المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: أينجس الماء بورود النجاسة عليه - دفع إيهام تعارض أحاديث الأحكام في كتاب الطهارة

[رقية المحارب]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة:

- ‌منهجي في هذا البحث:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول:معنى التعارض وأسبابه

- ‌معنى التعارض في اللغة:

- ‌التعريف الاصطلاحي:

- ‌شرح تعريف النووي:

- ‌شرح التعريف:

- ‌أسباب التعارض:

- ‌1- قد يقول النبي صلى الله عليه وسلم القول العام يريد به العام، والعام يريد به الخاص

- ‌2- أن يؤدي المخبر عنه الخبر متقصى، والخبر مختصراً:

- ‌3- عدم إدراك الراوي لاختلاف الحال:

- ‌4- بعض الرواة يدرك جواباً لسؤال، ولا يدرك السؤال فيرويه فتخالف روايتُه روايةَ من أدرك السؤال ورواهما جميعاً:

- ‌5- عدم التمكن من معرفة صحيح الحديث من سقيمه، فيعارض الصحيح بالسقيم، والسقيم لا يخلو أن يكون وهماً أو غلطاً أو كذباً أو وضعاً:

- ‌6- عدم فهم النص، وحمله على غير ما عني به:

- ‌المبحث الثاني:معنى الترجيح وأسبابه

- ‌أولاً: معنى الترجيح:

- ‌الترجيح في اللغة:

- ‌الترجيح في الاصطلاح:

- ‌ثانياً: أسباب الترجيح ووجوهه:

- ‌أما ما يعود إلى الراوي فأسباب منها:

- ‌هذا ما يعود إلى الراوي، أما ما يعود إلى الرواية فأسباب الترجيح فيها كثيرة، منها:

- ‌وأما ما يعود إلى المروي فأسباب الترجيح منها:

- ‌وأما ما يعود إلى المروي عنه فأسباب كثيرة منها:

- ‌وأما الترجيحات والأسباب العائدة إلى المتن فمنها:

- ‌المبحث الثالث:المؤلفات السابقة في هذا الموضوع

- ‌الباب الأولباب المياه والنجاسات

- ‌المبحث الأول: أينجس الماء بورود النجاسة عليه

- ‌المبحث الثاني:أيغتسل الرجل أو يتوضأ بفضل المرأة

- ‌المبحث الثالث:سؤر الكلب

- ‌المبحث الرابع:سؤر الهر

- ‌المبحث الخامس:ما جاء في المني

- ‌المبحث السادس:جلود الميتة

- ‌المبحث السابع:هل تستقبل القبلة أو تستدبر بالبول والغائط

- ‌المبحث الثامن:كيف تطهر الأرض من البول

- ‌المبحث التاسع:البول قائماً

- ‌الباب الثاني.وفيه مبحث:آنية الكفار

- ‌الباب الثالث.باب الوضوء

- ‌المبحث الأول:هل أكل ما مسَّت النار من نواقض الوضوء

- ‌المبحث الثاني:هل يتوضأ من مس ذكره أم لا

- ‌المبحث الثالث:هل النوم من نواقض الوضوء أم لا

- ‌المبحث الرابع:التسمية قبل الوضوء

- ‌المبحث الخامس:هل تجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء

- ‌المبحث السادس:حكم تخليل اللحية الكثة في الوضوء

- ‌المبحث السابع:الاطلاء بالنُّورة

- ‌المبحث الثامن:" التمندل " أو استعمال المنديل بعد الو ضوء أو الغسل

- ‌الباب الرابع:باب الغسل

- ‌المبحث الأول: ماذا يجب على الجنب إذا أراد النوم أو الأكل أو المعاودة

- ‌المبحث الثاني:هل يجب الغسل بالتقاء الختانين دون إنزال

- ‌المبحث الثالث:غسل الجمعة

- ‌المبحث الرابع:هل يجب الغسل من تغسيل الميت

- ‌المبحث الخامس:هل يجب دلك الرأس من غسل الجنابة

- ‌المبحث السادس:التستر عند الغسل في الخلوة

- ‌الباب الخامسباب السواك.وفيه مبحث:حكم السواك للصائم

- ‌الباب السادس:باب الحيض والاستحاضة

- ‌المبحث الأول:ما يجوز الاستمتاع به من الحائض

- ‌المبحث الثاني:المستحاضة ترد إلى العادة أو إلى التمييز

- ‌المبحث الثالث:كيف تتطهر المستحاضة للصلاة

- ‌الباب السابع:التيمم.وفيه مبحث:صفة التيمم

- ‌الخاتمة:

الفصل: ‌المبحث الأول: أينجس الماء بورود النجاسة عليه

هذه جملة من كتب مختلف الحديث وكتب الناسخ والمنسوخ ذكرتها ليسهل على الباحث الرجوع للأحاديث التي يرى تعارضها ليجد فيها بغيته.

