المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فرنسا وثورة الجزائر * - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٥

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌مقدمة

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌السياق التاريخي (1954 - 1965)

- ‌في مصر

- ‌نداء إلى الشعب الجزائري المجاهد: *

- ‌مبادئ الثورة في الجزائر

- ‌أوسع المعلومات عن بداية الثورة في الجزائر *

- ‌حول ثورة الجزائر والمغرب العربي *

- ‌إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر والمغرب العربي *

- ‌إلى القائدين عبد الناصر والسادات *

- ‌برقية إلى الملك سعود *

- ‌ميثاق جبهة تحرير الجزائر *

- ‌اللائحة الداخلية لجبهة تحرير الجزائر *

- ‌بيان من جبهة تحرير الجزائر

- ‌بيان من جبهة تحرير الجزائر *

- ‌كيف تنجح الثورة في الجزائر

- ‌التكالب الاستعماري على الجزائر *

- ‌موالاة المستعمر خروج عن الإسلام *

- ‌الإسلام في الجزائر *

- ‌الجزائر المجاهدة *

- ‌دور الدول الإسلاميةفي المؤتمر الأسيوي - الأفريقي *

- ‌عبرة من ذكرى بدر *

- ‌نفحات من ذكرى فتح مكة *

- ‌من وحي العيد *

- ‌شرعة الحرب في الإسلام *

- ‌الإستعمار والشيطان *

- ‌الاستعمار الفرنسي في الجزائر *

- ‌بين يدي الموضوع

- ‌فتح العرب لأفريقيا الشمالية:

- ‌حقبة المد والجزر للجزائر بين تونس ومراكش:

- ‌الدولة الرستمية:

- ‌الدولة الصنهاجية بجبل تيطري:

- ‌الدولة الفاطمية:

- ‌الدولة الزيانية بتلمسان:

- ‌الدولة التركية

- ‌الإحتلال الفرنسي

- ‌حرب السبعين وثورة المقراني:

- ‌ جمعية العلماء

- ‌عيد فرنسا المئوي لاحتلال الجزائر:

- ‌ظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:

- ‌مشكلة العروبة في الجزائر *

- ‌رسالة إلى المودودي

- ‌من أنا

- ‌مولدي:

- ‌نشأتي و‌‌تعلّمي:

- ‌تعلّمي:

- ‌رحلتي إلى الشرق:

- ‌انتقالي إلى دمشق:

- ‌رجوعي إلى الجزائر:

- ‌تأسيس جمعية العلماء الجزائريين:

- ‌عملي في الجمعية:

- ‌موقف الاستعمار منّي:

- ‌رحلتي إلى الشرق:

- ‌أولادي:

- ‌حالتي المادية:

- ‌في الذكرى الأولى للثورة الجزائرية *

- ‌في السعودية وباكستانوالعراق وسوريا

- ‌كامل كيلاني: باني الأجيال *

- ‌رسالة شكر لباكستان *

- ‌أسبوع الجزائر في العراق *

- ‌في مصر

- ‌الجزائر *

- ‌يوم الجزائر *

- ‌الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني *

- ‌الذكرى الثالثة لثورة نوفمبر *

- ‌الدين في شعر أحمد شوقي *

- ‌الدين في شعر شوقي

- ‌لغة الشاعر:

- ‌حرية الأديب وحمايتها *

- ‌ميلاد الجمهورية العربية المتحدة *

- ‌جهاد الجزائر وطغيان فرنسا *

- ‌رسالة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ

- ‌رسالة إلى الشيخ عمر بن حسن

- ‌أحمد شوقي *

- ‌الذكرى الرابعة لثورة الجزائر التحريرية *

- ‌الجزائر الثائرة *

- ‌فرنسا وثورة الجزائر *

- ‌صفحات مشرقة في تاريخ الثورات *

- ‌محمد العيد *

- ‌إلى مؤتمر التعريب بالرباط *

- ‌كلمة في تونس *

- ‌خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية *

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الرابعة:

- ‌المرحلة الخامسة:

- ‌ضرورة الانتقال إلى التعليم الثانوي:

- ‌مالية جمعية العلماء:

- ‌أثر أعمالي وأعمال إخواني في الشعب:

- ‌مؤلفاتي:

- ‌خلاصة الخلاصة:

- ‌كلمة في مجمع اللغة العربية

- ‌رسالة إلى الأستاذ عبد الله كنون *

- ‌لقاء مع "مجلة الشبّان المسلمين

- ‌الشيخ الإبراهيمي يعلن:

