الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحمد شوقي *
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوان الأوفياء:
حيّاكم الله وأحياكم، وأبقاكم للعروبة تحيون مآثرها وتجدّدون مفاخرها، وللعربية توفون بعهودها، وتقومون بحقوقها، وتعمرون مواتها، وتنشرون أمواتها، فتخطون للباقين طريق الأسوة الحسنة من سير الماضين، وتدلونهم على أقدار الرجال ومواقف الأبطال
…
أيها الإخوان:
إني مغتبط لإحيائكم لذكرى شوقي شاعر العرب في وقت هم فيه أحوج ما يكونون إلى صيحاته التي تحرّك الخامل وتهزّ الجامد، وإلى نغماته التي تنعش العاملين وتنبّه الخاملين، فما رأيت في أكثر ما رأيت في هذه المناسبات التي تقام لأجلها الاحتفالات على كثرتها سببًا أشدّ ملاءمة لسببه من مهرجانكم هذا في ذكرى شوقي شاعر العربية العظيم.
ففي هذه الأيام كثر ترداد الساسة والخطباء وحملة الأقلام لكلمة العروبة والقومية العربية وجميع الألفاظ التي اشتقت من كلمة "عرب"، وعسى أن يكون هذا إيذانًا من الله بوحدة العرب فأَلْهَم الألسنة والأقلام ترداد هذه الكلمات كما ألهم أمية بن أبي الصلت وجماعة من زعماء العرب في الجاهلية ترداد الكلمات الدينية قبل البعثة المحمدية إرهاصًا للإسلام وتنبيهًا على إظلال زمانه.
وإن في جو الأمة العربية اليوم لوعودًا هذه بوارقها، فمن صنع الله لهذه الأمة، ومن تلقّي الإلهام الإلهي الصادق بإرادة الخير لها، ومن حسن الذوق لكل من يعمل في جمع شملها الشتيت أن تساق الشعوب العربية إلى غاياتها المرجوّة لمثل هذا النوع من التفكير الذي هو الدواء الوحيد لما رماها به الاستعمار من ضروب التخدير.
* في مهجان أحمد شوقي بالقاهرة، أكتوبر 1958.
إن هذه الأمة العربية هي هدف الاستعمار قبل كل شعوب الأرض، فهو لذلك لا يزال يعمل على تفريق أجزائها وتطفيف جزائها، وقد بلغ منها ما أراد بكيده وسحره حتى ينسيها ماضيها وأمجادها، فمن فروع التعبئة العامة للوقوف في وجهه والدفع في نحره أن نصرف هذا الجيل الذي فتنه الغرب بقوّته عن طريق هذه الفتنة، وأن نبيّن له ما يجهله من أن هذا الشرق مطلع الأنوار ومعدن الأسرار، وأن نعالجه من هذا الكسل العقلي الذي رماه بالجهل والجمود، وأنه إن أراد أن يبني العلم والبيان والقوة على أسسها الصحيحة فلْيَتَلَمَّسْها من معادنها في أسلافه ولا يأخذها بالتقليد للغرب والاستعارة من الغرب، وأن نهزه بِمِثْل أقوال شوقي في هذا الباب وما أكثر أقواله في ذلك، فهو الذي يخاطب مصطفى كامل بقوله:
أتذكر قبل هذا الجيل جيلًا
…
سهرنا عن معلمهم وناما؟
مِهارُ الحق بغّضنا إليهم
…
شكيم القيصرية واللجاما
لواؤك كان يسقيهم بجام
…
وكان الشعر بين يدي جاما
أيها الأخوان:
ليت شعري، هل كان شوقي يدري حين نظم هذا البيت:
هل كلام الأنام في الشمس إلا
…
أنها الشمس، ليس فيها كلام
أنه سيصبح أحق به ممن قيلت فيه؟ فقد وصل شوقي بشعره حينما اقتحم به جميع الميادين إلى مرتبة من مراتب الخلد لا يستطيع وصفها إلا هو بمثل هذا البيت.
