الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
قال ابن حجر: " منسوخ وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية. وقد ذهب الجمهور إلى أن ما دل عليه حديث الباب من الاكتفاء بالوضوء إذا لم ينزل الجامع منسوخ بما دل عليه حديث أبي هريرة وعائشة المذكوران في الباب قبله، والدليل على النسخ ما رواه أحمد وغيره من طريق الزهري عن سهل بن سعد قال: حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يقولون " الماء من الماء " رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد، صححه ابن خزيمة وابن حبان. وقال الإسماعيلي: هو صحيح على شرط البخاري، كذا قال، وكأنه لم يطلع على علته، فقد اختلفوا في كون الزهري سمعه من سهل. نعم أخرجه أبو داود وابن خزيمة أيضا من طريق أبي حازم عن سهل، ولهذا الإسناد أيضا علة أخرى ذكرها ابن أبي حاتم، وفي الجملة هو إسناد صالح لأن يحتج به، وهو صريح في النسخ. على أن حديث الغسل وإن لم ينزل أرجح من حديث الماء من الماء، لأنه بالمنطوق، وترك الغسل من حديث الماء بالمفهوم، أو بالمنطوق أيضا لكن ذاك أصرح منه. وروى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عباس أنه حمل حديث: "الماء من الماء " على صورة مخصوصة وهي ما يقع في المنام من رؤية الجماع، وهو تأويل يجمع بين الحديثين من غير تعارض"(1) .
قلت:
ذهب أكثر أهل العلم إلى النسخ في هذه الأحاديث، وذلك بما ورد عن أبي وغيره ممن كانوا يرون الأحاديث المرخصة، فلما ثبت هذا تبين لنا أن الرخصة كانت أول الإسلام، ثم جاء الأمر بالغسل من التقاء الختانين. وأدلة من ذهب إلى النسخ -وهم الغالبية من العلماء- أقوى وأرجح. والله أعلم.
المبحث الثالث:
غسل الجمعة
.
الإسلام دين يأمر بالنظافة، ويحث عليها، ومن مظاهر ذلك الوضوء خمس مرات، والاغتسال من الجنابة والاغتسال من الحيض وغيرها.
(1) فتح الباري 1/397، 398.
وكذا حرص الإسلام على احترام مشاعر الآخرين، فشرع لهم عدم إيذاء المسلمين في أماكن تجمعهم لأداء مشاعر دينهم، فنهى المسلم عن أكل البصل لدخول المسجد، وأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد.
ومما شرعه الإسلام الغسل لصلاة الجمعة، وذلك لما فيه من اجتماع المسلمين ولقائهم في هذا اليوم العظيم.
ولكن اختلف العلماء في حكم غسل الجمعة بين الوجوب والاستحباب، فذهب قوم إلى الوجوب واستدلوا بأحاديث، وذهب آخرون إلى الاستحباب واستدلوا بأحاديث أخرى.
ومما استدل به أصحاب الإيجاب حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم".
ومما استدل به أصحاب الاستحباب حديث سمرة بن جندب مرفوعاً: " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل".
فهذه الأحاديث يوهم ظاهرها التعارض.
ذكر ما استدل به الموجبون لغسل الجمعة:
عن أبي سعيد الخدري عن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ"(1) .
ذكر ما استدل به المستحبون لغسل الجمعة:
عن سمرة –رضي الله عنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ "(2) .
وجه التعارض:
إن من يقرأ حديث أبي سعيد يجد أنه يصرح بوجوب الغسل يوم الجمعة على كل محتلم.
(1) أخرجه البخاري (2/344،356، 381،،5/276) ، ومسلم (6/132) ، وأبو داود (1/94) ، والنسائي (3/93) ، وابن ماجة (1/246) ، والدارمي (1/361) ، ومالك (1/94) .
