الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإستعمار والشيطان *
أصبح الاستعمار كالشيطان ملعونًا بكل لسان، ممجوجًا اسمه في كل سمع، ممقوتًا في كل نفس، مستنكرًا من كل عقل، ومن ذا يرضى عن الطاعون الذي يبقي من السبعين سبعة، أو على السل الذي يختزل الآجال من التسعين إلى تسعة؟
ولكن الذي يحزن الاستعمار انه لم يضمن البقاء كالشيطان فيكون من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، فقد أحاطت به خطيئاته، وريعت بالصيحة الكبرى حجراته، وأمسى في حالة احتضار وسيفارق هذه الدنيا غير مأسوف عليه، فلا تبكي عليه سماء ولا أرض، وسيستريح العالم الإنساني من شر كان مصدر الشرور، وكان مثار النزاع ومؤرث الحروب.
يظن الناس الذين ينظرون إلى الأشياء من جهة واحدة أن الاستعمار مصيبة على الأمم الضعيفة التي ابتليت به، ولا يقلدون على ذلك في فهمه وتحليله، ولو تجاوزوا التفكير السطحي لعلموا أنه مصيبة على أصحابه المتمتعين بفوائده المادية من مال وسلطان وقوّة، لأنه لم يزل- منذ نشأ فيهم وتكون، إلى أن تطور بهم وتلون- شرًّا يلد شرورًا، وعتوًّا ينتج غرورًا، إلى أن أمسى في يومنا مرضًا مزمنًا في أهله، غير أنهم لم يستطبوا له كما يستطب المريض لدائه، ويمنعهم من ذلك أنه زاد على معاني المرض المعروفة بمعنى يشبه أثر الحشيش في نفس الحشاش، وصاحب الحشيش يوقن بأنه سائر في طريق الموت إذا أدمن، ولكنه لا يقوى على الإقلاع، والمستعمرون يعلمون- في هذا الزمن على الخصوص- أن الاستعمار في طريق الزوال، لأنه لصوصية، واللصوصية لا تدوم إلّا بمقدار قوّة اللص، أو بمقدار ضعف الفريسة أو غفلتها، فإذا انهارت القوّة من جانب، أو انجابت الغفلة من الجانب الآخر، بطل الاستعمار ورجع كل شيء إلى أصله، ومع هذا الايقان لا يستطيعون
* مسودة مقال وجدت في أوراق الشيخ مؤرخة في ماي 1955.
التغلب على نزعة الاستعمار والإقلاع عنه، لأنها أصبحت مرضًا في نفوسهم، مسلطًا على مراكز تفكيرهم، مالكًا عليهم آفاقها.
وعلى هذا فكل ما يبذله العالم الواعي في سبيل القضاء على الاستعمار هو سعي ضائع، ووضع للهناء في غير موضع النقب، ما لم توجه الجهود الصادقة إلى علاج المرض في نفوس المستعمرين، فقد رأيناهم لتحكم هذا المرض فيهم لا تستنفد منهم فريسة حتى ينشبوا أظفارهم في فريسة، حتى كأنهم الطائر الذي وصفه الشاعر بأنه "لا يرسل الساق إلّا ممسكًا ساقًا" فالانكليز- مثلًا- أكرهوا على الجلاء عن القنال، فغرسوا أذنابهم كالجراد في شرق الأردن وفي ليبيا، وقد أصبح كل مستعمر يزعم أنه لا حياة له بدون المستعمرة الفلانية، فإذا أزيح عنها- بعامل من العوامل- اعتدى على غيرها ممن هي أضعف ناصرًا وأقل عددًا.
فمَنْ أوتي الحكمة، واستغشى الإحسان والرحمة، فليبدأ بعلاج صرعى الاستعمار، ليشفيهم من الصرع فينقذ العالم من الصراع.
…
إن انكلترا وهي نبية الاستعمار، الآتية بصحفه الأولى، المدونة لشرائعه، المتلقية لوحيه - من الشيطان- أحست بخطر هذا المرض الوبيل، وأنه قاض عليها إن لم تقض عليه، فعالجته بعدة أشفية سطحية، وغالطت نفسها والناس بتغيير اسمه، وتشويش حده ورسمه، وإعطاء شيء من الخبرة لمن أعان على إحضارها، فكانت أعقل من غيرها، وأبعد نظرًا في الجملة، ولكنها لعراقتها في الاستعمار، وتمكن مرضه منها، لم تزل مملوءة الجوانح بالحنين إليه، والشوق إلى وصاله، والتعلل ولو بطيف خياله، ومن آيات ذلك الحنين تأييدها لكل مستعمر في كل قضية استعمارية، فكأنها تلك الأعرابية صاحبة الحكاية المشهورة.
والمستعمرون اليوم أقوى الناس شعورًا بمصاعب الاستعمار ومتاعبه وما يجره عليهم من الويلات، وأيسرها عليهم حقد المظلومين، وتربص الموتورين، وتألب المغلوبين، وحدوث مذاهب لا خير لهم في حدوثها، وهم لذلك أعلم الناس بأنه صائر إلى الفناء، ولعله لا يفنى حتى يفنيهم معه، ولكنهم مع ذلك كله لا يصبرون على فراقه.
ولقد حدثني الثقة قال: حدثني مسؤول من رجال العرب يشغل كرسي رئاسة حكومة عربية، قال: زارني بحكم وظيفتي جنرال فرنسي عائد من الهند الصينية في أيام اشتعال الحرب فيها، فسألته عن حالة الحرب الناشبة بين دولته وبين الأمة الصينية الهندية، فقال ما معناه: إنها "زفت" على دولته، فقلت له: إنني أخشى أن تتحرك الصين الشعبية ومن ورائها
روسيا فتقذفكم في البحر، فقال مبادرًا: يا ليتهم فعلوا، إنهم كانوا يريحوننا من حرب نحن موقنون بالهزيمة في آخرها، فقلت له: وما دمتم على هذه الأمنية وعلى فقد الأمل في النصر، فلماذا لا تنزلون على حكم الواقع، وتعاجلون الهزيمة بما هو أشرف؟ ولماذا لا تخرجون مختارين، وتربحون معاهدة بدل احتلال وحليفًا بدل عدوّ؟ إنكم في هذا تخرجون مشيعين بالرضا والإكبار، وتحفظون كثيرًا من مصالحكم المادية التي هي أساس احتلالكم لذلك الوطن البعيد الذي جلب لكم المتاعب وأثار عليكم وطنيّين متحمسين، تمدهم دولتان قويتان مجاورتان بالرأي والمال والسلاح، وتشاركهم إحداهما في الدم والعقيدة، أفتكون الزبّاء أعقل وأحكم من فرنسا حينما قالت: بيدي لا بيد عمرو؟ قال الرجل المسؤول: وكنت أظن أنني أمحضت النصيحة، وأوثقت صاحبي شدًّا بالحجة، ولكن صاحبي وصل جوابه بآخر كلمة لي، وقال لي في شيء من الحدّة: اسمع يا حضرة الرئيس، إن الفرنسوي الذي يمضي مثل هذه المعاهدة المهينة لشرف فرنسا لم تلده الفرنسية بعد
…
قال الرجل المسؤول: فدهشت لتناقض أول الكلام مع آخره.