- ‌خطبة الأستاذ الإمام الشيخمحمد البشير الإبراهيمي

- ‌توسيع لجنة الفتوى *

- ‌إجازة للأستاذ محمد الفاسي *

- ‌مقدمة كتاب «العقائد الإسلامية»للإمام عبد الحميد بن باديس *

- ‌بيان 16 أفريل 1964 *

الفصل: ‌فرنسا وثورة الجزائر *

‌فرنسا وثورة الجزائر *

إذا كانت النتائج تنتزع من المقدمات فإن النصر محقق للثورة الجزائرية: هذا ما تحكم به العقول الراجحة، وتقتضيه أصول الاجتماع الإنساني وتؤيده العادات الجارية.

إنما نحن في عالم أسباب ومسببات تصطرع فيه سنن ثابتة لا تبديل فيها ولا تغيير، والثورة الجزائرية دائرة في هذا المدار من أول يوم، جارية على السنن التي يقتضيها التدافع البشري في الحياة، على مقدار من حالها وظروفها، واعداد ما يطلب مثله من مثلها، وهي تجبر نقصها في الاعداد الحسي الذي تقتضيه السنن باعداد روحاني له أثره في نتائج الصراع بين كل مجموعتين، وله وزنه في ترجيح كفة على كفة، وله قيمته في نصر العدد القليل على العدد الكثير، ذلك كله ثابت بشهادة الدين وشهادة الحس، فالقوّة المادية التي ساقتها فرنسا على المجاهدين الجزائريين في هذه الحرب تفوق قوّة الجزائريين أضعافًا مضاعفة، بل نسبة قوّة الجزائر إلى قوّة فرنسا هي نسبة الصفر

وأين من لا يملك طائرة واحدة ممن يملك آلاف الطائرات، يزاد عليها وفرة العدد، واتصال المدد، ووفرة الأقوات، وكل ما يعرفه الناس من الأسلحة المعتادة، ولكن الجزائريين يملكون قوّة أخرى لا يملكها الفرنسيون: يملكون القوّة الروحية التي تفل كل سلاح، يملكون قوّة الإيمان الصحيح، وقوّة النفوس الطاهرة، وقوّة العزائم الثابتة، وقوّة التصميم الذي لا يطرقه الوهن، يملكون توحيد القصد وصدق التوجه، وشرف الغاية، بحيث لا يضل بهم فيها سبيل، ولا تختلف لهم فيها وسيلة، ولا يزيغ لهم رأي. ففرنسا تقاتل على باطل وهو الاستعمار، والمجاهدون يقاتلون على حق وهو عزة الحياة وكرامة العروبة ومجد الإسلام، وفرنسا تقاتل في سبيل استعباد الإنسان وامتهان كرامته، وهم يقاتلون في سبيل تحريره وإسعاده وعزته، فهل يستويان مثلًا؟

* مسودة لمقال كُتب في القاهرة، سنة 1959.

ص: 243

وفرنسا استعمارية بطبيعتها، ولا تلتذ من ثمرات الاستعمار إلّا باستعباد المستضعفين من خلق الله، وانتهاك حرماتهم، والرقص على جثثهم، والطرب لأنينهم، وعندها أن نهب الأموال وسلب الأرزاق وتجريد الضعفاء من أسباب القوّة، ونشر البؤس والأمراض، كل ذلك يأتي في الدرجة الثانية بعد تعذيب الأبدان وسلب الإرادات وقتل الضمائر وكأنها في القرن الأخير تنبهت إلى أنها وارثة الرومان الأقدمين، فأرادت أن تبلغ مثل ما بلغ الرومان، أو فوق ما بلغ الرومان من اتساع الرقعة وبسط السلطان وسوق العالم بعصا القوّة والبطش، وكان يمكن أن تبلغ هذا في غفلة من الدهر وفي ساعة انكدار النجوم وإدبار الأيام وتسلط النحس على كثير من الشعوب، كما كان يمكن أن تبلغ هذا من طريق الاحسان والعدل

ولكنها الأعراق المتأصلة في الخبث لم تدع لها منفذا لتصور شيء اسمه العدل، أو شيء اسمه الاحسان.