(2)
أخرجه أبو داود (1/97)، والترمذي (2/396) وقال: حديث حسن، والنسائي (3/94) ، وابن خزيمة (3/128) ، وأحمد (5/8، 11، 15، 16، 22) ، والدارمي (1/362) ، وحسنه النووي في شرح مسلم (6/133) ، وحسنه الألباني (مشكاة المصابيح 1/118) و (هامش صحيح ابن خزيمة3/128)، قلت: وهو حديث حسن لغيره.
ومن يقرأ حديث سمرة بن جندب يرى أن غسل يوم الجمعة من الأمور المندوبة وذلك بقوله:" فهو أفضل" وهذا دليل على عدم الوجوب.
فهذه الأحاديث تتعارض في دلالتها، لذا وجب النظر فيها، والبحث عن طرق التوفيق بينها، وقد تكلم العلماء فيها.
أقوال العلماء في درء التعارض:
1-
ذكر الشافعي حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه فبين معنى الوجوب وأن له معان متعددة، وليس من اللازم أن يكون على معناه الاصطلاحي. فقال:
" فاحتمل واجب لا يجزئ غيره، وواجب في الأخلاق، وواجب في الاختيار، وفي النظافة ونفي تغير الريح عند اجتماع الناس، كما يقول الرجل للرجل: وجب حقك علي إذ رأيتني موضعا لحاجتك، وما أشبه هذا، فكان هذا أولى معنييه لموافقة ظاهر القرآن في عموم الوضوء من الأحداث وخصوص الغسل من الجنابة، والدلالة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم في غسل يوم الجمعة أيضا، فإن قال قائل: فاذكر الدلالة، قلت: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله قال: "دخل رجل من أصحاب رسول الله المسجد يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب، فقال عمر: أي ساعة هذه فقال يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضا! وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل" (1) .
قال الشافعي:
(1) رواه البخاري (2/356) .
فلما علمنا أن عمر وعثمان (1) علما أن رسول الله كان يأمر بالغسل يوم الجمعة، فذكر عمر علمه وعلم عثمان، فذهب عنا أن نتوهم أن يكونا نسيا علمهما عن رسول الله في غسل يوم الجمعة، إذ ذكر عمر علمهما في المقام الذي توضأ فيه عثمان يوم الجمعة ولم يغتسل، ولم يخرج عثمان فيغتسل ولم يأمره عمر بذلك ولا أحد ممن حضرهما من أصحاب رسول الله ممن علم أمر رسول الله بالغسل معهما أو بإخبار عمر عنه، دل هذا على أن عمر وعثمان قد علما أمر النبي بالغسل على الأحب لا على الإيجاب للغسل الذي لا يجزئ غيره، وكذلك -والله أعلم- دل على أن علم من سمع مخاطبة عمر وعثمان في مثل علم عمر وعثمان، إما أن يكون علموه علما وإما أن يكونون علموه بخبر عمر كالدلالة عن عمر وعثمان، وروت عائشة الأمر بالغسل يوم الجمعة.
أخبرنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: "كان الناس عمال أنفسهم فكانوا يروحون بهيآتهم فقيل لهم: لو اغتسلتم.
قال وروي من حديث البصريين أن رسول الله قال: "من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل"، قال وقول أكثر من لقيت من المفتين اختيار الغسل يوم الجمعة وهم يرون أن الوضوء يجزئ منه (2) .
(1) ذكر عثمان هنا لأنه هو الرجل من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم الذي دخل وعمر يخطب. ورد التصريح باسمه في رواية أخرى أخرجها الطحاوي 1/118.
(2)
اختلاف الحديث ص109، 110.
2-
ذهب ابن خزيمة إلى الجمع بين الأحاديث بالغسل أمر ندب لا وجوب، فبعد أن ذكر أحاديث الأمر وبوب لها ذكر حديث سمرة وبوب له بقوله:" باب ذكر دليل أن الغسل يوم الجمعة فضيلة لا فريضة" كما ذكر تحت هذا الباب حديثاً آخر استدل به على الندب وهو حديث أبي هريرة –رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فدنا وأنصت واستمع غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا (1) "(2) .
