الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي الموضوع
____
الجزائر- أيها الشباب- قطعة ثمينة من وطنكم العربي الأكبر وجزء قيّم من تلك المملكة العزيزة التي شادها أسلافكم على الإيمان، وساسوها بالإنصاف، وحاطوها بالعدل، وعمروها بالعلم والخلق، ولم يكن فتحهم لها فتحًا ممّا يعرفه العسكريون في جميع الأزمنة، ولا استعمارًا يسود فريق على فريق، ويذلّ فيه صاحب الدار لعزة الفاتح، وإنما كان فتحًا للأذهان، وغرسًا للدين والإيمان، ونشرًا للعدل والإحسان، وإعزازًا للسكّان، وإنقاذًا لهم من عتو الرومان.
ولكن هذه القطعة وجارتيها تونس ومراكش مجهولات عندكم، لم يعرفكم بهن الآباء ولا المدارس ولا الكتب ولا الكتاب، فإذا أسمعوكم عنهن شيئًا فالشيء الذي ينفر ولا يحبّب، ويزهد ولا يغري، أو الكلام الذي يردّده عنها الاستعمار، يخدّر به الشواعر، ويبعد به الأخ عن أخيه، وليس الذنب في جهلكم بها ذنبكم، وإنما هو ذنب محيطكم العام، وقد عدت على هذه القطعة من وطنكم العوادي، منذ قرن وربع، فما تحرّك لنصرتها ساكن في هذا الشرق، ولا فهم أبناء العمومة فيه أن احتلال الجزائر من دولة أجنبية نذير من النذر بانتثار السلك، وضياع الملك، لأن الأحوال السيّئة التي جرت ذلك الاحتلال كانت متشابهة والسلطة العثمانية الجافية الغليظة كانت تشمل شرق العرب وغربهم.
والجزائريون إخوانكم الأقربون فكلّهم عرب وكلّهم مسلمون، والأخوة في حقيقتها العليا نصرة وتعاون، لا غفلة وتهاون، فأين نحن من ثمرات هذه الأخوة؟
…
قد ذللنا حتى ذلّت العقائد في نفوسنا، والكلمات في ألسنتنا، فلم تبق للعقائد في نفوسنا تلك القوّة التي تتصرّف في الإرادات، ولم تبق للكلمات في ألسنتنا تلك الحرارة التي كانت تحرّك الأعمال.
فتن الاستعمار الغربي بعضنا عن بعض ثم فتننا عن أنفسنا، ورمانا بمقوّماته ومنوّماته فأصمانا
…
رمانا بمقوّماته من قوة وعلم وصناعة، وبمنوّماته من كل ما يضعنا ويرفعه، ويضرّنا وينفعه، وراضنا على هذا جيلًا بعد جيل، حتى ماتت فينا نزعة السيادة والقيادة، وأصبحنا نعتقد أننا خلقنا من طينة غير طينته، وأن عقولنا صيغت من جوهر غير جوهره، فاستخفّ بنا كما استخفّ فرعون قومه فأطاعوه، وأمكناه من نفوسنا فقادها بخطام الشهوات كما يحب إلى حيث يحب، ومن عقولنا فاستهواها، ومن رقابنا فاستذلّها، ومن أوطاننا فاستغلّها، ومن وحدتنا فمزّقها، ولم نصحُ من ذلك التنويم - إن صحّ أننا صحونا- إلا والأخ متنكّر لأخيه، والحكومات متعددة متنافرة، والشعوب كثرة، ولكنها كغثاء السيل،
تعبد أصنام البشر، بعد أن أنقذها الإسلام من أصنام الحجر، ملك الجهل عليها أمرها، فهي لا تذكر ماضيها، ولا تحفل بحاضرها ولا تفكّر في مستقبلها، فهي تعيش بلا ماض ولا حاضر ولا مستقبل، وهي لذلك تصحب الدنيا بلا أمل في المستقبل، ولا صلة بالماضي. أما حاضرها فهو كحاضر الغنم، يطرقها الذئب فترتاع ويغيب عنها فترتع.
الجزائر- يا شباب العرب- عربية الأنساب واللسان، شرقية النزعات والنفحات، مسلمة الدين والآداب، كانت وما زالت كذلك من يوم طلعت عليها خيول عقبة والغزاة الفاتحين من أجدادكم، ومن يوم غطّت سهولها أبناء هلال بن عامر بن صعصعة، آتية من صعيد مصر، في أواسط المائة الخامسة، وكان لبني هلال في تلك الإغارة الكبرى قصد، وكان لله من ورائها حكمة. كان بنو هلال يريدون من تلك الإغارة على افريقيا الشمالية مراعي واسعة لإبلهم وشائهم، وسهولًا خصبة لتنقلهم وانتجاعهم، وكان لله في تلك الغارة حكمة وهي تعريب هذه الأقاليم التي استقامت على الإسلام أفئدتها، ولم تستقم على العربيه ألسنتها، والفاتحون الأولون فتحوا الأذهان لتعاليم الإسلام، والإسلام يستتبع لغته، فحيثما كان كانت، ولكنهم- لقلّتهم- لم يستطيعوا تعريب هذه الأوطان الواسعة، ولا كان زمانهم يتّسع لذلك، وإنما يتّسع لنشر الإسلام وإقامة حدوده، وكتابة علومه، فبهذه اللغة ازدهرت العلوم الإسلامية في حواضر المغرب وأمصاره، وبها دوّنت أصولها، أما جماهير العامة فلم يعلقوا منها إلا بما تؤدى به شعائر الإسلام، فلما جاءت الغارة الهلالية كانت هي المعرّبة الحقيقية للشمال الأفريقي وجباله وقراه وخيامه.
فمن حق الجزائر عليكم أن تعرفوها وتصلوا رحمها وأن تدرسوا تاريخها الذي هو جزء من تاريخكم، وأن تعدوا محنتها محنتكم، وقضيتها جزءًا من قضيتكم، وإذا كانت قضايا بلدانكم الخاصة عقدًا تحتاج إلى الحل، فمن الخطإ أن تعتقدوا أن كل قضية تحلّ وحدها، فهذا طمع في محال، وتعلّق بخيال، فاجعلوها قضية واحدة تسهل عليكم تصفية الحساب، والقوا عدوّكم جميعًا، تلقوا أصمّهم سميعًا.
خدرنا الغرب بالوطنيات الضيّقة فأصبح كل فريق منا قانعًا بجحر الضب يناضل عنه بمثل سلاح الضب، وهيهات إذا مزّقت الأطراف أن يحفظ القلب.
أصبحنا والمصري يتغنّى بمصر، واللبناني لا يرى إلا جبله، ودمشق تفخر بالمجد الغابر الذي شاده فيها مروان وعبد الملك، وبغداد مزهوّة بعهد الرشيد، من غير أن تطمح إلى أعمال الرشيد.
خدّرنا الغرب بهذا ليقسم الخبزة إلى لقم فيسهل عليه مضغها وازدرادها ثم هضمها، وقد حقّق غايته في الأولى والثانية ونحن معه في عملية الهضم، فإما أن نكون مغصًا في أمعائه، وعلة لموته، وإما أن يهضمنا فنستحيل غذاء له ومزيدًا في قوّته.