقض الوضوء.
الرابع: التسمية قبل الوضوء.
الخامس: هل يجب المضمضة والاستنشاق والاستنثار في الوضوء.
السادس: حكم تخليل اللحية الكثة في الوضوء.
السابع: الاطلاء بالنورة.
الثامن: التمندل (استعمال المنديل بعد الوضوء) .
المبحث الأول:
هل أكل ما مسَّت النار من نواقض الوضوء
.
لما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلون كل ما سمعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحكون ما شاهدوا منه، فقد حفلت السيرة النبوية بحياته صلى الله عليه وسلم وهديه في كل الأمور، العبادات والمعاملات والأخلاق وغيرها، كل ذلك ينقل بدقة وحرص شديد.
ومما لا ريب فيه أنت الله شرع أموراً ثم نسخها وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام ثم غيرها، وورد عنه إطلاق ثم تقييد، وإجمال ثم تفصيل.
ولم يكن أهل الحديث ليدعوا شيئاً يفوتهم بل كل ذلك مدون في كتبهم، فلا يخلو إذاً ما كتبوه وما نقلوه من تعارض، لأن المصنفين قد لا يبينون المجمل من المفصل أو المطلق من المقيد أو الناسخ من المنسوخ.
فيظن القارئ لكتب السنة أن هناك تعارضاً في هذه الأحاديث التي دونت ونقلت إلينا، ولذا كتب بعض العلماء مصنفات مستقلة يجمع فيها ذلك درءا للتعارض.
وكان مما تعارض في كتب السنة أحاديث فيما مسته النار، فبعضها يستدل به على وجوب الوضوء مما مسته النار وأن الأكل منه ناقض للوضوء وبعضها يستدل به على عدم وجوبه وعدم نقضه للوضوء.
فمما يبين وجوب الوضوء قوله صلى الله عليه وسلم: (توضئوا مما مست النار) .
ومما يبين عدم وجوبه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم (أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ) .
ذكر ما يدل على وجوب الوضوء مما مست النار:
عن عبيد الله بن إبراهيم بن قارض أَنَّهُ وَجَدَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ عَلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: إِنَّمَا أَتَوَضَّأُ مِنْ أَثْوَارِ أَقِطٍ (1) أَكَلْتُهَا لأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ"(2) .
ذكر ما يدل على ترك الوضوء مما مست النار:
(1) أثوار أقط: الأثوار جمع ثور، وهي قطعة من الأقط، وهو لبن جامد مستحجر. النهاية 1/228.
(2)
أخرجه مسلم (4/43) ، وأبو داود (1/50) ، والترمذي (1/114، 115) ، والنسائي (1/105) ، وابن ماجة (1/163، 164) ، وابن حبان (2/233) ، والبيهقي (1/156) ، وعبد الرزاق (1/172) ، وابن أبي شيبة (1/87) .
عن ابن عباس –رضي الله عنه:" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"(1) .
وجه التعارض:
إن من يقرأ حديث أبي هريرة (توضئوا مما مست النار) يجده معارضاً لحديث ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ) .
وذلك أن حديث أبي هريرة يفيد مخالفة رسول الله –صلى الله عليه وسلم بفعله لهذا الأمر لأنه أكل ما مسته النار ثم صلى ولم يتوضأ.
أقوال العلماء في درء التعارض:
1-
ذهب بعض أهل العلم إلى الأخذ بأحاديث الوضوء مما مست النار، وممن ذهب هذا المذهب ابن عمر، وأبو طلحة، وأنس بن مالك، وأبو موسى، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وأبو غزة الهذلي، وعمر بن عبد العزيز، وأبو مجلز لاحق بن حميد، وأبو قلابة، ويحيى بن يعمر، والحسن البصري، والزهري (2) .
2-
ذهب أكثر أهل العلم وفقهاء الأمصار إلى ترك الوضوء مما مست النار، ورأوه آخر الأمرين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وممن ذهب هذا المذهب، الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وعامر بن ربيعة، وأبي بن كعب، وأبو أمامة، وأبو الدرداء، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، والقاسم بن محمد، ومن معهما من فقهاء أهل المدينة، والفقهاء الأربعة، وغيرهم (3) .
