الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوم الجزائر *
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوان:
يسعدني أن أقف على منبر جمعية الشبان المسلمين فأرسلها باسم الجزائر تحية خالصة مضمخة بدماء الشهداء إلى جميع الشعوب التي هزّتها الحوادث المروعة التي تتكرّر مع كل شارقة في أرض الجزائر
…
أحيي فيهم هذه الروح الإنسانية التي حرّكتهم إلى الانتصار لإخوانهم الذين يخوضون معركة يشهد التاريخ المنصف أنها أعظم معركة سجّلها بين الحق والباطل، وبين الحرية والاستعباد، وبين المظلوم والظالم، وبين الخير والشر، وبين الضعف والقوّة، ويشهد التاريخ كذلك أنه لم يشهد بعد عصر النبوّة معركة تنتصر فيها الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، ويتجلّى فيها سرّ الإيمان وسرّ الروح مثل هذه المعارك الدائرة في الجزائر، حيث تنازل فيها قُوَى الخير، قليلة العدد معدومة المدد، قوى من الشرّ كثيرة الأعداد، موفورة الامداد، متصلة الإسناد، كاملة الاستعداد، فتدحرها وتنتصر عليها
…
لم يشهد التاريخ شعبًا ثار لحرماته المنتهكة فهزّ العالم من أطرافه وانتصر له سكان القارّتين مثلما شهد من الشعب الجزائري وشعوب آسيا وافريقيا، تداعت هذه الشعوب لميقات يوم معلوم دعوه يوم الجزائر يعقدون فيه الاجتماعات لإعلان السخط وإقامة النكير على الاستعمار عمومًا وعلى الاستعمار الفرنسي في شمال افريقيا خصوصًا
…
ولجمع الإعانات المالية لينتعش بها إخوانهم الجزائريون وتتجدّد بها قواهم في قتال عدوّهم
…
إن أيام الجزائر هي جميع الأيام التي يتألف منها عمر الثورة، فكل يوم أغرّ محجل واضح الشيات مملوء من أبنائها بالفعال والمآثر، ولكن لتخصيص هذا اليوم بالنسبة للجزائر بتواطؤ وإجماع من هذه الشعوب الهائلة التي يزيد عددها على نصف سكان المعمورة، سرّ
* نُظّم في كل البلدان العربية والآسيوية والافريقية يوم خاص سُمّي "يوم الجزائر" لتأييد الثورة الجزائرية ودعمها، وهذه الكلمة أُلقيت في الاحتفال الذي أُقيم بهذه المناسبة بالقاهرة، عام 1957.
عميق، ففي توقيت الوقت وتحديده بيوم استحضار إجماعي لبلايا الاستعمار في العصور المتعاقبة واستجماع للذكريات والأحاسيس التي تختلج في نفوس هذه الشعوب، وما منها إلا من اكتوى بنار الاستعمار، على تفاوت حظوظها من شرّه، وتفاوت أنصبتها من الشعور به. ومن أسرار هذا التوقيت أنه يكون ملتقى للعواطف، وحافزًا للهمم، ومثيرًا للعزائم، ومذكرًا بحقوق الجار على جاره والأخ على أخيه، وحقوق المشتركين في البلاء بعضهم على البعض، في هذا اليوم يتوافى نصف شعوب الأرض على داع مسمع من الحق يدعو إلى نجدة الجزائر في محنتها وإلى إعلان السخط على الاستعمار الفرنسي.
أما نحن معشر الجزائريين فنرى في إقامة هذا اليوم بهذه الصورة نصرًا معجّلًا لنا ونجاحًا موفّقًا لثورتنا، ومددًا من العناية الإلهية مهيّأ لنصرتنا وضربة قاصمة للاستعمار كنا نحن السبب فيها.