3-
وأورد الطحاوي هذه المسألة في كتابه شرح معاني الآثار ودرأ تعارض هذه الأحاديث وما في معناها، فقال بعد أن أورد أحاديث دالة على الإيجاب عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وحفصة وعائشة وجابر وأبي سعيد: "فذهب قوم إلى إيجاب الغسل يوم الجمعة واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.
وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا ليس الغسل يوم الجمعة بواجب، ولكنه مما قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعان قد كانت في عهده –صلى الله عليه وسلم، منها ما روي عن بن عباس رضي الله عنهما –وساق بسنده- عن عكرمة قال: سئل بن عباس عن الغسل يوم الجمعة (أواجب هو؟) قال: لا، ولكنه طهور وخير، فمن اغتسل فحسن، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ. كان الناس مجهودين يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان المسجد ضيقا مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار، وقد عرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت رياح، حتى آذى بعضهم بعضا فوجد النبي صلى الله عليه وسلم تلك الرياح فقال:"أيها الناس إذا كان هذا اليوم، فاغتسلوا وليمس أحدكم أمثلَ ما يجد من دهنه وطيبه"، قال ابن عباس رضي الله عنه ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم.
(1) أخرجه مسلم 6/146، 147، وفي رواية أخرى (من اغتسل) .
(2)
صحيح ابن خزيمة 3/128.
فهذا ابن عباس رضي الله عنه يخبر أن ذلك الأمر الذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغسل لم يكن للوجوب عليهم، وإنما كان لعلة ثم ذهبت تلك العلة فذهب الغسل (1) ، وهو أحد من روى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بالغسل وقد روي عن عائشة رضي الله عنها في ذلك شيء.
ثم ذكر ما يدل على ذلك عن عائشة رضي الله عنها بسنده قالت: كان الناس عمال أنفسهم فيروحون بهيئاتهم فقال صلى الله عليه وسلم: "لو اغتسلتم".
فهذه عائشة رضي الله عنها تخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان ندبهم إلى الغسل، للعلة التي أخبر بها ابن عباس رضي الله عنهما وأنه لم يجعل ذلك عليهم حتما، وهي أحد من روينا عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل في ذلك اليوم.
ثم أورد عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه ما يدل على أن ذلك لم يقع عنده موقع الفرض.
ثم ذكر بسنده ما تقدم من خطبة عمر بألفاظ متعددة متقاربة، ثم قال:"ففي هذه الآثار غير معنى ينفي وجوب الغسل.
أما أحدهما فإن عثمان لم يغتسل واكتفى بالوضوء، وقد قال عمر: قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بالغسل.
ولم يأمره عمر أيضا بالرجوع لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه بالغسل.
ففي ذلك دليل على أن الغسل الذي كان أمر به لم يكن –عندهما- على الوجوب، وإنما كان لعلة ما قال ابن عباس رضي الله عنهما وعائشة رضي الله عنها أو لغير ذلك.
(1) قال ابن حجر معلقاً على قول الطحاوي"وهذا من الطحاوي يقتضي سقوط الغسل أصلاً، فلا يعد فرضاً ولا مندوباً لقوله: زالت العلة..إلخ، فيكون مذهباً ثالثاً في المسألة. ا.هـ، ولا يلزم من زوال العلة تعبداً، ولا سيما مع احتمال وجود العلة المذكورة. ثم إن هذه الأحاديث لو سلمت لما دلت إلا على نفس اشتراط الغسل لا على الوجوب المجرد. فتح الباري 2/363.
ولولا ذلك ما تركه عثمان رضي الله عنه، ولما سكت عمر رضي الله عنه عن أمره إياه بالرجوع حتى يغتسل، وذلك بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قد سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه عمر، وعلموا معناه الذي أراده فلم ينكروا من ذلك شيئا، ولم يأمروا بخلافه.
ففي هذا إجماع منهم على نفي وجوب الغسل.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن ذلك كان من طريق الاختيار وإصابة الفضل.
ثم ذكر بسنده حديث سمرة –رضي الله عنه المتقدم. وأورده من عدة طرق ثم قال: فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الفرض هو الوضوء، وأن الغسل أفضل لما ينال به من الفضل لا على أنه فرض.