وقد بين الطحاوي وجه درء تعارض هذه الأحاديث في شرح معاني الآثار بحيث ذكر أحاديث الإيجاب بأسانيدها، وذكر أحاديث ترك الوضوء بأسانيدها ثم قال:
(1) أخرجه البخاري (1/310) ، ومسلم (4/44) ، وأبو داود (1/48، 49) ، والنسائي (1/108) ، وابن ماجة (1/164) ، ومالك (1/37) ، وابن خزيمة (1/26) ، وابن حبان (2/229) ، والبيهقي (1/153) ، وعبد الرزاق (1/166) ، وابن أبي شيبة (1/83) .
(2)
ينظر الاعتبار للحازمي 1/79، 80.
(3)
ينظر الاعتبار للحازمي 1/80.
" قد يجوز أن يكون ما أمر به من الوضوء في الآثار الأول هو وضوء الصلاة، ويجوز أن يكون هو غسل اليد لا وضوء الصلاة، إلا أنه قد ثبت عنه بما رويناه أنه توضأ، وأنه لم يتوضأ، فأردنا أن نعلم ما الآخر من ذلك.
فإذا ابن أبي داود وأبو أمية وأبو زرعة الدمشقي قد حدثونا، قالوا: حدثنا علي ابن عباس قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار" (1) .
ثم ذكر ذلك من فعل أبي هريرة –رضي الله عنه، ثم قال: "فثبت بما ذكرنا أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ترك الوضوء مما غيرت النار، وأن ما خالف ذلك فقد نسخ بالفعل الثاني.
هذا إن كان ما أمر به من الوضوء يريد وضوء الصلاة، وإن كان لا يريد وضوء الصلاة فلم يثبت بالحديث الأول أن أكل ما غيرت النار حدث.
فثبت بما ذكرنا بتصحيح هذه الآثار أن أكل ما مست النار ليس بحدث.
وقد روى ذلك جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً".
وذكر بأسانيده إلى جابر، وأبي بكر الصديق، وعمر، وابن مسعود، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، وأبي أمامة رضي الله عنهم أجمعين.
قال أبو جعفر: فهؤلاء الجلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون في أكل ما غيرت النار وضوءاً.
وقد روي عن آخرين منهم مثل ذلك، ممن قد روي عنه عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالوضوء مما غيرت النار.
ثم ساق بأسانيده إلى عدد من الصحابة ما يثبت ذلك منهم أنس بن مالك، وأبو طلحة، وأبي، وأبو أيوب الأنصاري، رضوان الله عليهم أجمعين.
(1) وهذا سند رجاله ثقات غير علي بن عباس فإن كان هو علي بن عبد الله ابن عباس، فهو ثقة عابد، وإن كان علي بن عابس فهو ضعيف، وقد ترجم لهما السند هي في كشف الأستار عن رجال معاني الآثار ص 77، والحديث صححه النووي في شرح مسلم 4/43.
ثم بين بعد توجيهه للأحاديث من حيث الآثار توجيهه من حيث النظر، فقال: فإنا
قد رأينا هذه الأشياء التي قد اختلف في أكلها أنه ينقض الوضوء أم لا إذا مستها النار؟ وقد أجمع أن أكلها قبل مماسة النار إياها لا ينقض الوضوء فأردنا أن ننظر، هل للنار حكم يجب في الأشياء إذا مستها، فينتقل به حكمها إليها، فرأينا الماء القراح طاهراً تؤدى به الفروض ثم رأيناه إذا سخن فصار مما قد مسته النار أن حكمه في طهارته على ما كان عليه قبل مماسته النار إياه، وأن النار لم تحدث فيه حكماً ينتقل به حكمه إلى غير ما كان عليه في البدء.
فلما كان مما وصفنا كذلك، كان في النظر أن الطعام الطاهر الذي لا يكون أكله قبل أن تمسه النار حدثا، إذا مسته النار لا تنقله عن حاله ولا تغير حكمه، ويكون حكمه بعد مسيس النار إياه كحكمه قبل ذلك قياساً ونظراً على ما بينا (1) .
كما بين الحازمي وجه درء هذا التعارض حيث قال: ويمكن أن يقال:" إن الوضوء مما مست النار اختلف فيه وتكافأت الروايات عن النبي –صلى الله عليه وسلم في ذلك في الصحة والشهرة، وتكلمت الأئمة في الأول منه والآخر والناسخ والمنسوخ فأكثرهم رأوه منسوخاً.