ونحن جازمون بأن الاستعمار الفرنسي المتداعي الأركان يرمي من هذا الإجماع بما يفسخ عقده ويوهن كيده ويجعله يؤمن بعد ذلك العناد والإصرار على الشرّ والفساد بأن قوى الشعوب من قوّة الله، وأن أنصاره وأعوانه لا يغنون عنه فتيلًا، فيا ويح العاملين في الظلام إذا تبلج الفجر في وجوههم، وويل لمستعبدي الشعوب من يقظة الشعوب، وويلهم إذا اجتمعت تلك الشعوب وتقاسمت بشرف الحرية لتنتقمنّ من المستعمرين ولتقضينّ على الاستعباد. ولله درّ شوقي إذ يقول:
صَوْتُ الشُّعُوبِ مِنَ الزَّئِيرِ مُجَمَّعاً
…
فَإِذَا تَفَرَّقَ كَانَ بَعْضَ نُبَاحِ
أيها الإخوان:
إن هذه الدعاية الواسعة التي أحاطت بهذا اليوم ونبّهت عنه ودلّت عليه وأثمرت هذا اليوم العظيم، لتنويه بالثورة الجزائرية، وتعظيم لشأنها، وحسن ابتكار لوسائل النصر فيها، وأذان جهر من الحق، يسمع الصمّ عن هذه الثورة القاعدين الساكتين عن كلمة الحق فيها، وعن إيقاف فرنسا عند حدّ، وتوبيخ ضمني للحكومات والشعوب التي تمدّ هذا الغي وتقدّم لها العون على الشرّ والفساد، وسخرية حارّة بأولئك الشواذ الذين فسد ذوقهم الإنساني فولولوا وصاحوا وتظاهروا بالرحمة والإشفاق على كلبة فارقت الأرض وعوت منذرة لذلك الفريق المشفق بسوء المصير ثم ماتت، ولم يشفقوا على هذه الملايين المعذّبة في الأرض التي تموت بالآلاف في أرض الجزائر، إلا أن كل جنس يرحم جنسه ويشفق عليه، فهنيئًا لهم ما اختاروا وفي سبيل الكلاب ما صاحوا وولولوا وأرسلوا من عبرات.
أيها الإخوان:
من حسنات هذا اليوم وآثاره الجليلة أنه يجمع قلوب الشعوب الآسيوية والافريقية على ذكر الجزائر والجزائريين بأشرف ما يذكر به إنسان، فيذكرون أنواع البلاء التي يصبّها عليهم
الاستعمار الفرنسي، ويذكرون أمثلة البطولة التي تتسم بها أعمالهم، ويذكرون الدماء التي تسيل والأرواح التي تزهق وكل الجرائم الوحشية التي يرتكبها الجيش الفرنسي باسم الحضارة الأوروبية، وفي أثناء العمل الذهني في هذه الذكريات ينكشف الحق عن مصاصه وهو إكبار المجاهدين الجزائريين وإجلال مقصدهم وغايتهم من هذه الثورة، وهو الحرية والاستقلال، واحتقار فرنسا وجيشها وحضارتها وعلمها الذي غرّت به العالم حينًا من الدهر، وفي هذا اليوم الذي نسب إلى الجزائر ستلتقي همم مئات الملايين من شعوب آسيا وإفريقيا على خاطر واحد في ساعة من نهار، وهو بغض الاستعمار والحنق عليه، ووجوب الإجهاز عليه والإجماع على زواله والراحة منه، واحتقار فرنسا التي افتضحت أمام العالم وانكشف ثوب الزور الذي كانت تلبسه، وهدمت بأعمالها الشنيعة المجرّدة من الإنسانية كل ما بنته لها دعايتها من محاسن، ولا يقصر هذا السخط على الحكومة الفرنسية وحدها بل يتجاوزها إلى الأمّة الفرنسية نفسها، لأنها متواطئة مع حكوماتها على إبادة الجزائريين بسكوتها على ما تفعله هي وجيشها، فلم يسمع العالم نأمة في استنكار تلك الأعمال التي تسوّد تاريخ فرنسا وتقضي على سمعتها.