‌الباب الأول

باب المياه والنجاسات

وفيه مباحث:

‌المبحث الأول: أينجس الماء بورود النجاسة عليه

.

المبحث الثاني: أيغتسل الرجل أو يتوضأ بفضل المرأة.

المبحث الثالث: سؤر الكلب.

المبحث الرابع: سؤر الهر.

المبحث الخامس: ما جاء في المني.

المبحث السادس: جلود الميتة.

المبحث السابع: هل تستقبل القبلة أو تستدبر بالبول أو الغائط.

المبحث الثامن: كيف تطهر الأرض من البول.

المبحث التاسع: البول قائماً.

المبحث الأول:

أينجس الماء بورود النجاسة عليه.

إن القارئ في كتب السنة ليجد أحاديث هذه المبحث تتعارض، فيجد أحاديث تفيد غير مفاد الأحاديث الأخرى، فيشكل عليه الأمر.

فمن الأحاديث المفيدة لطهارة الماء مع ورود النجاسة عليه:

1-

(الماء طهور لا ينجسه شيء) .

2-

(إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) .

ومن الأحاديث المفيدة لنجاسة الماء عند ورود النجاسة عليه:

1-

(لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه.

2-

(إذا استيقظ أحدكم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً) .

3-

(إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار) .

الأحاديث المفيدة لطهارة الماء مع ورود النجاسة عليه:

الحديث الأول:

ص: 28

عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه –قيل يا رسول الله: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ". (1)

الحديث الثاني:

(1) أخرجه الترمذي (1/95) وقال حديث حسن، وأبو داود (1/17،18) ، والنسائي (1/174) ،وابن ماجة (1/173) ، وأحمد (3/15،16، 31) ، والطيالسي ص292،286، والدارقطني (1/30،31) ، والبيهقي (1/257،258) ، وعبد الرزاق (1/78) ، وابن أبي شيبة (1/243) ،،وأبو يعلى (2/476) ، والطحاوي (1/11،12،476)، وصححه البغوي في شرح السنة (2/61) والنووي في المجموع (1/82) وابن الملقن في البدر المنير (315-317) وأحمد شاكر في تحقيقه للمحلى لابن حزم (1/156) والألباني في إرواء الغليل (1/45) . وقال ابن كثير في تحفة الطالب ص 258: في إسناده بعض الاضطراب. والحديث له شواهد من حديث سهل بن سعد وحديث ابن عباس وميمونة وعائشة مرفوعاً وموقوفاً ومن حديث جابر. قلت: وبهذه الشواهد يتقوى الحديث ويثبت، سيما أن ضعفه يسير، والله أعلم.

ص: 29

عن ابن عمر- رضي الله عنه-قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ". (1)

الأحاديث التي مفادها نجاسة الماء بورودها عليه:

الحديث الأول:

عن أبي هريرة-رضي الله عنه أنه سمع -رسول الله صلى الله عليه وسلم-يقول: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ". (2)

الحديث الثاني:

(1) أخرجه الترمذي (1/97) ، وأبو داود (1/17) ، والنسائي (1/46) ، وابن ماجة (1/172، 173) ، والدارمي (1/187) ، وأحمد (2/23)، والحاكم (1/132) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، والدارقطني (1/21،22) ، والبيهقي (1/260،261) ، والشافعي (1/7) ، وابن أبي شيبة (1/246، 247) .وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند (2/26)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1/104) قلت: يتبين أنه حديث صحيح بمجموع طرقه.

(2)

أخرجه البخاري (1/346) ، ومسلم (1/162) ، وأبو داود (1/18) ، والترمذي (1/100) ، والنسائي (1/49،125،197) ، وابن ماجة (1/124) ، والدارمي (1/186) ، وأحمد (2/259، 264، 265، 288، 292، 316، 346، 362، 394، 433، 529، 532) ، وابن خزيمة (1/50) ، وابن حبان (2/274) ، والبيهقي (1/97) ، وأبو حنيفة في جامع المسانيد (1/275، 279) ، وعبد الرزاق (1/89، 90) ، وابن أبي شيبة (1/ 241، 242) ، والبغوي (2/66) .