تنتحل فرنسا لنفسها وصف العظمة، والعظمة نوعان: عظمة نفسية طبيعية في الأفراد أو في الشعوب، وعظمة مزورة مصطنعة، ومرجع الأولى إلى سمو الروح الإنساني الذي تنشأ منه الفضائل كلها كالرحمة والمحبة والعدل والاحسان والوفاء والصدق والعفة، وهذه هي أمهات الفضائل في الأفراد وفي الشعوب. ومن فضل الشيطان على فرنسا أنها عارية من هذه الفضائل كلها، وتاريخها الاستعماري المديد كله شهادة ناطقة بهذا، فما رأينا استعمارًا أفجر من الاستعمار الفرنسي ولا أخشن منه مسًا، فهو يتعمد جعل الرذائل أساسًا لحكمه ومعاملته للضعفاء الذين يقعون في قبضته: فمن ظلم لا رحمة معه، إلى استئثار لا عدل فيه، إلى نهم لا قناعة فيها، إلى لصوصية لا حد لها؛ ولو اقتصر بلاؤه على الظواهر المادية لهان الأمر قليلًا، لكنه يجاوزها إلى الدين، وإلى عقائده في النفوس، وإلى مدب السرائر ومعتلج العواطف، وإلى الصلات الروحية بين الأخ وأخيه، وبين الجار وجاره. ومن لئيم المكر والكيد والاضلال في هذا الاستعمار أنه يعتمد على القانون، والقانون هو الذي يصنعه، وهو الذي ينفذه وهو الذي يطبقه، كما شاءت أهواؤه في التشريع والتنفيذ، ومن تعمقه في المكر وقلب الحقائق أنه يسخر تلك القوانين لحماية الرذيلة، فالذي يفتح مدرسة لتعليم الأطفال مبادئ دينهم ولغتهم مجرم مخالف للقانون، أما الذي يفتح مخمرة يفسد بها عقول الناس ويتلف أموالهم فهو حر تحميه تلك القوانين، وأمثال هذا كثير.

هذه وأمثالها هي الأساطين التي بنيت عليها العظمة الفرنسية التي أثمرت هذا الاستعمار، والتي ما زال يتبجح بها ساسة فرنسا والمغرورون من رجال الاستعمار فيها، ولو أن هذا التبجح ارتفع صوته قبل الحربين العالميتين ويوم كانت تتمتع بسمعة عسكرية ترهب وتخيف، لقلنا: لعل وعسى، فأما بعد تينك الحربين، وبعد ثورة الهند الصينية، وبعد ثورة الجزائر، فقد كشفت المحسوسات عن المدسوسات، وعلى أن تلك العظمة التي لا تعتمد على الأخلاق النفسية ولا تعتمد- أول ما تعتمد- على الروح، هي عظمة زائفة دعية.

ص: 244

إن هيبة الأسد تنبعث من أظافره وأنيابه، فإذا أصبحت أظافره مقلمة، وأنيابه مهشمة، فقد بطل سحره وضاعت هيبته.

إن العظمة الحقيقية لا تتحدث عن نفسها بلغة الكلام، وإنما تفصح عنها الحقائق الملموسة من أعمال ومعاملات، وصدق يحوط ذلك كله، ولأمر ما لم تعلُ هذه النغمة بالتحدث عن عظمة فرنسا قديمًا في أيام صعود نجمها وإقبال أيامها، وإنما كثر تردادها ولوكها في هذه السنوات الأخيرة، كأن ذلك مقصود لتغطية الهزائم المتلاحقة على فرنسا في الميدانين السياسي والاجتماعي. ولو كان الساسة الفرنسيون عقلاء لهداهم العقل الرصين الرزين إلى التي هي أقوم، وهي تبديل العقلية العتيقة كما يبدل أحدهم ثوبه إذا اتسخ، ولأرشدهم إلى تطهير الروح المدبرة، واستبدال السيئة بالحسنة، والظلم بالعدل، والاستئثار بالايثار، والانانية بالمساواة، وسوء المعاملة للناس بحسن المعاملة، ولكنهم عموا عن رؤية الحقائق الماثلة، وصَمُّوا عن سماع الكلمة العاقلة، فكأن نظافة البدن عندهم أهم من نظافة النفوس، وكأن تدبير الجسد ألزم في نظرهم من تدبير الممالك.

