الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: "وقد أطال المصنفون في الفقه الكلام في المستحاضة، واضطربت أقوالهم اضطرابا يبعد فهمه على أذكياء الطلبة، فما ظنك بالنساء الموصوفات بالعي في البيان والنقص في الأديان، وبالغوا في التعسير حتى جاؤوا بمسألة المتحيرة فتحيروا، والأحاديث الصحيحة قد قضت بعدم وجودها، لأن حديث الباب ظاهر في معرفتها إقبال الحيضة وإدبارها، وكذا الحديث الآخر في الباب، فإنه صريح في أن دم الحيض يعرف ويتميز عن دم الاستحاضة، فطاحت مسألة المتحيرة ولله الحمد، ولم يبق ههنا ما يستصعب إلا ورود بعض الأحاديث الصحيحة بالإحالة على صفة الدم، وبعضها بالإحالة على العادة، وقد عرفت إمكان الجمع بينها بما سلف"(1) .
قلت:
وبعد هذا البيان من الإمام الشوكاني، لم يبق إشكال في هذه الأحاديث، واختفى التعارض عنها، وهذا الذي ذهب إليه هو الذي أراه صواباً.
…
والله أعلم.
المبحث الثالث:
كيف تتطهر المستحاضة للصلاة
.
ويتعارض في هذا المبحث أحاديث في مسألة تطهر المستحاضة للصلاة، وتختلف أقوال الفقهاء بحسب هذه الأحاديث، فمن الفقهاء من يوجب على المستحاضة الاغتسال عند كل صلاة.
وفريق ثان يوجب عليها أن تغتسل لكل صلاتين تجمعان غسلا، وتفرد للفجر غسلا.
وفريق ثالث يوجب على المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة.
ولكل فريق أحاديث يحتج بها ويعارض بها الفريق الآخر.
فمن الأحاديث التي يحتج بها الفريق الأول: حديث عائشة رضي الله عنها "أن أم حبيبة بنت جحش، استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها بالغسل لكل صلاة".
(1) نيل الأوطار (1/339، 240) بتصرف.
ومن الأحاديث التي يحتج بها الفريق الثاني: حديث عائشة –رضي الله عنها قالت: " استحيضت امرأة على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم فأمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر وتغتسل لهما غسلا، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلاً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلا، فقلت لعبد الرحمن: أعن النبي –صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أحدثك إلا عن النبي –صلى الله عليه وسلم بشيء.
ومن الأحاديث التي يحتج بها الفريق الثالث حديث فاطمة بنت أبي حبيش: أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي –صلى الله عليه وسلم:"إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي".
فهذه الأحاديث تشكل على القارئ ويظن تعارضها.
ذكر ما استدل به على أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة:
عن عائشة: "أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ اسْتُحِيضَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهَا بِالْغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ"(1) .
ذكر ما استدل به على أن المستحاضة تجمع بين الصلاتين وتغتسل لهما غسلاً:
(1) أخرجه أبو داود (1/77) ، والدارمي (1/198) ، وأحمد (6/237) ، والطحاوي (1/98) ، والبيهقي (1/349) ، وأبو عوانة (1/323) ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/2) ، والحديث حسن لغيره بشواهده.
عن عائشة قالت: "اسْتُحِيضَتِ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُمِرَتْ أَنْ تُعَجِّلَ الْعَصْرَ وَتُؤَخِّرَ الظُّهْرَ وَتَغْتَسِلَ لَهُمَا غُسْلاً. وَأَنْ تُؤَخِّرَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلَ الْعِشَاءَ وَتَغْتَسِلَ لَهُمَا غُسْلاً وَتَغْتَسِلَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ غُسْلاً. فَقُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا أُحَدِّثُكَ (إلا) عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَيءٍ. (1)
ذكر ما استدل به على أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة:
عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي –صلى الله عليه وسلم: "
إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي" (2)
وجه التعارض:
إن من يقرأ حديث عائشة "أن أم حبيبة استحيضت في عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم فأمرها بالغسل لكل صلاة" يجده يدل على أن الغسل لكل صلاة واجب على المستحاضة حيث أمرها بذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم، والأمر يدل على الوجوب.
ومن يقرأ حديثها الثاني وفيه "فأمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر، وتغتسل لهما غسلا، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا، وتغتسل لصلاة الصبح غسلا" يجده يدل على وجوب الغسل ثلاث مرات للمستحاضة في اليوم والليلة على ما فصل في الحديث وهذا يخالف معنى الحديث الأول.
وأما معنى الحديث الثالث فهو يخالف هذين الحديثين، فإن فيه الأمر بالوضوء عند كل صلاة، وليس فيه الأمر بالغسل.