ولقد دأب شوقي بتقليد المتنبي في أول أمره فجاراه، وما كبا وما قصَّر، ثم شآه في التشبيب الصادق والغزل الرقيق، ثم طاوله فطال عليه في وصف الآثار الباقية عن الحضارات الداثرة، وفي التغني بالأمجاد الغابرة لبني جنسه أو بني وطنه أو بني دينه، على حين كانت عبقرية المتنبي لا تتجاوز به مدح شخص يجود، أو شجاعة في وصف حروب وانتصارات قد يكون الغناء فيها لغير الممدوح، ولا تبرز العبقرية إلا في الحِكَم التي سجَّلها والأمثال التي سيّرها، أما الوصف الذي تتبارى فيه قرائح الشعراء، وتتجارى سوابقهم فيه فليس للمتنبي فيه كبير قيمة إذا استثنينا قصيدته في شِعْب بوّان وقصيدتيه في وصف الحمى وفي وصف الأسد وفي قطع قليلة من شعره.
ورأيي في شوقي معروف في المشرق والمغرب بين خلصائي من الأدباء وخلطائي من المتأدبين، فلم أزل- منذ كان لي رأي في الأدب- أغالي بقيمة شوقي في الشعراء السابقين واللاحقين، وربّما شاب هذا الرأي مني شيء من الغلو في مقامات الجدل والمفاضلة بين شعراء العربية، وما كنت أتهم نفسي بعصبية لشوقي، ولا كان الناس يتهموني بتحيّز، لأنني كنت قوّامًا على شعر شوقي أستحضره كله وأستظهر جُلّه، حتى ليصدق عليّ
أنني راوية شوقي بالمعنى الذي كان يعرفه أسلافنا في الراوية، ولقد حفظت الشوقيات القديمة قبل هجرتي الأولى إلى الشرق سنة 1911 ميلادية.
ثم أحفظ من شعر شوقي ما جدَّ بعد طبع الشوقيات الأولى، واستوعبت شعره في منفاه بالأندلس حفظًا لأول ظهوره في الصحف أو في أجزاء ديوانه بعدما طبعت.
وما كادت تلوح النهضة الأدبية في الجزائر بعد الحرب العالمية الأولى، ويُكْتَب لي أن أكون أحد قادتها حتى كنت أول الداعين دعوة جهيرة إلى الائتمام بشوقي وإلى احتذاء طريقته والسير على نهجه في الأدب العربي، وأول الدّالّين على روائع شعره. ولما جدَّ جدُّ تلك النهضة وتعددت المدارس العربية على يد جمعية العلماء الجزائريين، وقُدِّر لي أن أكون المشرف على توجيهها مكَّنْتُ لشعر شوقي في نفوس الآلاف من الناشئة الجزائرِية، فأنْبَتَتْ تلك النهضة من أولها على أدب شوقي وشعره، وفهمته ناشئتنا على وجهه لِحِكمه وأمثاله ولحسن تصويره ودقة وصفه، ولسهولة مدخله على النفوس، وإن آلافًا عديدة ممن ارتقوا ولو قليلًا في سُلَّم الأدب ليحفظون من غرر شعر شوقي وسوائر أمثاله ما يُجَمِّلُون به كتاباتهم وخطبهم ومجالسهم للمذاكرة، وإن كثيرًا من الشعراء الذين أنجبتهم النهضة الجزائرية ليترسّمون خطى شوقي ويسيرون على هداه، وتلوح عليهم مخايله وسماته.
وأول ما حبّب شوقي إلى نفوس ناشئتنا- على طراوة عودهم- هو ما يفيض به شعره من تمجيد للإسلام وبيان لآثاره في النفوس وتغنّ بمآثره وأمجاده وافتتان في مُثُله العليا التي قاد بها أتباعه إلى مواطن العزة والسيادة. ولا عجب، فناشئتنا نشأت على الفطرة الإسلامية النقية، وشعر شوقي أبلغ معبّر على تلك المعاني العالية، ونَهْجٌ شارع إلى سبل التأسي والاقتداء.