كانت فرنسا وما زالت ثائرة على الشعب الجزائري ثورة متماسكة الحلقات من قرن وربع قرن، يعني من معارك الاحتلال الأول، فلم ينطفئ لها غيظ باستسلام الجزائريين وبالقائهم السلاح، بل بقيت الاحقاد تغلي وتظهر آثارها في كل ما تعاملنا به فرنسا

تظهر في القوانين المسنونة لحكمنا، وهي قوانين خاصة بنا، وفي التعاليم التي يسير عليها صغار حكامها فينا، وفي استمرار نزع الأرض الصالحة من الأهالي بالقوّة وإعطائها إلى المعمر الأوربي أيًّا كان جنسه، وفي الاستيلاء على جميع معابدنا وأوقافنا وزيادتها في رقعة الاستعمار، ولم يكفها هذا، بل حرمتنا من اختيار أئمتنا، ووضعت جميع المساجد تحت يدها، وأصبحت هي التي تعين الإمام والمؤذن والقيّم، لتسخرهم في أعمال بعيدة عن الدين، امتهانًا لكرامة الدين، ولقد بلغ بها هذا الامتهان حده في المدة الأخيرة فسخرت جميع رجال الدين الموظفين للتجسس على إخوانهم، وأصبح تجسسهم لها شرطًا في الوظيفة الدينية، وحرمت علينا تعلم ديننا إلّا بمقدار لا يغني ولا يفيد، وحرمت علينا تعلم لغة ديننا حتى المبادئ الطفيفة، وحرمت علينا تعلم لغتها إلّا بمقدار ضئيل تهيئنا به لخدمة الحكومة في وظائف الترجمة، ولخدمة السادة المعمرين، ولولا تيار من النهضة طغى منذ ثلاثين سنة تقريبًا فدفع طائفة من شباب الأمة إلى اقتحام أسوار الكليات والجامعات، وعدم الاكتراث بالأشواك والعراقيل المنثورة في طريقهم إليها- لولا ذلك التيار- لما وجدت هذه الطائفة القليلة التي تحمل لواء الثورة اليوم ولما كانت النهضة السياسية التي تقدمت الثورة.

وضربت فرنسا بيننا وبين إخواننا في الشرق سدًا منيعًا وستارًا حديديًّا أين منه ستار الروس، ومن فروع هذا السد أنها لا تسمح برخصة الحج الذي هو فرض ديني إلّا لأتباعها

ص: 245

المخلصين، ومع إخلاص هؤلاء الأتباع فإنها تحيطهم بسياج من الجاسوسية ولا تسافر قافلة الحج إلّا تحت رئاسة حاكم إداري استعماري من الطراز الأول يبقى في جدة ويدخل جواسيسه من الحجاج إلى الحرمين وهو متصل بهم في كل دقيقة.

هذه جوانب بارزة من ثورة فرنسا المستمرة علينا، وهي حقائق يراها كل جزائري، ولكننا ضربناها أمثلة وأقمناها شواهد، وبعدها فروع تتناول جزئيات حياتنا الفكرية والعقلية والمادية

فانظروا هداكم الله كيف تحيا أمة على قوانين جائرة يضعها عدوها ولم يشركها في وضعها ولا تنفيذها.

ومن أسباب هذه الثورة من فرنسا علينا أننا عرب، وأقوى أسبابها أننا مسلمون، وأننا لم ننس الوشائج المتشابكة بيننا وبين بني أبينا في الشرق العربي، وبيننا وبين إخواننا في الشرق الإسلامي، وأننا نؤمن بالقومية العربية إيمانًا راسخًا ونفخر بها فخرًا طالما أطار صواب رجال الاستعمار، ولحقنا بسببه من الأذى ما لا يعلمه إلّا الله، وأننا نولي وجوهنا شطر البلاد العربية التي هي مشرق ديننا، ومجتمع أنسابنا، والصفحة الأولى التي خط عليها تاريخنا.

فما بال فرنسا حاضنة الإنسانية بزعمها، وحامية الحضارة الإنسانية في دعواها، تضيق ذرعًا بثورتنا عليها أربع سنوات، ويطيش صوابها إلى درجة الجنون، فتسوق علينا الجيوش الجرارة بالأسلحة الفتاكة، وتتدلى بأخلاقها إلى الوحشية، فتعذّب الأبرياء فنونًا من العذاب لا تخطر على بال، ثم تقتلهم بطريقة يتبرأ منها الوحش الضاري الموكول إلى غرائزه، ثم تمعن في تقتيل الأمهات الحوامل والأطفال والعجزة الذين تحرم قتلهم قوانين السماء وقوانين الأرض، مما يدل دلالة قاطعة على أنها مصممة على إبادة الجزائريين.

من هنا يأخذ العلماء والأخلاقيون الدليل على أن الشر أصيل، وأن حديث الخير والمدنية والعلم في الشعب الذي تنبت فيه هذه الموبقات حديث خرافة.