(1) أخرجه أبو داود (1/79) ، والنسائي (1/184، 200) ، وأحمد (6/172) ، والطيالسي ص201، والبيهقي (1/352) ، والطحاوي (1/100) ، وعبد الرزاق (1/308)،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داوود (1/2) قلت: هو حديث صحيح.
(2)
سبق تخريجه ص
فهذه معان مختلفة، وتختلف باختلافها الأحكام، ولذا تناولها العلماء بالبحث، فكان لهم فيها أقوال بينوا بها كيف يمكن أن يدرأ هذا الاختلاف عن هذه الأحاديث.
أقوال العلماء في درء التعارض:
1-
ذهب الحنفية إلى أن المستحاضة يجب عليها الوضوء لوقت كل صلاة، وقد درأ الطحاوي –رحمه الله التعارض بين هذه الأحاديث، في كتابه الكبير شرح معاني الآثار، فذكر حديث عائشة –رضي الله عنها عن أم حبيبة، وفيه "فأمرها رسول الله –صلى الله عليه وسلم بالغسل لكل صلاة" ثم قال:"فذهب قوم إلى أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل لكل صلاة، واحتجوا في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم المروي في هذه الآثار، وبفعل أم حبيبة رضي الله عنها بنت جحش على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نقلته عائشة –رضي الله عنها بقولها "فكانت أم حبيبة –رضي الله عنها تغتسل لكل صلاة"، وكذا قال علي وابن عباس –رضي الله عنهما من بعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم، وأفتيا به.
فجعل أهل هذه المقالة على المستحاضة أن تغتسل لكل صلاة.
وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: الذي يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا تصلي به الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا تصليهما به، فتؤخر الأولى منهما وتقدم الآخرة، كما فعلت في الظهر والعصر وتغتسل للصبح غسلا.
وذهبوا في ذلك إلى حديث عائشة أن امرأة استحيضت على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم فأمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر، وتغتسل لهما غسلا..الحديث، قالوا: فبهذا نأخذ وهو أولى من الآثار الأول التي فيها ذكر الأمر بالغسل لكل صلاة، ولأنه قد روى ما يدل على أن هذا ناسخ لذلك، فذكروا حديث عائشة بسنده قالت: إنما هي سهلة ابنة سهيل بن عمرو، استحيضت وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما أجهدها ذلك أمرها أن تجمع الظهر والعصر في غسل واحد والمغرب والعشاء في غسل واحد، وتغتسل للصبح. (1)
قالوا: فدل ذلك على أن هذا الحكم ناسخ للحكم الذي في الآثار الأول، لأنه إنما أمر به بعد ذلك، فصار القول به أولى من القول بالآثار الأول.
قالوا وقد روى ذلك أيضا عن علي وابن عباس –رضي الله عنهما، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: تدع المستحاضة الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي.
واحتجوا بحديث فاطمة بنت أبي حبيش.
قالوا: وقد روي ذلك أيضا عن علي–رضي الله عنه مثل ذلك.
قال الطحاوي (2) :
"فأردنا أن ننظر في ذلك –أي تعارض هذه الأحاديث- لنعلم ما الذي ينبغي أن يعمل به من ذلك؟.
فكان ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر أم حبيبة رضي الله عنها بنت جحش بالغسل عند كل صلاة. فقد ثبت نسخ ذلك بما قد رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر سهلة بنت سهيل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمرها بالغسل لكل صلاة، فلما أجهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل وبين المغرب والعشاء بغسل وتغتسل للصبح غسلا.
فكان ما أمرها به من ذلك ناسخا لما كان أمرها به قبل ذلك من الغسل لكل صلاة."
(1) تقدم الكلام عليه ص
(2)
شرح معاني الآثار/ الطحاوي (1/100-107) اختصرته لطوله وأوردت موارد درء التعارض وأوجه الجمع التي نحا إليها.
وله وجه آخر من الجمع وهو التفريق بين دم الاستحاضة كثرة وقلة، حيث قال:
"وكان حديث عائشة رضي الله عنها هو الذي ليس فيه ذكر الأقراء، إنما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل، على ما في ذلك الحديث، ولم يبين أي مستحاضة هي، فقد وجدنا استحاضة؛ قد تكون على معاني مختلفة فمنها أن يكون مستحاضة قد استمر بها الدم وأيام حيضها معروفة لها، فسبيلها أن تدع الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل وتتوضأ بعد ذلك. ومنها أن يكون مستحاضة لأن دمها قد استمر بها فلا ينقطع عنها وأيام حيضها قد خفيت عليها فسبيلها، أن تغتسل لكل صلاة، لأنها لا يأتي عليها وقت إلا احتمل أن تكون فيه حائضا أو طاهرا من حيض أو مستحاضة فيحتاط لها فتؤمر بالغسل. ومنها أن تكون مستحاضة قد خفيت عليها أيام حيضها، ودمها غير مستمر بها ينقطع ساعة ويعود بعد ذلك، هكذا هي في أيامها كلها.
