الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس:
جلود الميتة
.
إن منن الله على عباده عظيمة، وقد كرم الإنسان وسخر له كل شيء، ومما سخره الله -سبحانه- له هذه الأنعام التي منها يأكل ومنها يشرب وعليها يركب، وجعل له فيها منافع شتى، وأمر الله الإنسان بكل ما هو طيب طاهر وأباحه له، فأباح له الانتفاع بجلود هذه الأنعام وأصوافها وأشعارها وأوبارها، فيجعل من جلود الأنعام بيوتاً يستخفها وينتقل بها متى شاء يوم ظعنه، ويوم إقامته، وقد شرع له المولى -سبحانه- أن يسفك دم الأنعام ويذكيها قبل الانتفاع بها، ونهاه عن الانتفاع بلحمها وأكلها إذا لم تذك وماتت؛ لعدم طهارتها بالذبح، أما جلودها وهي ميتة لم تذك فقد اختلف العلماء في حكمها وذلك لتعارض الأحاديث في حكم استعمالها وطهارتها.
فقد جاءت أحاديث تفيد طهارتها وجواز استعمالها، منها:
حديث ابن عباس رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: "هلا استمتعتم بإهابها؟ قالوا: إنها ميتة. قال: إنما حرم أكلها".
وجاءت أحاديث تفيد نجاسته وعدم جواز استعماله، منها:
حديث عبد الله بن عكيم قال: " قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جهينة وأنا غلام شاب: أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب".
فهذه الأحاديث تتعارض في ظاهرها في مفادها وحكمها.
الأحاديث التي تفيد الطهارة وجواز الاستعمال:
عن ابن عباس رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا قَالُوا إِنَّهَا مَيِّتَةٌ قَالَ إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا "(1) .
(1) أخرجه البخاري (4/413) و (9/658) ، ومسلم (4/51) ، وأبو داود (4/65) ، والترمذي (4/220) ، والنسائي (7/172، 173) ، وابن ماجة (2/193) ، والدارمي (2/86) ، ومالك (1/327) ، وأحمد (1/227، 261، 277، 327، 329، 365، 366، 372) ، وابن حبان (2/287، 288، 289) ، والدارقطني (1/41، 42، 43، 44) ، والبيهقي (1/15) ، والشافعي (1/10) .
الأحاديث التي تفيد النجاسة وعدم جواز الاستعمال:
عن عبد الله بن عكيم قال:"قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ «أَنْ لَا تَسْتَمْتِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» . "(1) .
وجه التعارض:
إن القارئ لهذه الأحاديث ليتوهم تعارضها، وذلك لأنه يظهر من حديث ابن عباس إباحة استعمال جلود الميتة وذلك لأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم قال: هلا استمتعتم بإهابها، والإهاب هو الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ (2) .
وأما حديث عبد الله بن عكيم فيظهر منه لمنع من استعمالها مطلقاً، ولكي ندرأ هذا التعارض فإني أعرض أقوال العلماء في كيفية درئه.
أقوال العلماء في درء التعارض:
(1) أخرجه أبو داود (4/67) والترمذي (4/222) وقال: هذا حديث حسن، والنسائي (7/175) ، وابن ماجة (2/1194) ، وأحمد (4/310، 311) ، وابن حبان (2/286) ، والطيالسي ص 183، والبيهقي (1/14،15)،قال البيهقي: في معرفة السنن 1/176:" في الحديث إرسال"وأعله عدد من العلماء بالاضطراب منهم علي بن المديني والخطابي ووأبو حاتم وابن شاهين والرافعي وتقي الدين في الإلمام. وصححه ابن حزم في المحلى (1/121) وحسنه الحازمي وقال أحمد شاكر معقبا على قول ابن حزم: بل هو مضطرب أو مرسل، وصححه الألباني في إرواء الغليل (78، 79)، قلت: والحديث مع صحة إسناده له شاهدان يقويانه فيثبت بذلك أنه حديث صحيح والله أعلم.