صحيح أن الاستعمار يكون استغلالًا في أول أمره، ثم ينقلب التذاذًا بالتسلط والاستعباد في وسط أمره، فإذا بلغ أشده أصبح سعارًا كالكلب المكلوب، ثم يصبح مرضًا عضالًا في أهله لا ينفع فيه علاج، والحكيم كل الحكيم هو من يكتشف دواء لداء الاستعمار في نفوس الاستعماريين، فهو والله أخطر وأشد فتكًا بالبشرية من داء السل والسرطان، وإنني أتلمح أن داء الاستعمار أيسر علاجًا من السل والسرطان، وانه لو تداعى عقلاء الأمم وأطباؤها الروحانيون وأخلصوا في مكافحته لاجتثوه من أصوله.

كانت ثورة الجزائر من أول يوم تحمل في ما تحمل من معان أنها ليست ثورة على فرنسا من حيث أنها دولة، ولا على الفرنسيين من حيث أنهم أمة، فنحن أعقل من أن نثور ثورة مستميتة على حكومة أو على جنس كيفما كانت تلك الحكومة أو ذلك الجنس، ونحن

ص: 246

قوم أدبنا ديننا بأن الحرب مفسدة لا ترتكب إلّا لدفع مفسدة أعظم منها، وأوصانا بأن لا نغمس يدًا في فتنة وأن لا نبدأ أحدًا بالقتال، وأن لا نقاتل إلّا من قاتلنا، وأن لا نركب إلّا أحسن المحامل ما دام جزء في المائة حسنًا، واعلمنا أن الحسنات يذهبن السيئات، ولكن ما ذنبنا إذا بدأنا الاستعمار الفرنسي بالشر وسوء المعاملة، وحرمنا من جميع مقوماتنا، واعتدى على ديننا فتعمده بالمسخ، وعلى شعائرنا فتعمدها بالتعطيل، وعلى مساجدنا فتعمدها بالهدم واتخذ من بعضها كنائس، وعلى لغتنا فتعمدها بالمحو، وعلى فضائلنا فغمرها بالرذائل، حتى أصبح الجو الذي يجمعنا وإياه كله عاتم غائم ليس فيه إشراق ولا صفاء، وقد صبرنا على هذه الحالة التي لا يصبر عليها إنسان ولا حيوان مدة تزيد عن القرن، فهل من عاذر؟ وهل من منصف؟ وهل من عاقل؟ وهل من معين؟

وكانت ثورة الجزائر من أول يوم تحمل في ما تحمل من معان أنها ثورة على الظلم والجور والاستعباد وتلك الشرور التي ضربنا الأمثلة على سائرها في هذه الكلمة، وكذلك النفوس الحرة إذا بلغ بها الضيم مبلغًا تزنه بالموت فيرجح، وتيأس من خير الحياة وخير الأحياء وتتلمس المخرج إلى نور الحياة من جهاتها الست فلا تجده إلّا ضربًا من المحال، فهي معذورة حين تتلمس الراحة من طريق التعب، والحياة من طريق الموت، وهي معذورة إذا اندفعت في طلب الموت بأكباد حرار إليه، ظماء إلى موارد الردى لا ترهبها قوة عدوها، ولا تخيفها وفرة سلاحه، لأنها وزنت أمسها وغدها بالقسط، فأقدمت وهي على بصيرة من أمرها، وقرأت حسابها لما تجره عليها الحرب من تشتيت شمل وتحيّف مال، وعلمت أنها إن لم تلق الموت مرفوعة الرأس لقيها الموت وهي ذليلة، وهو ميزان- كما ترون- لا يستخدمه ولا يركن إليه إلّا من كان في مثل حالة الشعب الجزائري في الظلم والهضيمة، وهي- كما ترون- مغامرة لا يغامرها إلّا من يؤثر الموت المعجل على الموت البطيء.

