الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة كتاب «العقائد الإسلامية»
للإمام عبد الحميد بن باديس *
بقلم فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر
وعضو المجمع اللغوي بالقاهرة والمجمع اللغوي بدمشق
ــ
الحمد لله حق حمده. وصلى الله على سيدنا محمد رسوله وعبده، وعلى آله وأصحابه الجارين على سنته من بعده.
هذه عدة دروس دينية، مما كان يلقيه أخونا الإمام المبرور الشيخ عبد الحميد بن باديس- إمام النهضة الدينية والعربية والسياسية في الجزائر غير مدافع- على تلامذته في الجامع الأخضر بمدينة قسنطينة في أصول العقائد الإسلامية وأدلتها من القرآن، على الطريقة السلفية التي اتخذتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منهاجًا لها بعد ذلك. وبنت عليها جميع مبادئها ومناهجها في الإصلاح الديني، مسترشدة بتلك الأصول التي كان الإمام رحمه الله يأخذ بها تلامذته قبل تأسيس الجمعية، وإن كانت الجمعية قد توسعت في ذلك.
فالفكرة التي بنى عليها الإمام دروسه وأماليه كانت تصحبها فكرة أخرى أشمل منها وهي فكرة جمعية العلماء. فالفكرتان كانتا مختزنتين في تلك النفس الكبيرة. وكان رحمه الله يديرهما بذلك النظر البعيد، ويهيء لهما من الوسائل ما يبرزهما في الحين المقدر لهما.
وكان يمهد في نفوس تلامذته والمستمعين لدروسه، ليكونوا في يوم ما قادتها وأعوانها، وحاملي ألويتها ومنفذي مبادئها، وناشري الطريقة السلفية الشاملة في العلم والعمل وسائر فروع الإصلاح الديني.
كان الإمام المبرور يصرف تلامذته من جميع الطبقات على تلك الطريقة السلفية. ومعلوم أن الإصلاح الإسلامي الذي قامت به جمعية العلماء بعد ذلك لا تقوم أصوله إلا
* رواها وعلّق عليها الأستاذ محمد الصالح رمضان، وطبع الكتاب سنة 1964.
على ذلك، وأن هذا الإمام رفع قواعده وثبت أصوله وهيأ له جيشًا من تلامذته وحاضري دروسه. والإمام رضي الله عنه كان منذ طلبه للعلم بتونس قبل ذلك- وهو في مقتبل الشباب- ينكر بذوقه ما كان يبني عليه مشائخه من تربية تلامذتهم على طريقة المتكلمين في العقائد الإسلامية، ويتمنى أن يخرجهم على الطريقة القرآنية السلفية في العقائد يوم يصبح معلمًا. وقد بلغه الله أمنيته فأخرج للأمة الجزائرية أجيالاً على هذه الطريقة السلفية، قاموا بحمل الأمانة من بعده، ووراءهم أجيال أخرى من العوام الذين سعدوا بحضور دروسه ومجالسه العلمية.
وقد تربت هذه الأجيال على هداية القرآن فهجرت ضلال العقائد وبدع العبادات، فطهرت نفوسها من بقايا الجاهلية التي هي من آثار الطرائق القديمة في التعليم، وقضت الطريقة القرآنية على العادات والتقاليد المستحكمة في النفوس، وأتت على سلطانها.
وقد راجت هذه الطريقة وشاعت حتى بين العوام، وإن كانوا لا يحسنون الاستدلال بالقرآن، وإن كان الاستعداد الكامن في الأمة للإصلاح الديني، وكثرة حفاظ القرآن فيها أعانا على تثبيت هذا الميل القرآني فيها، فأصبح العامي إذا سمع الاستدلال بالقرآن أو الحديث اهتز وشاعت في شمائله علامة الاقتناع والقبول!! وهذه أمارة دالة على عودة سلطان القرآن على النفوس يرجى منها كل خير.
ختم الإمام ابن باديس القرآن كله درسًا على هذه الطريقة في خمس وعشرين سنة، ولو أنه رزق تلامذة حراسًا على تلقف كل ما كان يقوله وينزل عليه الآيات من المعاني .. لوصل إلى الأمة علم كثير كما وصلت هذه الأمالي بعناية الأستاذ الموفق محمد الصالح رمضان القنطري، فإنه تلقى هذه الدروس ونقلها من إلقاء الإمام واستأذنه في التعليق عليها ونشرها للانتفاع بها. فجزاه الله خير الجزاء.
لم ينقل لنا تاريخ العلماء بهذا الوطن أن عالمًا ختم تفسير القرآن كله درسًا إلا ما جاء فيه عن الشريف التلمساني، أنه ختم تفسير القرآن كله في المائة التاسعة، والشريف حقيق بذلك، ولكن لم ينقل لنا منه شيء، لأن تلامذته كانوا في التقصير كتلامذة ابن باديس. ولو كانوا على درجة من الحرص والاحتياط لوصل إلينا شيء من ذلك.
وقد كتب الإمام ابن باديس بقلمه البليغ مجالس التذكير، وهي تفسير لآيات ولأَحاديث جامعة كانت تعرض له في تفسير القرآن أو في شرح الموطأ التي أقرأها درسًا حتى النهاية، ونشر ذلك كله في مجلة الشهاب، ثم فسر سورتي المعوذتين يوم الختم تفسيرًا عجيبًا! ونقلها من إلقائه كاتب هذه السطور نقلًا مستوعبًا بحيث لم تفلت منه كلمة ونشره في عدد خاص من مجلة الشهاب، وقدم له كاتب هذه السطور أيضًا.