ص: 30

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"(1) .

الحديث الثالث:

عن أبي هريرة –رضي الله عنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ"(2) .

وجه التعارض:

إن من ينظر في مفاد الأحاديث السابقة يجد أن حديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) يدل على أن الماء لا يتنجس بوقوع شيء نجس فيه سواء كان قليلا أو كثيرا، ولو تغيرت أوصافه أو بعضها.

(1) أخرجه البخاري (1/263) ، ومسلم (1/160، 161) ، وأبو داود (1/25) ، والترمذي (1/36) ، والنسائي (1/99) ، وابن ماجة (1/138، 139) ، والدارمي (1/196) ، ومالك (1/34) ، وأحمد (2/241،253،259،265،،284،348، 382، 395، 403، 455، 465، 471) ، وابن خزيمة (1/52) ، وابن حبان (2/200، و201) ، والدارقطني (1/49) ، والبيهقي (1/45، 46) ، وأبو عوانة (1/262-264) ، والشافعي (1/10، 11) ، والطيالسي ص317عن أبي هريرة، وابن أبي شيبة (1/66) .

(2)

أخرجه مسلم (1/161، 162) ، والبخاري (1/19) بلفظ (إذا شرب) ، والترمذي (1/151) ، والنسائي (1/52، 53، 54،171، 177) ، وابن ماجة (1/120) ، والدارمي (1/188) ، ومالك (1/43) ، وأحمد (2/245،253، 271، 314، 360، 398، 424، 427، 480، 482، 508) ، والحاكم (1/160) ، وابن خزيمة (1/50، 51) ،وابن حبان (2/293، 294) ، والدارقطني (1/33، 66) ، والبيهقي (1/239) ، وأبو عوانة (1/207، 208) ، والشافعي ص7، 8، والبزار (1/145، 146) ، وعبد الرزاق (1/96) ، وابن أبي شيبة (1/304، 305) .

ص: 31

ويجد أن حديث (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) يدل على أن قدر القلتين لا ينجس بملاقاة النجاسة، وكذا ما هو أكثر من ذلك بالأولى.

فهذان الحديثان يدلان على أن الماء الكثير لا يتنجس بورود النجاسة عليه.

كما أن الحديث الثالث (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) يدل على أن الماء الراكد الذي لا يجري يتنجس بورود النجاسة عليه سواء كان قليلا أو كثيرا.

كما أن حديث (إذا استيقظ أحدكم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا) وحديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار) يدلان على أن الماء القليل يتنجس بورود النجاسة عليه.

وللعلماء في حلِّ هذا التعارض مذاهب، أذكر أشهرها:

1-

ذهب جماعة من العلماء إلى الترجيح منهم أبو حنيفة وأبو يوسف والحسن والطحاوي.

فرجحوا الأحاديث المفيدة للنجاسة وأجابوا عن الأحاديث المفيدة للطهارة، فقالوا:

•أما حديث: (الماء طهور لا ينجسه شيء) فالجواب عنه بأن بئر بضاعة في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم كانت ممرا للماء فلم تكن راكدة، وبأن سؤال الصحابة للنبي –صلى الله عليه وسلم لم يكن والنجاسة في البئر، وإنما بعد إخراجها منها، فأجابه النبي –صلى الله عليه وسلم على أنها لا تبقى نجسة إذا زالت النجاسة منها، لا أنه يريد أنها غير نجسة في حال كون النجاسة فيها.

• أما حديث (القلتين) فأجابوا عنه بأن هاتين القلتين لم يبين لنا مقدارها، فقد يجوز أن يكون مقدارها قلتين من قلال هجر، ويحتمل أن يكون أُريد بهما قلتا الرجل أي قامته.

ولو كان هذا القدر لا ينجس فإنه يبقى طاهراً وإن غيرت النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه على ظاهر الحديث ولا حجة في حديث (الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه) لأنه منقطع. (1)

وهم بهذا قد درؤا تعارض هذه الأحاديث.

قلت: في إجابتهم وترجيحهم نظر لعدة أمور:

(1) ينظر شرح معاني الآثار للطحاوي 1/11-18.

ص: 32

1-

أنه لا يسار إلى الترجيح وقد أمكن الجمع كما سيأتي.