وإن لم تكن إلّا الأسنة مركبًا

فلا يسع المضطر إلّا ركوبها

فهذا شعب حر أصيل وقفت به صروف الدهر على صراط أدق من الشفرة، وحملته على تجرع واحد من اثنين أحلاهما مر، فلا تلوموه إذا حكم السيف وترك للأقدار تقدير العواقب، وقد تولته العناية الالهية، فلم يزل منذ خطا الخطوة الأولى في السبيل الذي رضيه، يستنشق من نفحات النصر الالهي والتأييد الرباني ما ينعشه ويشد من عزيمته، وما زالت تفعمه من روائح النصر في كل خطوة ما يدفعه إلى الخطوة الثانية مسدّد الخطى، وهو إلى هذه الساعة مغتبط بما يقدمه لعدوه من هزائم يزيد في مرارتها في ذوق العدو، وحرارتها في صدره

أن هؤلاء المجاهدين لا يقاتلونه بالأسلحة التي تعرفها الحرب، وإنما يقاتلونه بسلاح الإيمان والثقة بالله وبالنفس، إنما يقاتلونه بالسلاح الذي يعرفه منهم يوم كانوا معه جنبًا إلى جنب في الحربين الماضيتين، وما ذلك السلاح إلا الشجاعة والاقدام والثبات، وإذا جاء نصر الله بطل كيد الأقوياء.

ص: 247

ليت شعري، أية فائدة حقيقية تجنيها فرنسا من وراء هذه الحرب؟ وأي مغنم تكسبه منها؟ نحن نعرف الجواب الصحيح.

إن الفوائد من هذه الحرب لا تعود إلى فرنسا كدولة، وإلى الفرنسيين كأمة، ولا تعود إلى التاريخ الفرنسي بصفحات زاهرة بالفخر، مشرقة بالمجد، وإنما تعود إلى طائفة مخصوصة يسمونها ظلمًا "المعمرين"، وهي التي خربت الجزائر وتوشك أن تخرب فرنسا وتأتي بنيانها من القواعد لجشعها وأنانيتها وحرصها على جمع المادة.

هذه الطائفة تعد بضع مئات من الآلاف، منهم سبعون في المائة أجانب عن فرنسا لا يبالون أماتت فرنسا أم عاشت، لأنهم ليسوا منها في الصميم، وإنما هم أوزاع من طليان وأسبان وكورسيين ومالطيين، جاءت فرنسا بأجدادهم من مطارح البؤس والفقر، وغرستهم في أرض الجزائر من حيث اقتلعت الجزائريين، وأفاضت عليهم النعم، وسهلت لهم وسائل الاستثمار، ودللتهم كما يدلل وحيد أبويه، ففي سبيل هؤلاء ونزولًا عند مرضاتهم ومطامعهم التي لا حد لها تسوق فرنسا على الجزائريين الأصلاء مع مطلع كل شمس الجيوش الجرارة وتملأ عليهم البر والبحر والجو، وتنفق المليارات من الفرنكات في كل يوم، وتستجدي المعونة الذليلة من الدول العظيمة، وتعطل الواجبات عليها لحلف الأطلسي وهو السبيل الوحيد لوجودها وبقائها.

ولو كانت هذه الحرب لما هو الأصل من مذاهب الاستعمار وهو المحافظة على الأسواق التجارية التي تعود على فرنسا نفسها بالفوائد، لوجدت لنفسها عذرًا في العالم الاستعماري المتهافت المتداعي البناء، ولكن الشعب الجزائري المسلم العربي هو المستهلك وهو العميل الدائم للتجارة الفرنسية، وهو الذي يدفع للخزينة الحكومية أكثر من ثلاثة أرباع ما يعمرها من مال، فإذا كانت فرنسا تعمل على إبادته في سبيل إرضاء هذه الطائفة المستغلة من المعمرين فهذا أكبر دليل على أنها سفيهة لا تعمل لمصلحتها.

إن هذه الطائفة- طائفة المعمرين- لا تكنّ لفرنسا أي حب ولا تدين لها بالولاء، ولا تشعر بشيء من الارتباط بها إلّا بورقة الجنسية الفرنسية، فالطلياني يشعر في الصميم أنه غريب عن فرنسا، ويعتز بجنسيته الاصلية، ويتألم لألم أبناء جنسه الأصلي، ويفزع إليهم في الملمات علنًا، لا يكتم عواطفه ولا يتستر بها، وفي الحرب العالمية الأخيرة أعلن الطليان من هذه الطائفة ارتباطهم القلبي بإيطاليا وعواطفهم مع المحور، حتى بعد إعلان إيطاليا الحرب على فرنسا، وكل ما فعلت فرنسا أنها وضعت الجالية الايطالية تحت الحراسة إلى أن انتهت الحرب، وكذلك حال الأسبان المتوطنين بالجزائر في أيام الحرب الأهلية بين فرانكو والجمهوريين، فقد كان المعمرون الأسبان في مقاطعة وهران يعاونون فرانكو جهارا بالمال

ص: 248

والحبوب، وتذهب البواخر مشحونة من ميناء وهران والغزوات بالأقوات والخمور والزيوت، ولا تحرك السلطات الفرنسية ساكنًا.