وذهب بعضهم إلى أن المنسوخ هو ترك الوضوء مما مست النار، والناسخ الأمر بالوضوء منه، وإليه ذهب الزهري وجماعة، وتمسكوا في ذلك بأحاديث منها: وذكر بسنده:
1-
عن جبيرة بن عمرو عن سلمة بن سلامة بن وقش صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما دخلا وليمة وسلمة على وضوء فأكلوا ثم خرجوا فتوضأ سلمة، فقال له جبيرة: ألم تكن على وضوء؟ قال: بلى! ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا من دعوة دعونا لها رسول الله –صلى الله عليه وسلم وهو على وضوء فأكل ثم توضأ فقلت له: ألم تكن على وضوء يا رسول الله؟ قال: بلى! ولكن الأمر يحدث وهذا مما حدث.
(1) شرح معاني الآثار 1/62-70 بتصرف.
2-
عن عمرو بن أمية أنه رأى رسول الله –صلى الله عليه وسلم أكل عضواً فصلى ولم يتوضأ، فقلنا له: فما بعد هذا؟ فقال: إنه يكون أمر ويكون بعده الأمر.
قال أبو بكر: دلنا ما ذكرنا على أن الأمر بالوضوء كان بعد الرخصة، فحديث أبي هريرة يدل على الأمر بالوضوء، وحديث ابن عباس ومن تابعه يدل على الرخصة، وحديث ابن عباس بعد حديث أبي هريرة على ما بينه الشافعي حيث قال: حديث ابن عباس أدل الأحاديث على أن الوضوء مما مست النار منسوخ، وذلك أن صحبة ابن عباس لرسول الله –صلى الله عليه وسلم متأخرة، إنما مات رسول الله –صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربع عشرة سنة، وقد قيل ست عشرة سنة، وقيل ثلاث عشرة سنة (1) .
قال أبو بكر: ثم نظرنا هل نجد حديثاً يدل على الرخصة، وهو قبل حديث أبي هريرة؛ فوجدنا حديثاً يدل عليه وهو:"وذكر بسنده":
"عن بشير بن يسار مولى بني حارث، أن سويد بن النعمان أخبره أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء –وهي وادي خيبر- فنزل للعصر، ثم دعا بالأزواد فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل ثم صلى ولم يتوضأ.
قال يحيى: ثري: بل بالماء.
هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في الصحيح (2) ، عن عبد الله بن يوسف، والقعنبي عن مالك (3) .
ألا ترى أن حديث سويد بن النعمان هذا كان قبل خيبر، وإنما قدم أبو هريرة بعد فتح خيبر على ما صرحت به التواريخ، فهذا يدلك على أن الرخصة كانت غير مرة وهو طريق الجمع بين الأخبار وتصحيحها" (4) .
(1) الاعتبار ص 82-84. بتصرف
(2)
1/312.
(3)
1/37.
(4)
الاعتبار ص 85.
ثم ذكر خبرا آخر يدل على أن الرخصة كانت غير مرة، وهو حديث المغيرة بن شعبة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل طعاماً وأقيمت الصلاة فقام، وقد كان توضأ قبل ذلك، فأتيته بماء ليتوضأ، فانتهرني وقال لي: وراءك، فساءني ذلك ثم صلى، فشكوت ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله إن المغيرة بن شعبة قد شق عليه انتهارك إياه خشي أن يكون في نفسك عليه شيء، فقال: ليس في نفسي عليه شيء إلا خير، ولكنه أتاني بماء لأتوضأ، وإنما أكلت طعاماً ولو فعلت ذلك لفعل الناس ذلك من بعدي) .
ومن ثم حكى ما ذهب إليه الدارمي، وهو ترجيح ما ذهب إليه الخلفاء الراشدون والأعلام من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم فأخذ بإجماعهم في الرخصة فيه.