وهذا درس من دروسه ينشره اليوم في أصل العقيدة الإسلامية بدلائلها من الكتاب والسنة تلميذه: الصالح كاسمه، فجاءت عقيدة مثلى يتعلمها الطالب فيأتي منه مسلم سلفي، موحد لربه بدلائل القرآن كأحسن ما يكون المسلم السلفي، ويستدل على ما يعتقده في ربه بآية من كلام ربه، لا بقول السنوسي في عقيدته الصغرى:"أما برهان وجوده تعالى فحدوث العالم"!
كان علماء السلف يرجعون في كل شأن من شؤون الدين إلى القرآن، بل كان خلقهم القرآن كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وكما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها:«كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَرْضَى لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ» . وكانوا يحكمون القرآن في كل شيء، حتى في الخطرات العارضة، والسرائر الخفية، حتى تمكن سلطانه من نفوسهم وأصبحت لا تتحرك ولا تسكن إلا بأمره ونهيه. وأصبحوا يقودون حتى الخلفاء والأمراء بذلك السلطان. وذلك هو السر في علوّ كلمة الإسلام وسرعة انتشاره في المشارق والمغارب.
فلما تفرقت المذاهب الفقهية ونشأ علم الكلام، وتفرقت منازعه بين الأشاعرة والمعتزلة، وطما علم الجدل، وتفرق المسلمون شيعًا حتى أصبح كل رأي في علم الكلام أو الفقه يتحزب له جماعة، فيصبح مذهبًا فقهيًا أو كلاميًا يلتف حوله جماعة ويجادلون. فضعف سلطان القرآن على النفوس، وأصبح العلماء لا يلتزمون في الاستدلال بآياته، ولا ينتزعون الأحكام منها إلا قليلاً: فعلماء الكلام صاروا يستدلون بالعقل، والفقهاء أصبحوا يستدلون بكلام أئمتهم أو قدماء أتباعهم.
ومن هنا نشأ علم الكلام وعلم الفقه. وعلى هذه الطريقة ألفت المؤلفات التي لا تحصى في العلمين وانتشرت في الأمة وطارت كل مطار.
أما أئمة الفقه ومؤلفاتهم فلا يحصون كثرة. وأما أئمة الكلام: فالذي توسع في الطريقة العقلية ووسع دائرتها فهم جماعة معروفون كفخر الدين الرازي، والقاضي أبي بكر بن الطيب، وأبي بكر الباقلاني والبيضاوي، وإمام الحرمين، وسعد الدين التفتزاني، والقاضي عضد الدين الإيجي، وهؤلاء هم الذين ثبتوا القواعد الكلامية والاستدلال على التوحيد بالعقل. ومؤلفاتهم ما زالت إلى يومنا هذا مرجعًا للمتمسكين بهذه الطريقة، وإن كانت لا تدرس في المدارس إلا قليلاً. وكلها جارية على الأصول التي أصَّلها أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه، وآراؤه هي التي يقلدها جمهرة المسلمين اليوم، وهذا كله في الشرق الإسلامي.
وأما مغربنا هذا مع الأندلس فلم يتسع فيه علم الكلام إلى هذا الحد وإن كانوا يدرسونه على هذه الطريقة ويقلدونه، ويدينون باتباع رأي الأشعري ولم يؤلفوا فيه كتابًا له بال إلا الإمام محمد بن يوسف السنوسي التلمساني، فإنه ألف فيه على طريقة المشارقة عدة كتب شاعت وانتشرت في الشرق والغرب، وقررت في أكبر المعاهد الإسلامية كالأزهر.
حتى جاءت دروس الإمام ابن باديس فأحيا بها طريق السلف في دروسه- ومنها هذه الدروس- وأكملتها جمعية العلماء. فمن مبادئها التي عملت لها بالفعل لزوم الرجوع إلى القرآن في كل شيء لا سيما ما يتعلق بتوحيد الله، فإن الطريقة المثلى للاستدلال على وجود الله وصفاته وما يرجع إلِى الغيبيات لا يكون إلا بالقرآن، لأن المؤمن إذا استند في توحيد الله وإثبات ما ثبت له ونَفْي ما انتفى عنه لا يكون إلا بآية قرآنية محكمة، فالمؤمن إذا سولت له نفسه المخالفة في شأن من أمور الآخرة، أو صفات الله فإنها لا تسول له مخالفة القرآن.
وقد سلك علماء جمعية العلماء في دروسهم الدينية كلها وخطبهم الجمعية طريقة الإمام ابن باديس فرجع سلطان القرآن على النفوس.
فجزى الله أخانا ابن باديس عن الإسلام خير الجزاء، فإن من أحيا القرآن فقد أحيا الدين كله. وجزى الله إخوانه الذين اتبعوا طريقته توفيقًا للعمل يساوي توفيقهم في العلم، وجزى الله تلامذته الذين قاموا بحمل الأمانة من بعده.
وهذه دروس من دروسه ينشرها اليوم في أصل العقيدة الإسلامية بدلائلها من الكتاب والسنة الأستاذ محمد الصالح رمضان، أحد طلابه، فجاءت عقيدة مثلى يتعلمها الطالب فيأتي منه مسلم سلفي موحد لربه بدلائل القرآن كأحسن ما يكون المسلم السلفي، ويستدل على ما يعتقده في ربه بآية من كلام ربه.
فنحث القائمين على تعليم ناشئتنا في المدارس الحرة أو الحكومية في الجزائر وغيرها من الأقطار الإسلامية، على اتخاذها أساسًا في تربيتهم على التوحيد الصحيح، بل نحث كل أب مسلم أن يقتنيها لأولاده، ويحثهم على تعلمها وتفهمها، وأن يشترك أهل البيت كلهم في ذلك فكلهم في حاجة إليها.
وفقنا إلله جميعًا لاتباع كتابه، وسنة نبيه، والرجوع إليهما، وإلى هدي السلف الصالح في تبيين معانيهما.