ولقد جمعني القطار في فترة انكسار فرنسا واجتياح الجيوش الألمانية لها بواحد من هؤلاء الفراعنة، وجرني إلى الحديث معه في الحالة الحاضرة إذ ذاك، فسألني رأي عن عواقب انهزام فرنسا أمام الألمان، فقلت ان قوانين الحرب معروفة، فسألني سؤال المستعطف الذي لا يهمه إلّا أمر نفسه: وما يصنع الألمان بنا نحن معشر الأجانب الذين لم ندخل معه في حرب، فقلت له قول الساخر المستهزئ: لعله لا يمسكم بسوء ما دمتم أجانب عن فرنسا، فأجابني وقد لمعت أساريره من الفرح: نحن عند المثل العربي (اللي يتزوج أمنا هو عمنا) وإذا كان الألمان لا ينزعون منا أملاكنا وأراضينا فلا فرق عندنا بين أن تكون الحكومة فرنسية أو ألمانية.

هذا نص كلماته باللهجة العربية العامية وكان يحسنها كأهلها، أما أنا فقد أطرقت حصة من الزمن متعجبًا من حال هؤلاء الأجانب المتفرنسين وهذا مبلغ ولائهم لفرنسا وعواطفهم نحوها، يظهره فرد منهم له في الفَرْنَسَة ثلاثة أو أربعة أجداد، وتقلب هو وأجداده في النعيم قرنًا كاملًا، فلم يحمد لفرنسا نعمة واحدة، ولم يتألم للمحنة التي هي فيها، ولم ينحصر تفكيره في وقت شدتها إلّا في ضيعته ومصلحته الخاصة، وحال هذا المتحدث معي هو حال جميع المعمرين الأجانب المتفرنسين لا يشذ أحد منهم عن هذه الحالة .... وعجبت أكثر من ذلك لخذلان فرنسا في تدليلها لهؤلاء الناكرين للجميل وكيف تقدمهم على أبناء الوطن وتحصي هؤلاء الأجانب الكافرين بها بموت الوطنيين، وطالما هددوها بالانفصال وتشكيل حكومة منهم اعتمادًا على أموالهم الوفيرة، وما حادثة إعلان انفصال العسكريين في الجزائر عن الحكومة الفرنسية وإسقاط الجمهورية الرابعة إلّا برهان واضح على ما تنطوي عليه هذه الطائفة الطاغية لفرنسا المغرورة.

ومن حجّتنا في هذا الباب- باب انطواء هذه الطائفة على إرادة السوء لفرنسا نفسها- ما وقع منذ بداية عهد "ديجول"( De Gaulle) في إعلانهم الانفصال عن فرنسا وتهديدهم بغزو باريس ووضع الحكومة كلها في السجون، والقادة العسكريون في الجزائر لا ضمائر لهم ولا ذمم، وهم في قبضة هذه الشرذمة من المعمرين، يكيفون عقولهم بالمال، ويسخّرونهم لمصالحهم الخاصة ولو خربت فرنسا، وما زالوا منذ عهد بعيد يلوحون بالانفصال عن فرنسا كلما هُدِّدت مصالحهم، ولو تركت فرنسا في قلوبنا موضع أنملة للرحمة لرحمناها من هذه المهانة التي تلقاها من هذه الطائفة، وكلنا موقنون بأن فناء فرنسا لا يكون إلّا على يد هذه الطائفة المستغلّة التي استغنت على فقر الشعب الجزائري، وإذا أراد الله هلاك دولة جعل ذلك الهلاك على يد من تصطفيهم.

ص: 249

إن هذه الثورة أثارت كوامن الأحقاد الدفينة في صدور الفريقين، وكلما امتد عمر الثورة يومًا ازدادت نار الحقد اضطرامًا، فلا يبقى في قلب واحد من المتحاربين مكان للصفاء. فالمعمرون والجيش المسخر لخدمة أغراضهم وفرض أنانيتهم، يمعنون في التنكيل بمن أوقعهم القدر في قبضتهم من المستضعفين، وما ينقمون منهم إلّا أنهم حملوا السلاح في وجه أسيادهم، ورجال المقاومة من المجاهدين ممعنون في التنكيل بالجيش الفرنسي وبجميع أفراد هذه الطائفة وإلحاق الهزائم الفاضحة بهم وتلطيخهم بالعار الذي لا يمحوه الدهر، وعذر المجاهدين في هذا أن هذه الطائفة هي أصل البلايا التي أحاطت بالشعب الجزائري، فكيف يمكن، بل كيف يتصور مع هذا كله أن يتناسى الفريقان أيام القتال وما صاحبها من تقتيل وتعذيب وتشريد للجزائريين، وما وقع فيها من انتهاك لحرمة هؤلاء الفراعنة المتألهين، وتحطيم لمزارعهم، وقضاء على سلطانهم، وخرق لحجاب هيبتهم، وتكدير لمعيشتهم، واغتيال لطائفة كبيرة من أعوانهم الذين كانوا يجرون في أعنتهم، وانه لأمر عظيم عندهم؟