قال أبو بكر:" وقد ذهب بعض من رام الجمع بين هذه الأحاديث إلى أن الأمر بالوضوء منه محمول على الغسل للتنظيف كما أشار إليه الشافعي، ورجح أخبار ترك الوضوء مما مست النار بما روي من اجتماع الخلفاء الراشدين وأعلام الصحابة على ترك الوضوء منه، كما قاله الدارمي، غير أن أكثر الناس يطلقون القول بأن الوضوء مما مست النار منسوخ، ثم اجتماع الخلفاء الراشدين وإجماع الأمصار بعدهم يدل على صحة النسخ. والله أعلم (1) .
فحاصل ما أجاب به العلماء عن أحاديث الوضوء جوابان:
1-
أنه منسوخ بحديث جابر –رضي الله عنه قال كان آخر الأمرين من رسول الله –صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار. وهو حديث صحيح.
2-
أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين. (2)
زاد ابن حجر ثالثاً حديث وضوء النبي –صلى الله عليه وسلم بعد الأكل بأنه يحتمل أن يكون وضوؤه لصلاة الظهر كان عن حدث لا بسبب الأكل من الشاة. (3)
قلت:
وهذا مردود بأنه ورد الأمر بالوضوء قولاً، ولو اقتصر الأمر على الفعل لتطرق الاحتمال، أما مع وجود القول وهو حديث أبي هريرة فكيف يتطرق الاحتمال!!.
(1) الاعتبار ص 86.
(2)
شرح النووي 4/43.
(3)
فتح الباري 1/311.
وممن قال بالنسخ ابن الجوزي في أخبار أهل الرسوخ حيث اختار حديث جابر (آخر الأمرين من رسول الله –صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) دليلاً على النسخ.
قال المعلق على الكتاب أبو عبد الرحمن الجزائري:" بل لا دليل فيه على النسخ وبيان ذلك من أوجه:
الأول: أن الجمع ممكن فيحمل حديث أبي هريرة على الاستحباب، وحديث جابر لبيان الجواز، وإليه مال الخطابي في (المعالم) وابن تيمية في المجموع (1) وغيرهما من المحققين. ومن المقرر عند علماء الأصول:" أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع" وقد أمكن والحمد لله.
الثاني: أن القول بالنسخ مجرد دعوى لأمرين:
-الأول: أنه لا يعلم المتقدم من المتأخر من الحديثين، حتى يعلم الناسخ من المنسوخ.
-الثاني: أن الفعل لا ينهض على نسخ القول، فحديث أبي هريرة قولي وحديث جابر فعلي يقوى هذا الوجه.
-الثالث: وهو أن حديث جابر يحكي واقعة معينة لا عموم لها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله: وأما جابر فإنما نقل عن النبي –صلى الله عليه وسلم: أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، وهذا نقل لفعل لا لقول، فإذا شاهدوه قد أكل لحم غنم ثم صلى ولم يتوضأ بعد أن كان يتوضأ منه صح أن يقال الترك آخر الأمرين، والترك العام لا يحاط به إلا بدوام معاشرته، وليس في حديث جابر ما يدل على ذلك بل المنقول عنه الترك في قضية معينة". (2)
قلت:
ولهذا ذهب ابن القيم إلى أن حديث جابر بهذا اللفظ مختصر من حديث له يقول فيه: "أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم دعي إلى طعام، فأكل ثم حضرت الظهر فقام وتوضأ وصلى، ثم أكل فحضرت العصر فقام وصلى ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين من رسول الله –صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار" فالحديث له قصة، فبعض الرواة اقتصر على موضع الحجة، فحذف القصة وبعضهم ذكرها، وجابر روى الحديث بقصته. (3)
(1)(21/342)
(2)
مجموع الفتاوى 21/263.
(3)
ينظر تهذيب سنن أبي داود 1/138
والذي تميل إليه النفس أن خبر أبي هريرة ورد في الوضوء للصلاة وليس المراد غسل اليدين، وأنه منسوخ، وأن خبر ابن عباس ناسخ لهذا الحديث.
وذلك لعدة أمور تتبين من مناقشة الأقوال السابقة:
أولاً: قول الطحاوي في المراد بالوضوء:
"يجوز أن يكون هو غسل اليد لا وضوء الصلاة".
