الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن قدامة: "ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة في غسل الجنابة: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين" رواه مسلم، ولأنه غسل واجب فلم يجب فيه إمرار اليد كغسل الجنابة" (1) .
قلت:
بعد النظر في هذه الأحاديث تبين لي عدم تعارضها في الحقيقة. وذلك لأن ملء الأكف ثلاث مرات يبلل البشرة والرأس، ولذا أطلق عليه لفظ إفاضة، والإفاضة تدل على وصول الماء إلى كل جزء من الرأس والجسد، ولو كان المعنى وصول الماء إلى بعض أجزاء الرأس أو أغلبها لعبر بالرش، ولم يكن ذلك منه صلى الله عليه وسلم، بل ورد في النصوص الثابتة لفظ الإفاضة، والغسل، والصب، وكلها تعني إيصال الماء إلى كل جزء من أجزاء الجسد. ولما كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على وصول الماء للرأس وكانت كثافة الشعر ربما تفرق الماء بما فيها من الجفاف وبعض الدهون؛ كان صلى الله عليه وسلم يخلل الشعر ليسهل وصول الماء إلى البشرة. أما الشعر فليس بواجب إيصال الماء إليه أو غسله، يدل على ذلك حديث أم سلمة، فإن الثلاث حثيات لا يغسلن الرأس والشعر إذا كان مضفرا، بل يبقى أجزاء من الشعر لا يصلها الماء، وهذه يعفى عنها بنص الحديث وظاهره.
كما تبين كذلك من هذا المبحث أن حديث "إن تحت كل شعرة جنابة" ضعيف لا يقوم به حجة. ولو صح من بعد ذلك؛ لما كان فيه حجة، وذلك لأن إيجاب الدلك لا يثبت بهذه الأدلة، وغاية ما تدل عليه هذه الأحاديث هو التأكيد على إيصال الماء إلى جميع أجزاء الجسد، مع التحري.
وعليه فمذهب الجمهور والظاهرية هو الراجح، وما ذهب إليه مالك من إيجاب التدلك مرجوح.
…
والله أعلم.
المبحث السادس:
التستر عند الغسل في الخلوة
.
وفي باب الغسل يعلمنا صلى الله عليه وسلم الآداب التي ينبغي أن يتأدب بها المسلم عند غسله.
(1) الشرح الكبير (1/105) .
ومن هذه الآداب التستر عند اغتسال المسلم وحده في الخلوة، ولكن وقع الاختلاف في هذا التستر، أهو على سبيل الوجوب أم على سبيل الإباحة؟، ومنشأ هذا الاختلاف ورود بعض الأحاديث التي تدل على وجوب التستر عند الغسل وبعضها الآخر يدل على الإباحة.
فمما يدل على الوجوب حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال:"احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك"، قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض، قال:"إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها" قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خالياً، قال:"الله أحق أن يستحيا منه من الناس".
ومما يدل على الإباحة:
1-
ما روي عن النبي –صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده. فقالوا: "والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر (1)"، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: "ثوبي يا حجر" حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى فقالوا: "والله ما بموسى من بأس"، وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا، فقال أبو هريرة: "والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضربا بالحجر".
(1)"يقال رجل آدر: إذا كان في إحدى خصيتيه نفخة" لسان العرب 4/15.
2-
ما روي عن النبي –صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بينما أيوب يغتسل عرياناً، فخر عليه جراد (1) من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك".
ذكر ما استدل به على الوجوب:
عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال:"قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ قَالَ «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَاّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ «إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا» . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا قَالَ «اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ "(2) .
ذكر ما استدل به على الإباحة:
الحديث الأول:
(1) قال القسطلاني"سمي به لأنه يجرد الأرض، فيأكل ما عليها، وهل كان جرادا حقيقة ذا روح، إلا أنه ذهب، أو كان على شكل جراد وليس فيه روح، قال في شرح التقريب: الأظهر الثاني، وليس الجراد مذكر جرادة، وإنما هو اسم جنس كالبقرة والبقر، فحق مذكره أن لا يكون مؤنثه من لفظه لئلا يلتبس الواحد المذكر بالجمع" إرشاد الساري (1/333) .