والخلاصة أن الحالة بيننا وبينهم وصلت إلى حدّ لا يمكن معه أن نجتمع تحت سقف واحد ولا أن نعيش في وطن واحد.

ليت شعري هل يقيّض الله لثورة الجزائر، بعد خمود نارها، مؤرّخًا من أبناء الجزائر مستنير البصيرة، مسدّد الفكر والقلم، صحيح الاستنتاج، سديد الملاحظة، فقيهًا في ربط الأسباب بالمسببات، فيؤرخ لهذه الثورة- التي طال أمدها أربع سنوات وهي تطوي الأشهر من السنة الخامسة- تاريخًا لا يقف عند الظواهر والسطحيات كعدد القتلى من المجاهدين وأعدائهم أو مجاوزة ذلك إلى قتلى المستضعفين والنساء والأطفال والعجزة، فكل ذلك من قشور الثورة، والحرب لا عقل لها ولا ضمير، بل يتغلغل إلى ما وراء ذلك من الأسباب النفسية التي تحرك فرنسا إلى هذه المجازر البشرية، وإلى العوامل التي تدفع المتقاتلين إلى هذه الاستماتة في حرب حارت فيها عقول ذوي العقول وأحد الطرفين فيها محقّ يدافع عن حقّه الذي تشهد السماء والأرض والجنّ والإنس أنه حقّ، والآخر مُبطل يشهد الشرق والغرب والبرّ والبحر أنه مبطل، ثم يُجَلِّي مواقع العبر من هذه الثورة المتأجّجة، فيُجَلِّي كيف قاتل شعب مسلم عربي أعزل دولةً كانت إلى الأمس القريب ترهبها الدول القوية، ويثقل ميزان الاعتبار والعظمة فيها جيشها ووفرة وسائلها، ويُجَلِّي الأسباب الحقيقية الكامنة في نفس المسلم العربي الجزائري التي دفعت إلى هذه الثورة، وهي إسلامه الصحيح وعروبته الصريحة وتاريخه المنطوي على المثل العليا من إباء الضيم وتمجيد الكرامة، وهي خلال حرّة أصيلة في دمه وجِبِلَّتِه، وكيف تعمدها الاستعمار الفرنسي بالمحو والإِنْساء حتى كاد يفقدها بعد أن أفقده وسائلها من مال وعزة وفضائل.

ص: 250

لا نخطط الخطوط لذلك التاريخ المرتقب، ولا نحدد الحدود لذلك المؤرخ ولا نقدم له صورة هينة، فذلك المؤرخ الذي أعدّه الله لهذه المنقبة لعلّه لم يولد بَعْدُ، وإنما الشرط فيه أن يكون جزائريًا، فإن كان ممن لفظتهم الأرحام قبيل هذه الثورة فذلك أكمل له، لأنه يكون قد فتح عينيه على ويلات الاستعمار في آخِرِ عمره بالوجود، وذاق- مهما يكن عمره- علقم الاستعمار في طور كلبه وسعاره، والوحش الضاري أشذ ما يكون عرامًا ووحشية وخبثًا حينما يوقن بقرب انتزاع اللقمة من بين شدقيْه.

لعمري لَئنْ وُجد هذا الكتاب التاريخي على النحو الذي أتصوره ليكُونَنَّ بدعًا في كتب التاريح كما كانت الثورة التي يؤرّخ لها بدعًا في الثورات، وإن أكبر أمنية من الأماني التي أتصورها أن تؤرخ الثورة الجزائرية على هذا النحو، وإنه لتاريخ لا يستمدّ مصادره الأولى إلّا من نفس الجزائري وعروبته وإسلامه، وشهامته وجدّه وصراحته وبساطته في فهم الحياة والأحياء، (ويا ليتني فيها جذع).

ص: 251