فإن احتج محتج في وجوب ذلك، بما روي عن علي وسعد وأبي قتادة وأبي هريرة رضي الله عنهم، وذكر آثاراً من كل واحد، فذكر بسنده عن سعد قوله:"ما كنت أرى مسلما يدع الغسل يوم الجمعة ".
وبسنده عن علي قوله عندما سئل عن الغسل: "يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم الفطر ويوم الأضحى".
وبسنده عن أبي هريرة قال:"حق الله واجب على كل مسلم في كل سبعة أيام يغتسل، ويغسل منه كل شيء، ويمس طيبا إن كان لأهله".
وبسنده عن قتادة قال: "اغتسل للجمعة".
وبسنده عن عبد الرحمن بن أبزى: أن أباه كان يحدث بعد ما يغتسل يوم الجمعة فيتوضأ ولا يعيد الغسل.
ورد على هذه الآثار بقوله: أما ما روي عن علي رضي الله عنه فلا دلالة فيه على الفرض، لأنه قرنه مع ما ليس بفرض.
وأما ما روي عن سعد من قوله: ما كنت أرى أن مسلما يدع الغسل يوم الجمعة: أي لما فيه من الفضل الكبير مع خفة مؤنته.
وأما ما روي عن أبي هريرة –رضي الله عنه-فقد قرن ذلك بقوله: "وليمس طيبا إن كان لأهله" فلم يكن مسيس الطيب على الفرض، فكذلك الغسل.
فقد سمع عمر يقول لعثمان رضي الله عنهما ما ذكرناه، ولم يأمره بالرجوع بحضرته، فلم ينكر ذلك عليه، فذلك أيضا دليل على أنه عنده كذلك.
وأما ما روي عن أبي قتادة مما ذكرنا عنه في ذلك فهو إرادة منه للقصد بالغسل إلى الجمعة لإصابة الفضل في ذلك. وقد روينا عن عبد الرحمن بن أبزى خلاف ذلك.
وجميع ما بيناه في هذا الباب هو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، رحمهم الله" (1) .
4-
وذهب ابن حبان إلى الجمع بين الأحاديث بأن حمل الأمر بالغسل على الندب، وقد أورد هذه المسألة بأدلتها وأحاديثها بأسانيده، وبوب لكل باب بما يناسبه، فأفاد من تبويبه فوائد في الجمع بين هذه الأحاديث، وتعزيز هذا الجمع بأحاديث أخرى. فقال:
" ذكر لفظة أوهمت عالما من الناس أن غسل يوم الجمعة فرض لا يجوز تركه" وأورد بسنده حديث ابن عمر مرفوعاً صحيح (الغسل يوم الجمعة على كل حالم من الرجال وعلى كل بالغ من النساء) .
ثم قال: " ذكر خبر ثان ذهب إليه بعض أئمتنا فزعم أن غسل يوم الجمعة واجب" وأورد حديث أبي سعيد المتقدم أول البحث.
ثم بوب بابا آخر فقال: " ذكر الخبر الدال على أن الأمر بالاغتسال للجمعة في الأخبار التي ذكرناها قبل إنما هو أمر ندب وإرشاد لعلة معلومة"، وأورد حديث ابن عمر (أن عمر بن الخطاب بينا هو يخطب الناس يوم الجمعة إذ دخل عليه رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه عمر: أي ساعة هذه؟ قال: إني شغلت اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء فلم أزد على أن توضأت. قال عمر: والوضوء أيضا، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل) .
(1) شرح معاني الآثار. بتصرف (1/115-120) .
قال أبو حاتم رضي الله عنه: في هذا الخبر دليل صحيح على نفي إيجاب الغسل للجمعة على من يشهدها، لأن عمر بن الخطاب كان يخطب إذ دخل المسجد عثمان بن عفان فأخبره أنه ما زاد على أن توضأ ثم أتى المسجد، فلم يأمره عمر ولا أحد من الصحابة بالرجوع والاغتسال للجمعة ثم العود إليها، ففي إجماعهم على ما وصفنا أبين البيان بأن الأمر كان من المصطفى صلى الله عليه وسلم بالاغتسال للجمعة أمر ندب لا حتم.