(2)
أخرجه أبو داود (4/40، 41) ، والترمذي (5/110) وحسنه، والحاكم (4/179، 180) ، والطبراني في الكبير (19/413) ، والبيهقي (1/119) والحديث حسن. صححه الحاكم وتبعه الذهبي وحسنه الألباني (آداب الزفاف 34)
عن أبي هريرة عن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَكَانَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ ثَوْبِي يَا حَجَرُ حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بِالْحَجَرِ "(1) .
الحديث الثاني:
عن أبي هريرة عن النبي –صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ بَلَى وَعِزَّتِكَ وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ "(2) .
وجه التعارض:
إن من يقرأ في حديث بهز بن حكيم، وفيه "الله أحق أن يستحيا منه من الناس" يستدل به على أن الرجل يكره له أن يتعرى وإن كان خالياً، ولأن قوله: الله أحق أن يستحيا منه من الناس، يدل على أنه كما ينبغي أن يستحيي المرء من الناس ولا يكشف عورته عندهم، فكذلك يكون الحكم إذا كان حاليا بل هو أوجب.
(1) أخرجه البخاري (1/385) ، ومسلم (4/32)(16/126، 127) ، والترمذي (5/359، 360) ، وأحمد (2/315، 392، 515، 535) .
(2)
أخرجه البخاري (1/387)(6/420)(13/464) ، والنسائي (1/200، 201) ، وأحمد (2/243، 304، 314، 347، 490، 511) ،والطيالسي ص322.
أما من يقرأ الحديثين الآخرين، حديث موسى وحديث أيوب، يجد أنه يجوز أن يتعرى المرء إذا كان خالياً، لأن هذا الفعل من أنبياء، وهم أكرم الخلق وأخشاهم لله، ولم ينههم الله سبحانه وتعالى عن ذلك، فدل على جواز التعري في الخلوة.
وهذان معنيان متضادان يجب التأليف بينهما. وقد تكلم فيها العلماء ودرؤوا التعارض الواقع بينهما.
أقوال العلماء في درء التعارض:
1-
قال الإمام النووي: " والتستر بمئزر (1) ونحوه في حال الاغتسال في الخلوة أفضل من التكشف، والتكشف جائز مدة الحاجة في الغسل ونحوه (2) ..، والزيادة على قدر الحاجة حرام على الأصح". وموضع الدلالة من هذا الحديث أن موسى عليه الصلاة والسلام أغتسل في الخلوة عريانا، وهذا يتم على قول من يقول من أهل الأصول أن شرع من قبلنا شرع لنا. والله أعلم (3) .
2-
وذهب ابن قدامة من الحنابلة إلى الجمع بين الأحاديث، وذلك بجواز الاغتسال عرياناً في الخلوة، مستدلا بحديث موسى وأيوب عليهما السلام، واستحباب التستر، مستدلا بحديث "فالله أحق أن يستحيا منه من الناس"(4) .
3-
قال ابن حجر: ظاهر حديث بهز يدل على أن التعري في الخلوة غير جائز مطلقا، لكن استدل على جوازه في الغسل بقصة موسى وأيوب عليهما السلام، ووجه الدلالة منه، أنهما ممن أمرنا بالاقتداء به، وهذا إنما يأتي على رأي من يقول: شرع من قبلنا شرع لنا. والذي يظهر أن وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم قص القصتين ولم يتعقب شيئا منهما فدل على موافقتهما لشرعنا، وإلا فلو كان فيهما شيء غير موافق لبينه، فعلى هذا يجمع بين الحديثين بحمل حديث بهز بن حكيم على الأفضل.
(1) والتستر بالمئزر: بأن يجعل حائلا من القماش أو غيره يحول دون نظر الناظرين إليه.
(2)
نحوه: كتغيير الملابس وقضاء الحاجة.
(3)
شرح مسلم بتصرف (4/32) . وينظر المجموع (2/197) .
(4)
ينظر الشرح الكبير (1/112) .