الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستعمار الفرنسي في الجزائر *
بسم الله الرحمن الرحيم
دعاني مجلس إدارة "معهد الدراسات العربية العليا" إلى المساهمة في نشاطه العلمي بإلقاء أربع محاضرات على طلّابه من شبّان العرب الذين أحبّهم، وأتمنّى لهم الخير، وأعلّق عليهم الآمال في إحياء البيان العربي، وإعادة مجد العرب ومفاخرهم، وتجديد تاريخهم وروحانيتهم وأخلاقهم، والتكفير عما اقترفته أجيالنا السابقة من مآثم فرّقت الكلمة وشتّتت الجمع، وباعدت بين القلوب حتى مكّنت فينا للغرب ولغاته ومادياته، فأخذنا بقشورها من غير أن نشاركهم في لبابها، وأنست الماضي المشرق فانفصل عنه الحاضر فأظلم واختلّ، فلم نستطع أن نبني عليه مستقبلًا باسمًا عن حياة تخزّها خضرة ذلك الماضي ونضرته، فتثمر السعادة والسيادة والعزّة والكرامة، وتعود إليها تلك الخصائص الأصيلة في الدم العربي كلّما صفا ورقّ.
حدّدت لي إدارة المعهد موضوع المحاضرات الأربع، وهو الاستعمار الفرنسي في الجزائر فيما بعد الحرب العالمية الأولى وآثار الحركات الوطنية فيها في هذه الحقبة من الزمن، والموضوع طويل عريض عميق، لا توفيه حقّه أربع محاضرات محدودة الدقائق، ولا عشر محاضرات، وإن كان الظرف الزمني لهذا الموضوع قصيرًا، لأن هذا الظرف- مع قصره- مملوء بالحوادث والتيّارات مرتبط بأمثالها في العالم، متأثّر بالدعايات العامة للحرية والتحرير، مصاحب للتغيّرات السياسية والاضطرابات الاجتماعية، والفورات الوطنية المتأججة، وقد انتقل فيه الاستعمار من المدّ إلى الجزر في حقيقته، ومن الجزر إلى المد في ظاهره، لأنه بلغ أرذل العمر، وبدت عليه آثار الهرم، فسترها بتبديل الأسماء والألقاب، من الحماية والوصاية إلى الانتداب، كما يستر الشيخ شيبه بالخضاب، وابتليت فيه المذاهب الاجتماعية بالتقلّب والإيهام والإبهام، وتنبّهت فيه أمريكا إلى عزلتها فلمست أوربا في سبيل
* محاضرات في معهد الدراسات العربية العليا بالقاهرة، أُلقيت في مايو 1955.
المصلحة لمسة ذاقت فيها حلاوة السلطة، فقالت بلسانها ما ليس في قلبها: دعت إلى تحرير الشعوب بلسانها وأضمرت لهم استعبادًا من نوع جديد يصحّ أن نسمّيه استعمار الاستعمار.
كل هذه العوامل صيّرت هذا الظرف القصير طويل الذيول، لا تقوم به أربع محاضرات.
ألقيت هذه المحاضرات ارتجالًا في أيامها المحدودة في أربعة أسابيع، على تلامذة قسم التاريخ في المعهد، وسرّني أن كان فيهم المصري والسوري والعراقي والفلسطيني والتونسي والمراكشي، وكلهم من المتقدمين في الثقافة، ومن عمار الصفوف النهائية في الدراسات العليا، وكانت إدارة المعهد- جريًا على أصولها- أشارت في رسالتها إليّ بكتابة المحاضرات، لتطبعها وتوزعها على الطلّاب، وليس من عادتي أن أكتب وألقي من المكتوب، ولكنني- نزولًا عند إشارتها واقتناعًا بسداد هذه الإشارة- كتبت بعد إتمام المحاضرات ما يحاذي معانيها، وما بقي في الذاكرة من بعض ألفاظها، ولم أقف عند حدود تلك المعاني فتوسّعت فيها وزدت عليها ما هو أصل لها أو متفرّع عنها، لأن الكتابة تبقى وتعمّ فائدتها، بخلاف الكلام فإنه أعراض سائلة زائلة، وألممت فيما كتبت بشيء من تاريخ الجزائر من يوم أسلمت، ومن يوم تعرّبت، ثم بشيء من أخبار الدول التي قامت بها من أهلها، ثم مررت بتاريخ العهد التركي وهو أطول العهود فيها، مرورًا أهدأ مما سمعه الطلّاب منّي وأبطأ.
وأنا أرجو لهؤلاء الشبّان ولجيلهم أن يوفّقوا في وصل ما انقطع من روابط العروبة وأرحامها، وسبيلهم المهيع إلى ذلك أن يتعارفوا على أساس الأخوة والمحبّة، وأن يعرفوا هذه القطع المتجاورات التي وصلها الله وقطعناها، على أنها وطن العروبة الأكبر، ولئن فعلوا ليعودن للأمة العربية مجدها وسؤددها على أيديهم وليكونن بذلك أسعد الناس.
محمد البشير الإبراهيمي