فتكون قد أحاط علمها أنها في وقت انقطاع دمها إذا اغتسلت حينئذ غير طاهر من حيض طهرا يوجب عليها غسلا، فلها أن تصلي في حالها تلك ما أرادت من الصلوات بذلك الغسل إن أمكنها ذلك.
فلما وجدنا المرأة قد تكون مستحاضة بكل وجه من هذه الوجوه التي معانيها مختلفة، وأحكامها مختلفة، واسم المستحاضة يجمعها، ولم نجد في حديث عائشة رضي الله عنها ذلك بيان استحاضة تلك المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم لها بما ذكرنا أي مستحاضة هي؛ لم يجز لنا أن نحمل ذلك على وجه من هذه الوجوه دون غيره إلا بدليل يدلنا على ذلك. فنظرنا في ذلك هل نجد فيه دليلا؟
ثم ذكر بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في المستحاضة "تدع الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل غسلا واحدا وتتوضأ عند كل صلاة"، فلما روي عن عائشة- رضي الله عنها ما ذكرنا من قولها الذي أفتت به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما ذكرنا من حكم المستحاضة أنها تغتسل لكل صلاة، وما ذكرنا أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، وما ذكرنا أنها تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة، -وقد روي ذلك كله عنها-؛ ثبت بجوابها ذلك أن ذلك الحكم هو الناسخ للحكمين الآخرين، لأنه لا يجوز عندنا عليها أن تدع الناسخ وتفتي بالمنسوخ، ولولا ذلك لسقطت روايتها.
فلما ثبت أن هذا هو الناسخ لما ذكرنا، وجب القول به، ولم يجز خلافها."
وله رحمه الله وجه آخر درأ به التعارض وهو الجمع بين الروايات واعتبارها أحوالا مختلفة حيث قال: "وقد يجوز في هذا وجه آخر: يجوز أن يكون ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فاطمة بنت أبي حبيش لا يخالف ما روي عنه في أمر سهلة بنت سهيل، لأن فاطمة بنت أبي حبيش كانت أيامها معروفة، وسهلة كانت أيامها مجهولة، إلا أن دمها ينقطع في أوقات ويعود في أوقات، وهي قد أحاط علمها أنها لم تخرج من الحيض بعد غسلها إلى أن صلت الصلاتين جميعا.
فإن كان ذلك كذلك فإنا نقول بالحديثين جميعا، فنجعل حكم حديث فاطمة على ما صرفناه إليه، ونجعل حكم حديث سهلة على ما صرفناه أيضا إليه.
وأما حديث أم حبيبة رضي الله عنها، فقد روي مختلفا، فقد يجوز أن يكون أمرها بذلك ليكون ذلك الماء علاجا لها، لأنها تقلص الدم في الرحم، فلا يسيل.
وبعضهم يرويه عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل لكل صلاة. فإن كان ذلك كذلك فقد يجوز أن يكون أراد به العلاج، وقد يجوز أن يكون أراد به ما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا، لأن دمها سائل دائم السيلان، فليست صلاة إلا يحتمل أن تكون عندها طاهرا من حيض ليس لها أن تصليها إلا بعد الاغتسال، فأمرها بالغسل لذلك.
فإن كان هذا هو معنى حديثها؛ فإنا كذلك نقول أيضا فيمن استمر بها الدم ولم تعرف أيامها.
فلما احتملت هذه الآثار ما ذكرنا، وروينا عن عائشة رضي الله عنها من قولها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وصفنا؛ ثبت أن ذلك هو حكم المستحاضة التي لا تعرف أيامها، وثبت أن ما خالف ذلك مما روي عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مستحاضة استحاضتها غير استحاضة هذه، أو في مستحاضة استحاضتها مثل استحاضة هذه، إلا أن ذلك على أي المعاني كان. فما روي في أمر فاطمة ابنة أبي حبيش أولى، لأن معه الاختيار من عائشة له بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد علمت ما خالفه وما وافقه من قوله، وكذلك أيضا ما رويناه عن علي رضي الله عنه في المستحاضة أنها تغتسل لكل صلاة، وما رويناه عنه أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، وما رويناه عنه أنها تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة؛ إنما اختلفت أقواله في ذلك لاختلاف الاستحاضة التي أفتى فيها بذلك.
وأما ما رووا عن أم حبيبة رضي الله عنها في اغتسالها لكل صلاة، فوجه ذلك عندنا أنها كانت تتعالج به.". (1)
(1) شرح معاني الآثار/ الطحاوي (1/100-107) بتصرف.