ثم أورد أخباراً تؤيد ما ذهب إليه، وهي:
1-
حديث أبي هريرة المتقدم: (من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم أتى.. الحديث) .
2-
حديث ابن عمر (إن لله حقا على كل مسلم أن يغتسل كل سبعة أيام يوما، فإن كان له طيب مسه) .
3-
حديث أبي سعيد المتقدم (الغسل يوم الجمعة على كل محتلم والسواك، وأن يمس من الطيب ما قدر عليه)(1) .
5-
أورد ابن الجوزي هذه الأحاديث فذكر أحاديث الإيجاب بأسانيدها ثم قال:
"والجواب: أن الناس انقسموا في هذه الأحاديث فريقين، فمنهم من قال معنى واجب: لازم في باب الاستحباب، كما يقال حقك علي واجب، وهذا اختيار أبي سليمان الخطابي، يدل عليه أنه قرنه بما لا يجب.
وذكر بسنده حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه مرفوعاً (الغسل يوم الجمعة على كل محتلم والسواك وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه)، وحديث عائشة –رضي الله عنها (كان الناس عمال أنفسهم فكانوا يروحون كهيئتهم فقيل لهم: لو اغتسلتم) .
ثم قال: يؤكد هذا أن الصحابة لم ينكروا على من ترك الغسل. وذكر بسنده حديث عمر بن الخطاب المتقدم.
ثم قال: وهذا كله يدل على أنه إنما أمر بالغسل أمر استحباب.
وقد ذهب قوم إلى وجوبه للفظ حديث أبي سعيد، وادعوا أنه نسخ بحديث سمرة (من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل.....الحديث) .
(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (2/265-267) .
وفي هذه الدعوى بعد، لأنه لا تاريخ معنا، وأحاديث الوجوب أصح والوجه ما ذكرناه: أنه مستحب ومندوب (1) .
6-
قال النووي: واختلف العلماء في غسل الجمعة فحكى وجوبه عن طائفة من السلف حكوه عن بعض الصحابة وبه قال أهل الظاهر وحكاه بن المنذر عن مالك وحكاه الخطابي عن الحسن البصري ومالك وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار إلى أنه سنة مستحبة ليس بواجب قال القاضي وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه واحتج من أوجبه بظواهر هذه الأحاديث واحتج الجمهور بأحاديث صحيحة منها حديث الرجل الذي دخل وعمر يخطب وقد ترك الغسل وقد ذكره مسلم وهذا الرجل هو عثمان بن عفان جاء مبينا في الرواية الأخرى ووجه الدلالة أن عثمان فعله وأقره عمر وحاضروا الجمعة وهم أهل الحل والعقد ولو كان واجبا لما تركه ولألزموه ومنها قوله صلى الله عليه وسلم من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل حديث حسن في السنن مشهور وفيه دليل على أنه ليس بواجب ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لو اغتسلتم يوم الجمعة وهذا اللفظ يقتضي أنه ليس بواجب لأن تقديره لكان أفضل وأكمل ونحو هذا من العبادات وأجابوا عن الأحاديث الواردة في الأمر به أنها محمولة على الندب جمعا بين الأحاديث وقوله صلى الله عليه وسلم واجب على كل محتلم أي متأكد في حقه كما يقول الرجل لصاحبه حقك واجب على أي متأكد لا أن المراد الواجب المحتم المعاقب عليه (2) .
7-
نقل ابن حجر عن ابن دقيق العيد قوله:" وربما تأولوه تأويلاً مستكرهاً، كمن حمل لفظ الوجوب على السقوط. انتهى"(3) .
(1) التحقيق (1/173-175) .
(2)
شرح مسلم (6/133-134) .
(3)
فتح الباري (2/362) .