قلت: هو مردود بحديث جبير بن محمود عن سلمة بن سلامة بن وقش صاحب رسول الله –صلى الله عليه وسلم أنهما دخلا وليمة
…
الحديث، وفيه:(ولكني رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم وخرجنا من دعوة دعونا لها رسول الله –صلى الله عليه وسلم وهو على وضوء، فأكل ثم توضأ فقلت له: ألم تكن على وضوء يا رسول الله، قال: بلى! ولكن الأمر يحدث وهذا مما حدث)(1) .
فالذي يفهم من هذا الحديث استنكار سلمة –رضي الله عنه إعادة الوضوء حيث عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم متوضئاً، ولو كان رآه غسل يديه فقط لما استنكر ذلك حيث لا علاقة لوضوئه السابق بغسل يديه، فإن غسل اليدين لتنظيفهما وإزالة الدسم منهما وارد عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم ومعهود منه أحياناً (2) ، ولكن سلمة –رضي الله عنه سأل عن الوضوء السابق هل انتقض بأكل ما مسته النار حتى دعا ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم لإحداث وضوء آخر.
وهذا الذي فهمه سلمة –رضي الله عنه وفهمناه من حديثه فهمه الصحابة رضوان الله عليهم حينما تكلموا عن هذه المسألة، فإن بعض من روى أحاديث ترك الوضوء سواء كانت مرفوعة أم موقوفة نفى الوضوء ولم ينف غسل اليدين والمضمضة، ومن أمثلة ذلك:
1-
حديث سويد بن النعمان "أنه خرج مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كان بالصهباء " وهي أدنى خيبر" نزل فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد فلم يؤت إلا بالسويق فأمر به فثري، فأكل فأكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا ثم صلى ولم يتوضأ". (3)
(1) الحديث تقدم ص
(3)
أخرجه بهذا اللفظ الطحاوي وأصله مخرج في الصحيحين.
فهذا دليل على أنهم –رضوان الله عليهم- نفوا الوضوء مع أنه حصل منه –صلى الله عليه وسلم المضمضة، والمعهود أن المضمضة تكون باليد، فتبين أنه مع مسه الماء بيده ومضمضته إلا أنه لم يسم متوضئاً.
2-
قول ابن عباس لأبي هريرة –رضي الله عنهما حينما روى حديث:"توضئوا مما مست النار".
قال ابن عباس –رضي الله عنه: يا أبا هريرة، فإنا ندهن بالدهن وقد سخن بالنار، ونتوضأ بالماء وقد سخن بالنار، فقال أبو هريرة: يا ابن أخي إذا سمعت الحديث من رسول الله –صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال. (1)
فلو كان المقصود غسل اليدين لفهم ذلك أبو هريرة وهو الراوي للحديث ولم يعارض ابن عباس، فإن خبره ينص على وضوء الصلاة، وكذلك لو كان الأمر مقصوراً على غسل اليدين لما حاج ابن عباس أبا هريرة بالوضوء بالماء المسخن بالنار.
ثانياً: قوله: "أنه لا يعلم المتقدم من المتأخر من الحديثين، حتى يعلم الناسخ من المنسوخ" مردود بأن ابن عباس رضي الله عنه حكى الحديث عن مشاهدة لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دل على ذلك ما رواه الطحاوي بسنده عن ابن عباس قال: " عجبت من ناس يتوضئون مما مست النار، والله لقد جمع رسول الله –صلى الله عليه وسلم عليه ثيابه، ثم أتي بثريد، فأكل منها، ثم قام فخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ". (2)
فهذا ابن عباس يحكي حالاً وصفة، ولم يكتفِ بالشاهد لفتواه في ذلك دلالة على رؤياه، ويؤيد هذا ما أخرجه عبد الرزاق حيث صرح ابن عباس بالرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) رواه الطحاوي بسنده 1/63.
(2)
شرح معاني الآثار 1/64، ورواه مسلم 4/47.
"كان ابن عباس يوم جمعة يبيت في بيت خالته ميمونة فيحدث، فقال له رجل: أخبرني مما مست النار، فقال ابن عباس: لا أخبرك إلا ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو وأصحابه في بيته فجاءه المؤذن فقام إلى الصلاة حتى إذا كان بالباب لقي بصحفة فيها خبر ولحم فرجع بأصحابه فأكل فأكلوا، ثم رجع إلى الصلاة ولم يتوضأ"(1) .