2-
ذهب المالكية إلى أنه على المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، وذلك استحبابا لا إيجابا. كما ذكره ابن رشد عن المالكية، وذكر مذاهب العلماء في هذه المسألة، وجعل سبب الخلاف هو اختلاف الأحاديث فقال: "في المسألة بالجملة أربعة أقوال: قول إنه ليس عليها إلا طهر واحد فقط عند انقطاع دم الحيض، وقول: إن عليها الطهر لكل صلاة.
وقول إن عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة، وقول إن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة.
والسبب في اختلافهم في هذه المسألة: هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، وذلك أن الوارد في ذلك من الأحاديث المشهورة أربعة أحاديث: واحد منها متفق على صحته، وثلاثة مختلف فيها
…
"وذكر أالأحاديث في ذلك على ما تقدم ثم ذكر وجه الجمع بين الأحاديث قال:
"وأما الذين ذهبوا مذهب الجمع، فقالوا: إن حديث فاطمة ابنة أبي حبيش محمول على التي تعرف أيام الحيض من أيام الاستحاضة، وحديث أم حبيبة محمول على التي لا تعرف ذلك، فأمرت بالطهر في كل وقت احتياطا للصلاة، وذلك أن هذه إذا قامت إلى الصلاة يحتمل أن تكون طهرت، فيجب عليها تغتسل لكل صلاة.
وأما حديث أسماء ابنة عميس فمحمول على التي لا يتميز لها أيام الحيض من أيام الاستحاضة، إلا أنه قد ينقطع عنها في أوقات، فهذه إذا انقطع عنها الدم وجب عليها أن تغتسل، وتصلي بذلك الغسل صلاتين، وهنا قوم ذهبوا مذهب التخيير بين حديثي أم حبيبة وأسماء واحتجوا لذلك بحديث حمنة بنت جحش وفيه:"أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم خيرها"، وهؤلاء منهم من قال: إن المخيرة هي التي لا تعرف أيام حيضتها، ومنهم من قال: بل هي المستحاضة على الإطلاق عارفة كانت أو غير عارفة، وهذا هو قول خامس في المسألة، إلا أن الذي في حديث حمنة ابنة جحش إنما هو التخيير بين أن تصلي الصلوات كلها بطهر واحد، وبين أن تتطهر في اليوم والليلة ثلاث مرات.
وأما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة، فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك، ولست أعلم في ذلك أثرا." (1)
3-
وذهب الشافعية إلى أن المستحاضة لا يجب عليها الغسل إلا مرة واحدة بعد انقضاء حيضها، أما الصلاة فيجب عليها أن تتوضأ لكل فريضة.
وضعفوا أحاديث الأمر بالغسل لكل صلاة، قال ابن حجر:"حكم دم الاستحاضة حكم الحدث، تتوضأ لكل صلاة، لكنها لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤداة، لظاهر قوله: "ثم توضئي لكل صلاة" (2) .
4-
وذهب الحنابلة إلى وجوب الوضوء على المستحاضة لدخول وقت كل صلاة، ويستحب غسل المستحاضة لكل صلاة.
وسبب ذهابهم إلى الاستحباب فعل أم حبيبة –رضي الله عنها (3) .
فالجمهور على القول بالوضوء لكل صلاة وليس منهم من يوجب الغسل.
وخالفهم الإمام ابن حزم حيث أوجب على المستحاضة الغسل والوضوء لكل صلاة، أو الغسل والوضوء لكل صلاتين، فتغتسل وتتوضأ للظهر وتتوضأ للعصر، وتغتسل وتتوضأ للمغرب وتتوضأ للعشاء وتغتسل وتتوضأ للصبح. وذلك لأنه يرى صحة أحاديث الأمر بالغسل، بل يجعلها نقلا متواتراً يوجب العلم (4) .
قلت:
بعد ما تقدم من الدراسة لهذه الأحاديث والنظر في أقوال العلماء في درء تعارضها تبيت لي ما يلي:
1-
أن حديث أم حبيبة منسوخ، وحديث عائشة صريح بنسخه، فلم يعد هناك تعارض بين حديث أم حبيبة والحديث الآخر.
2-
أن حديث فاطمة صريح في عدم وجوب الغسل إلا مرة واحدة، وهي عند الطهر، أما عند الصلاة فالواجب الوضوء فقط، أما ذكر الغسل بعد الطهر فلم يذكر في حديثها –رضوان الله عليها-، وذلك لعلم الرسول –صلى الله عليه وسلم بعدم خفاء ذلك عليها، وإنما بين لها ما خفي عليها وهو ماذا يجب عليها لكل صلاة، فأمرها بالوضوء.
(1) بداية المجتهد لابن رشد (1/60-63) . بتصرف
(2)
فتح الباري (1/409، 410) .
(3)
حاشية الروض المربع لابن قاسم (1/400-402) بتصرف.
(4)
المحلى (1/213، 214) .