(2)
لسان العرب (1/217) .
1-
درأ أبو جعفر الطحاوي التعارض بأن حديث (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) يجوز أن يكون أراد بذلك ما دام ميتة غير مدبوغ، فإنه كان يسأل عن الانتفاع بشحم الميتة فيجيب الذي يسأله بمثل هذا، كما في حديث جابر بن عبد الله قال:"بينا أنا عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم إذ جاءه ناس فقالوا: يا رسول الله إن سفينة لنا انكسرت، وإنا وجدنا ناقة سمينة ميتة فأردنا أن ندهن بها، وإنما هي عود، وهي على الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تنتفعوا بشيء من الميتة".
فأخبر جابر بن عبد الله رضي الله عنه-بالسؤال الذي كان قول النبي –صلى الله عليه وسلم: (لا تنتفعوا من الميتة) جوابًا له، وأن ذلك كان على النهي عن الانتفاع بشحومها، فأما ما كان يدبغ منها حتى يخرج من حال الميتة ويعود إلى غير معنى الأهب فإنه يطهر بذلك ودليل ذلك حديث ميمونة –رضي الله عنها في الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ (1) وهو حديث ظاهر المعنى أولى من حديث ابن عكيم الذي لم يدلنا على خلاف ما جاءت به هذه الآثار.
كما درأ التعارض وأجاب عن حديث "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" بجواب آخر وهو أنه يجوز أن يكون أراد بذلك أن أدلة الإباحة كانت بعد تحريم الميتة، وأن الجلود المدبوغة غير داخلة في التحريم، ويدل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة رضي الله عنها، فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة، قال" فلولا أخذتم مسكها (2) ؟
(1) الحديث عن ميمونة رضي الله عنها أنه مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لو أخذتم إهابها، قالوا: إنها ميتة، قال يطهرها الماء والقرظ. والقرظ: ورق السلم وهو نبت يدبغ به. شرح معاني الآثار 1/471.
(2)
المسك: الجلد. لسان العرب 10/486 مادة (م س ك) .
فقالت: نأخذ مسك شاة ماتت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما قال الله (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ....الآية)(1) فإنه لا بأس بأن تدبغوه فتنتفعوا به". قالت فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت (2) .
ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألته عن ذلك قرأ عليها الآية التي نزل فيها تحريم الميتة فأعلمها بذلك أن ما حرم عليهم بتلك الآية من الشاة حين ماتت إنما هو الذي يطعم منها إذا ذكيت لا غير، وأن الانتفاع بجلودها إذا دبغت غير داخل في ذلك الذي حرم منها.
كما يدل على هذا أن أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم لما أسلموا لم يأمرهم بطرح نعالهم وخفافهم التي اتخذوها في حال جاهليتهم، وإنما كان ذلك من ميتة أو ذبيحة أهل الأوثان، ولما ثبت ذلك ثبت أن ذلك قد خرج من حكم الميتة النجسة إلى سائر الأمتعة الطاهرة (3) .
2-
ودرأ ابن شاهين التعارض فقال:
وهذه أحاديث لا يمكن ادعاء نسخ شيء منها بأخرى.
فإن قال قائل: فإن حديث ابن عكيم نسخ حديث ابن عباس وابن عمر وعائشة، ومن روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" طهورها دباغها" لقرب العهد بالنهي؛ أمكن أن يقول غيره: يجوز أن يكون هذا الأمر قبل أن يموت النبي-صلى الله عليه وسلم بجمعة.
(1) تتمة الآية (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة الأنعام145
(2)
أخرجه أحمد (1/327) .
(3)
شرح معاني الآثار 1/469- 472 بتصرف.