أيها الإخوان:
هل أتاكم أن الجيش الفرنسي يأتي في الجزائر أنواعًا من الفظائع ينكرها حتى الشيطان من تقتيل جماعي؟ لا أشك أن أخبار هذه الفظائع وصلتكم ووصلتم من علمها إلى عين اليقين، وكيف لا تصلكم وأنتم منها قاب قوسين، ولو أن مستشرفًا أرهف السمع لسمع من مخارم الأطلس الأشمّ حيث يتطامن على حدود ليبيا، لسمع تكبير المجاهدين ممزوجًا بمعمعة النيران في منازلهم وفيها أولادهم والمستضعفون من ذويهم، ممزوجة بصراخ الاستغاثة من الأطفال والنساء والشيوخ حيث لا مغيث، ولرأى منظرًا يذهل النفوس ويدمي العيون ويذهب الرشد، فإذا رجع هذا المستشرف إلى رشده حكم بمبلغ تأثير الإنسانية في أفراد الجيش الفرنسي وقادته ومبلغ حظهم من هذه الحضارة التي تزعمها أمّتهم، وعلم بالمشاهدة أن ذلك الجيش الوحشي عجز عن قتل المجاهدين بما حشد من أسلحة فتّاكة فانقلب إلى هذه الأصناف العاجزة عن الدفاع من أطفال ونساء وشيوخ ليطفئ بقتلهم غيظه ويشفي بتعذيبهم صدره.
أيها الإخوان:
إن المفروض في الحضارة أنها تهذّب الأخلاق وتلطّف الحيوانية فتدنيها من الرحمة وتشيع الفضائل في النفوس، وإن الجندي هو أولى الناس بالتربية الفاضلة والأخلاق الحميدة. فما لهذا الجيش الذي لم تترك أمّته فضيلة إلا انتحلتها لنفسها، ولا حضارة للأقدمين إلا ادّعت أنها وارثتها بالفرض والتّعْصِيب، يفضح أمّته هذه الفضيحة الشنعاء ويعقّها هذا العقوق الأطلح ويسجّل عليها خزي التاريخ ولعنة الأجيال.
كلا، فحرام أن نظلم الجندي الفرنسي وحده، فلو زكا الأصل لزكا الفرع، ولو طاب المولد لطاب المحتد، ولكنها أصول مظلمة ومن ثم كانت ظالمة، وشعب مطبوع على الاستطالة واحتقار الشعوب الأخرى، يعتقد أن وجوده في عدم غيره وحياته في موت الشعوب الضعيفة، فهو جار في الشرّ على عُرف أصيل. ويقول المغرورون بالظواهر المفتونون بالألوان السطحية الذاهبون إلى عامل التأويل، إن الذين يقومون بتلك الموبقات في الجزائر إنما هم أجانب عن فرنسا من السنغال أو جنود اللفيف الأجنبي، وأين الرئيس الفرنسي الصميم الذي لا يتمّ أمر في نظام الجند الفرنسي إلا بعلمه واطّلاعه ورضاه وأمره؟ وفات هؤلاء أن السنغاليين وفرقة اللفيف إنما هي موضوعة بالقصد الأول في الجيش الفرنسي لمثل هذه المنكرات من هتك الأعراض واستباحة الحرمات علانية، والرئيس إذا لم ينهَ عن المنكر فهو آمر به.
أيها الإخوان:
أين هذا من حضارة الإسلام في طوره الأول التي يتفننون في رميها بكل نقيصة، وأين آداب القتال التي شرعها الإسلام من آداب القتال في هذا العصر المتحضر؟
أين هذه الأعمال الوحشية من رحمة الإسلام التي أمر بها الخليفة الأول في وصيته المشهورة لجيش متوجه للغزو ومنها: لا تقتلوا إلا من قاتلكم ولا تقتلوا طفلًا ولا امرأة ولا شيخًا ضعيفًا.
إننا معشر الجزائريين نعلم عن فرنسا، بحكم المجاورة بيننا وبينها، ما لا يعمله غيرنا.
وقد مسّنا من عذاب باستعمارها لنا ما لم يمسس غيرنا من غيرها، فإذا حكينا عنها فإنما نحكي عن عيان، ويعلم الله أننا في ما نحكيه عنها غير متجنّين ولا مفترين ولا متأثرين بالعداوة.
أيها الإخوان:
إني أرجو أكيد الرجاء أن تكون أيام العرب والمسلمين جميعًا يوم الجزائر حتى تنتصر الجزائر وتنتصر العروبة والإسلام في الجزائر
…
وفّقنا الله جميعًا وسدّد خطانا، وأنجح مسعانا ونصرنا على القوم الظالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.