2-

إجابتهم عن حديث بئر بضاعة بأنه كان ممراً للماء مردود بما ورد في سنن أبي داود قَالَ:وَسَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ سَأَلْتُ قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا قَالَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ إِلَى الْعَانَةِ. قُلْتُ فَإِذَا نَقَصَ قَالَ دُونَ الْعَوْرَةِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَقَدَّرْتُ أَنَا بِئْرَ بُضَاعَةَ بِرِدَائِي مَدَدْتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ وَسَأَلْتُ الذي فَتَحَ لي بَابَ الْبُسْتَانِ فَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ قَالَ لَا. وَرَأَيْتُ فِيهَا مَاءً مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ (1) . فهذا أبو داود يسأل هل غير بناؤها فيجاب بأنه لم يتغير. فقولهم أنها "اختلفت ما فيها مردود.

كما أن إجابتهم بأن سؤال الصحابة لم يكن والنجاسة فيها؛ وجواب النبي –صلى الله عليه وسلم كان بعد أن أخرجت النجاسة فهذا تكلف في التأويل، ولو كان الأمر كذلك-أي بعد أن أخرجت النجاسة- لم يسأل الصحابة عن حكم الماء الذي فيها، لأنه إن أخرجت النجاسة ولم يخرج الماء وهو يتنجس بورودها عليه لم يطهر بخروجها منه إلا أن ينزح ويوضع غيره، وهنا لا يحتاج الصحابة إلى سؤال لتبين الطهارةِ ووضوحِ الحكم، ولم ينقل أنه نزح منه أو حل محلَّه غيرُه.

ثم إن سؤال الصحابة كان بلفظ المضارع " وهي يلقى فيها " دلالة على استمرار ورود النجاسة عليها، ولو كان الأمر كما ذهبت إليه الحنفية لكان السؤال بالماضي، للدلالة على أنه وردت النجاسة عليه وانتهى ورودها وتوقف، فكيف وقد وردت وأخرجت، أيصح السؤال بالمضارع عما مضى وانتهى؟!

(1) ينظر شرح معاني الآثار للطحاوي 1/18.

ص: 33

3-

اعتذارهم عن حديث (القلتين) بأنه لم يتبين المقدار غير مقبول، إذ كيف يحدد النبي –صلى الله عليه وسلم لأصحابه شيئا بمقدار مجهول، ولو كان فعل ذلك، فهل سيسكت الصحابة على جهالتهم بهذا الأمر وهو متعلق بحياتهم اليومية، وبطهارتهم لصلواتهم، ولم يكن مصدر الماء عندهم غير الآبار والغدران سيما من كان في المدينة.

ولأن نعمل بتحديد (1) النبي –صلى الله عليه وسلم وندين لله به خير من أن نعمل برأي الرجال وندين لله به.

3-

وذهب جماعة إلى الجمع بين الأحاديث، ولكن اختلفوا في طريقة الجمع:

فالشافعي: أعمل جميع الأحاديث وأخذ بها، فحديث (بئر بضاعة) بين (أن الماء طهور لا ينجسه شيء) وكان أكثر من قلتين فهو لا ينجس، وحديث (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم..) ليس فيه دليل على نجاسة الماء إذا بيل فيه، بل نهى عن البول فيه كما نهى عن التغوط في الأماكن على ظهر الطريق والظل والمواضع التي يأوي لها الناس، لأن الناس يستقذرون الشرب والوضوء من الماء الذي قد بيل فيه، فالنهي للتنزيه وليس للتحريم، وإلى هذا ذهب مالك أيضاً.

وبهذا دُرئ التعارض ورُدَّ على القائلين بالترجيح، كما رُدَّ عليهم بأن الماء إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه فإنه ينجس، وإن كان روي عن النبي –صلى الله عليه وسلم من وجه لا يثبتُ أهلُ الحديث مثلَه؛ فقد أجمع عليه العلماء (2) .

(1) لم يحدد الحنفية كثرة الماء بالقلتين بل حددوه بما إذا حرك طرفه لم يتحرك- راجع: الهداية وفتح القدير 1/79-81.

(2)

ينظر: اختلاف الحديث للشافعي ص 104-114، وفتح الباري 1/348.

ص: 34

وأما ابن خزيمة: فقد جمع بين الأحاديث بأن حديث (الماء طهور لا ينجسه شيء) مجمل غير مفسر، عام مراده خاص، خص بمقدار القلتين منه، فما كان دونهما فهو ينجس، وجمع بينهما وبين حديث (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم) بأن النهي في هذا الحديث لما كان دون القلتين، أما القلتان فلا تنجسان (1) .