وإذا كان الأمر هكذا كان الأولى الأخذ بالحديثين جميعاً، قوله:" لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" يحتمل أن لا تنتفعوا في حال من الأحوال، ويحتمل قبل الدباغ فلما احتمل الأمرين جميعا وجاء قوله:" أيما إهاب دبغ فقد طهر" حملنا القول الثاني وهو قوله:" لا تنتفع من الميتة بإهاب ولا عصب" على ما يطابق قوله الأول وهو:" أيما إهاب دبغ فقد طهر"، فيستعمل الإهاب بعد الدباغ، ويحظره قبل الدباغ فيستعمل الخبرين جميعا، ولا يترك احدهما للآخر.
وقد حكي عن الخليل بن أحمد أنه قال: لا يقع على الجلد اسم الإهاب إلا قبل الدباغ، وإنما إذا دبغ لم يسم إهابا وإنما يسمى أديما أو جرابا أو جلدا.
فإذا صح ذلك كان فيه تأكيد ما ذكرنا من استعمال الخبرين، والله أعلم (1) .
3-
ودرأ ابن عبد البر التعارض بأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم:" أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب" قبل الدباغ.
قال: وإذا احتمل أن يكون مخالفاً له فليس لنا أن نجعله مخالفاً، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن استعمالهما، بأن نجعل خبر ابن عكيم في النهي عن جلود الميتة قبل الدباغ، ونستعمل خبر ابن عباس وغيره في الانتفاع بها بعد الدباغ.
فكان قوله صلى الله عليه وسلم "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب" قبل الدباغ ثم جاءت رخصة الدباغ.
وحديث عبد الله بن عكيم وإن كان قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر كما جاء في الخبر؛ فممكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه قوله (أيما إهاب دبغ فقد طهر) قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم. (2)
4-
ودرأ ابن قتيبة التعارض عن هذه الأحاديث بأنه لا تناقض أصلاً ولا اختلاف لأن الإهاب
في اللغة: الجلد الذي لم يدبغ، فإذا دبغ زال عنه هذا الاسم.
(1) ناسخ الحديث ومنسوخه ص 160.
(2)
التمهيد 4/164، 165.
وفي الحديث أن عمر رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت أهب عطنة: يريد "جلود منتنة لم تدبغ".
وقالت عائشة-رضي الله عنها في أبيها رضي الله عنه "قرر الرؤوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها" يعني الأجساد، فكنَّت عن الجسد بالإهاب، ولو كان الإهاب مدبوغا لم يجز أن تكني به عن الجسد.
وقال النابغة الجعدي يذكر بقرة وحشية أكل الذئب ولدها وهي غائبة عنه ثم أتته:
فلاقت بيانا عند أول معهد
…
إهابا ومعبوطا من الجوف أحمرا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما إهاب دبغ فقد طهر" ثم مر بشاة ميتة فقال:" ألا انتفع أهلها بإهابها" يريد ألا دبغوه فانتفعوا به؟
ثم كتب:" لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" يريد لا تنتفعوا به وهو إهاب حتى يدبغ.
…
ويدلك على ذلك قوله:"ولا عصب" لأن العصب لا يقبل الدباغ، فقرنه بالإهاب قبل أن يدبغ وقد جاء هذا مبينا في الحديث (ألا أخذوا إهابها فدبغوه وانتفعوا به) . (1)
4-
قال أبو حازم في الاعتبار:
" وطريق الإنصاف فيه أن يقال: إن حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ لو صحَّ، ولكنه كثير الاضْطراب، ثمَّ لا يُقاوم حديث مَيْمُونة في الصِّحَّة، وقال أبو عبد الرحمن النَّسَائي: "أصحّ ما في هذا الباب في جلود الميتة إذا دُبغت: حديث الزُّهْرِيّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة.
وروينا عن الدوري أنه قال: قيل ليحيى بن معين: أيما أعجب إليك من هذين الحديثين:
"لَا ينْتَفع من الْميتَة بإهاب وَلَا عصب" أَو: "دباغها طهورها"؟ فقال: "دباغها طهورها"
أعجب إليَّ.
وإذا تعذر ذلك فالمصير إلى حديث ابن عباس أولى، لوجوه من الترجيحات.
(1) تأويل مختلف الحديث ص 163، 164 بتصرف.