فابن عباس كان ابن ثلاث عشرة سنة أو ما يقاربها حين توفي رسول الله –صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على تأخر روايته.
وأبو هريرة قد روى الحديث وعمل به، ثم روي عنه أنه ترك العمل به، روى ذلك الطحاوي بسنده:
(عن أبي هريرة –رضي الله عنه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم أكل ثور أقط، فتوضأ ثم أكل بعده كتفاً فصلى ولم يتوضأ)(2) .
ورجال إسناد هذا الحديث ثقات غير عبد العزيز بن مسلم فإنه مقبول، وسهيل بن أبي صالح فإنه صدوق تغير بآخرة. (3)
فهذا إقرار من أبي هريرة بأن الأمر بالوضوء سابق على ترك، ويشهد لهذا ما أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي زياد قال:(شهدت ابن عباس وأبا هريرة وهم ينتظرون جديا لهم في التنور، فقال ابن عباس: أخرجوه لنا لا يفتنا في الصلاة، فأخرجوه فأكلوا منه، ثم أن أبا هريرة توضأ فقال له ابن عباس: أكلنا رجسا؟ قال: فقال أبو هريرة: أنت خير مني وأعلم ثم صلوا) . (4)
فهذا إقرار من أبي هريرة بعلم ابن عباس في هذه المسألة وغيرها، وبهذا يتبين أن حديث أبي هريرة هو المتقدم وحديث ابن عباس هو المتأخر.
(1) المصنف 1/167 عن ابن جريج قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن خاله.
(2)
شرح معاني الآثارر1/67.
(3)
كشف الأستار عن معاني الآثار- السندهي ص 45.
(4)
المصنف 1/87.
ثالثاً: قوله (أن الفعل لا ينهض على نسخ القول، فحديث أبي هريرة قولي وحديث ابن عباس فعلي) مردود بحديث المغيرة بن شعبة –رضي الله عنه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم أكل طعاماً وأقيمت الصلاة فقام، وقد كان توضأ قبل ذلك، فأتيته بماء ليتوضأ فانتهرني وقال لي: وراءك، فساءني ذلك، ثم صلى، فشكوت ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله إن المغيرة بن شعبة قد شق عليه انتهارك إياه خشي أن يكون في نفسك عليه شيء، فقال: ليس في نفسي عليه شيء إلا خير، ولكنه أتاني بماء لأتوضأ وإنما أكلت طعاماً ولو فعلت ذلك فعل الناس ذلك من بعدي) . (1)
والفعلي لا يقاوم القولي لأن الفعل لا يدل بنفسه على شيء، حيث يجوز أن يكون خاصاً به –صلى الله عليه وسلم وهنا قد انتفى الخصوص حيث لم يفعل ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم خشية أن يفعله الناس وهذه الخشية تدل على أنه قد نسخ الأمر بالوضوء.
وقد يقال أن حديث المغيرة قبل حديث أبي هريرة فيكون منسوخاً، وهذا القول يرد بأن الظاهر غير هذا حيث يتبين من الحديث أن المغيرة قد عهد من الرسول صلى الله عليه وسلم وضوءا مما مست النار لذا أعد له ماءا ليتوضأ به.
رابعاً: قوله "إن حديث جابر يحكي واقعة معينة لا عموم لها" مردود بأن غير جابر حكى ترك الوضوء مما مست النار، كما حكى النسخ أبو هريرة-رضي الله عنه كذلك، وذلك بقوله:"أكل ثور أقط، فتوضأ ثم أكل بعده كتفاً فصلى ولم يتوضأ".
خامساً: حديث ترك الوضوء مما مست النار راجح عدة أمور:
1-
أن الترك قد عمل به الخلفاء الراشدون فيكون آكد.
2-
رجوع كثير ممن قال بالوجوب عن قوله وتركه للوضوء منهم: أبو هريرة، وأنس بن مالك، وأبو طلحة، وأبو أيوب وغيرهم. (2)
(1) رواه الحازمي بسنده في الاعتبار ص 85، 86 وقال: هذا حديث روى عن سويد من غير وجه. وقد تقدم
(2)
روى ذلك عنهم الطحاوي بأسانيده 1/69.