وجمع بعض الحنابلة بأن (الماء طهور لا ينجسه شيء) فيما كان قلتين فأكثر إذا كانت النجاسة غير بول وعذرة، أما إذا كان بولاً فإنه ينجس ما دام الماء راكداً وإن كان قلتين (2) .

هذا وقد أجمعوا على أن الماء إذا خالطته النجاسة وغيرت طعمه أو لونه أو ريحه فهو نجس وإن كان كثيراً (3) .

وقد جمع الإمام ابن قيم الجوزية، فأفاض في المسألة وذكر جميع الآراء والحجج لجميع المذاهب وبين ردود بعضهم على بعض، ثم تكلم على كل حجة بما يشفي ويغني كلَّ باحثٍ، واختار مذهباً لم يذهبه قبله أحدٌ –فيما أعلم- وذكر الأدلة النقلية والعقلية على ما ذهب إليه، ولولا خشية الإطالة لذكرت كلامه برمته، ومما جاء فيه مختصرا:

1-

أجاب عن الأحاديث الثلاثة المفيدة لنجاسة الماء، بأنه ليس في شيء من هذه الأحاديث أن الماء ينجس بمجرد ملاقاة البول والولوغ، وغمس اليد.

2-

أجاب عن حديث (القلتين) بأن ذكر القلتين يحتمل أن يكون وقع في الجواب لحاجة السائل إلى ذلك، ولا يمكن الجزم بدفع هذا الاحتمال، إلا لو أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال هذا اللفظ ابتداء من غير سؤال لاندفع هذا الاحتمال.

(1) ينظر: صحيح ابن خزيمة 1/48-50.

(2)

ينظر: المغني لابن قدامة 1/37، والشرح الكبير لابن قدامة 1/12.

(3)

حكى الإجماعَ ابنُ المنذر، راجع الأوسط له 1/260.

ص: 35

3-

أن حاجة الأمة -حضرها وبدوها- على اختلاف أصنافها إلى معرفة الفرق بين الطاهر والنجس ضرورية، فكيف يُحالون في ذلك إلى ما لا سبيل لأكثرهم إلى معرفته؟ فالناس لا يكتالون الماء، ولا يكادون يعرفون مقدار القلتين، ثم هي لم تنضبط ولم يتفق على مقدارها، وليس هذا شأن الحدود الشرعية.

4-

أن القائلين بالتحديد يلزمهم لوازم شنيعة منها: أنه لو وقعت شعرة من ميتة في قلتين إلا رطلاً -مثلاً- نجسته، ولو وقع رطل من بول في قلتين لم ينجسه، ومعلوم أن تأثر الماء بهذه النجاسة أضعاف تأثره بالشعرة، فمحال أن يجيء الشرع بتنجس الأول وطهارة الثاني.

من هذه النقاط يتبين أن ابن القيم يذهب إلى أن النظر لا بد أن يكون لنوع النجاسة وكميتها مع كمية الماء ونوعه. (1)

-قلت: وهذا الذي أراه صواباً، فإن النبي -صلى اله عليه وسلم- أمر بإراقة الإناء من ولوغ الكلب، لأن ولوغ الكلب يؤثر في هذه الكمية من الماء، بينما أباح استعمال الماء في الفلاة ترده الكلاب والسباع إذا بلغ قلتين، ليس لأجل أن القلتين تحمل جميع أنواع الخبث وكمياته ولكن لأنها تحمل ولوغ الكلاب والسباع لقلته، فماذا يؤثر ولوغ كلب في قلتين من الماء؟ .

وليس إباحة الوضوء من بئر بضاعة مع وجود النجاسة فيها لأجل أنها بلغت قلتين، فلا دليل على أنها قلتان، ولكن لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن كمية الماء الموجودة في البئر لا تتأثر بهذه النجاسة ولو كانت تتأثر لمنع من ذلك وهذا يدل عليه الإجماع.

أما النهي عن البول في الماء الراكد فإنه من حكمة الشارع، حيث تفضي الإباحة إلى تهاون الناس في ذلك، وبالتالي قد تغلب النجاسة الكثيرة القائمة في البول في الماء الراكد وإن كان كثيراً، وأما الجاري فإنه لم ينه عن البول فيه لتجدده فلا يمكن أن تجتمع فيه أبوال الناس لتغلبه، بل يغلبها بجريانه.

والله أعلم.

(1) ينظر تهذيب معالم السنن 1/56- 74

ص: 36