قال ابن حجر: " أما ما أشار إليه ابن دقيق العيد من أن بعضهم أوله بتأويل مستكره فقد نقله ابن دحية عن القدوري من الحنفية وأنه قال: قوله واجب أي ساقط، وقوله على بمعنى عن، فيكون المعنى أنه غير لازم، ولا يخفى ما فيه من التكلف. وقال الزين بن المنير: أصل الوجوب في اللغة السقوط، فلما كان في الخطاب على المكلف عبء ثقيل كان كل ما أكد طلبه منه يسمى واجبا كأنه سقط عليه، وهو أعم من كونه فرضا أو ندبا. وهذا سبقه ابن بزيزة إليه، ثم تعقبه بأن اللفظ الشرعي خاص بمقتضاه شرعا لا وضعا، وكأن الزين استشعر هذا الجواب فزاد أن تخصيص الواجب بالفرض اصطلاح حادث. وأجيب بأن " وجب " في اللغة لم ينحصر في السقوط، بل ورد بمعنى مات، وبمعنى اضطرب، وبمعنى لزم وغير ذلك. والذي يتبادر إلى الفهم منها في الأحاديث أنها بمعنى لزم، لا سيما إذا سيقت لبيان الحكم. وقد تقدم في بعض طرق حديث ابن عمر " الجمعة واجبة على كل محتلم " وهو بمعنى اللزوم قطعا. ويؤيده: أن في بعض طرق حديث الباب: "واجب كغسل الجنابة " أخرجه ابن حبان من طريق الدراوردي عن صفوان بن سليم، وظاهره اللزوم، وأجاب عنه بعض القائلين بالندبية بأن التشبيه في الكيفية لا في الحكم"(1) .
وقال ابن حجر بعد أن أورد رواية فيها (وأن يستن، وأن يمس طيباً) :
" قال القرطبي: ظاهره وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعاطف، فالتقدير الغسل واجب والاستنان والطيب كذلك، قال: وليسا بواجبين اتفاقا، فدل على أن الغسل ليس بواجب، إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد. انتهى.
(1) فتح الباري (2/363) .
وقد سبق إلى ذلك الطبري والطحاوي، وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب، لا سيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف. وقال ابن المنير في الحاشية: إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه لأن للقائل أن يقول: أخرج بدليل فبقي ما عداه على الأصل، وعلى أن دعوى الإجماع في الطيب مردودة، فقد روى سفيان بن عيينة في جامعه عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوبه بعض أهل الظاهر (1) .
8-
قال الشيخ أحمد شاكر: "وقد رجحنا أن غسل الجمعة واجب في نفسه، أعني ليس شرطاً في صحة الصلاة، فمن لم يأت به صحت صلاته، وكان مقصرا في الواجب عليه؛ إذ ليس في الأحاديث ما يدل على شرطيته في صحة الصلاة، وبذلك يجمع بين الأحاديث"(2) .
قلت:
بعد أن جمعت أقوال العلماء في درء هذا التعارض، تبين لي أن خير ما درئ به هو أن حديث "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" أن ذلك على سبيل التأكد، وليس على سبيل الإيجاب الاصطلاحي الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وذلك يدل عليه أحاديث كثيرة أسلفها العلماء، وأنا أشير إلى بعضها إشارة:
1-
حديث خطبة عمر وقول عثمان: لم أزد على أن توضأت.
2-
حديث عائشة في سبب ندبية الغسل وفيه (لو اغتسلتم) ، فلولا تقتضي الوجوب، وإنما تدل على الحث والتحضيض.
3-
حديث سمرة (من توضأ فبها ونعمت..الحديث) .
كما أن بيان ابن عباس لعلة شرعية الغسل تدل على أنه لم يكن للجمعة مشروعية الغسل مطلقاً، فلما حصل الأذى شرع الغسل فبادر إليه المسلمون. وأن في ترك الغسل مظنة تأذي المسلمين، لذا شرع تجنب ما يؤذيهم.
(1) فتح الباري (2/362) .
(2)
سنن الترمذي (2/371) بتحقيق وتعليق أحمد شاكر.