ولقد كان موت شوقي صدمة قوية للأندية الأدبية الناشئة بالجزائر التي كانت تأتَمُّ بشوقي وتسير على هديه وشعاعه مما ظهر أثره في قصيدة الشاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة التي رثى بها الشاعرين حافظًا وشوقي، حيث يقول:
دولة الشعر من الشرق انقضت
…
وانقضى فيها مراء الأمراء
أيها الإخوان:
إن الجزائر الفتية مدينة بجميع فروع نهضتها بل في أصول ثورتها لشوقي، فكم حَدَوْنا الشباب بشعره المطرب القوي، ووجَّهنا ذلك الشعر إلى مكامن الإحساس من نفوسهم، فكان ذلك أحد الأسباب فى ثورته الخالدة التي أقضت مضاجع الفرنسيين وأتت بخوارق العادات من الشعب الجزائري.
وإنَّا لنرجو إذا مد مدُّ النهضة الأدبية في الجزائر- بعد أن تؤتي هذه الثورة المباركة ثمراتها- أن سيكون لأدب شوقي أثره الخالد الفعّال في بناء الأدب العربي بالجزائر، كما كان له الأثر اللائح في الثورة نفسها، تأسيًا بما خلّده شوقي من أعمال الثائرين الأبرار في ليبيا وسوريا وتركيا.
إن الحكومة الجزائرية المؤقتة الفخورة بعروبتها لسعيدة بأن تُدعى إلى هذا المهرجان وتشارك شاعر العروبة شوقي الذي يقول:
رُبَّ جار تلفتت مصر توليـ
…
ـه سؤال الكريم عن جيرانه
بعثتني معزيًا بمآقي
…
وطني أو مهنئًا بلسانه
ومع تأثر الجزائر الشديد بشعر شوقي وعقيدتها التي لا تتخلخل في شاعريته، ومع اعترافها بأنه أول من هزّ هذا الشرق العربي ببدائعه وآياته فإن أدباء الجزائر ما زالوا يعتبون عليه، بل ما زالوا ينقمون عليه مَدْحه لفرنسا وافتتانه بحضارتها المزيفة وتخطيه الأصول التاريخية التي لا تعترف لفرنسا ببعض ما ينوّه به شوقي من فضائلها، فهو يقول:
دم الثوّار تعرفه فرنسا
…
وتعلم أنه نور وحق
جرى في أرضها، فيه حياة
…
كمُنْهَلّ السماء وفيه رزق
(وحررت الشعوب على قناها
…
فكيف على قناها تُسْتَرقُّ؟)
سامحك الله يا شوقي، أي شعب تحرّر على قنا فرنسا، فإن كان بعض ذلك فهو من باب الربا الفاحش؛ تأخذ فيه فرنسا أكثر مما تعطي وليس خالصًا لوجه الحرية والتحرير. وبعد، فهل كل الوفاء لشوقي أن نحيي ذكره في كل سنة مرة، وأن تقوم بعض الجمعيات فينا ببعض الواجب من البر بعظمائنا وعباقرتنا الذين هم مناط فخرنا ومعاقد التيجان لمجدنا واعتزازنا؟
إن هذالحق ابعض الواجب، وإن الذي فرّطنا فيه وقصرنا دونه أكثر بكثير مما تقوم به جمعياتنا وهيآتنا الرسمية، فليس من الوفاء لشوقي أن نذكره في السنة مرة، وأن نتبارى في الحديث عن شعره ومنزلته بين الشعراء، ثم يبقى في جميع العام منسيًا لا يذكره إلا المتمثلون بسوائر أمثاله.
رحم الله شوقي وأثابه كفاء ما قدّم للعربية من كنوز ثمينة، وما سنَّ للأدب العربي من أساليب بليغة، وما حرّك من همم العرب ونخوتهم.
والسلام عليكم ورحمة الله.