الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيان من جبهة تحرير الجزائر *
حضرات السادة:
إن الجزائر تجتاز أزمة شديدة الخطورة من يوم انفجار الحوادث الدامية في فاتح نوفمبر سنة 1954، وإن الحالة السائدة من ذلك اليوم إلى الآن لا تزداد إلا سوءًا واشتدادًا يومًا فيومًا، وهي- لذلك- حقيقة بأن تثير اهتمامكم واهتمام العالم كله.
الشعب الجزائري طلب حقوقه المشروعة بالوسائل السياسية، وقدّم من البراهين على استحقاقه لذلك ما فيه الكفاية والإقناع، فلما أعياه الأمر لجأ إلى الموت فشهر السلاح، وعقد العزم على التحرّر والخلاص وحمل المستعمر الظالم على احترام حقوقه بهذه الوسيلة التي لم يبقَ له سواها، وهو ماض في سبيل التحرير مهما كلّفه ذلك.
ولقد لجأ الاستعمار الفرنسي مصدر هذه الحوادث الدامية مرّة أخرى إلى وسائله القديمة الرجعية، أي إلى القمع بمختلف أنواعه، ليحلّ المشكلة بهذه الطريقة التي لا تزيد المشكلة إلا تعقيدًا.
إن الصراع القائم الآن في الجزائر ليس نتيجة لعلّة طارئة أو لطفرة عارضة، وإنما مصدره الأصيل وعلّته الأساسية هو الاستعمار وآثاره الطبيعية فيه من استعباد وإذلال وقضاء على الحريات وامتهان للكرامة الإنسانية، وزاد نار الصراع لهيبًا تلك الخرافة التي لفّقتها الأوهام الاستعمارية وهي (أن الجزائر ثلاث مقاطعات فرنسية).
هذه الفرية التي أراد الاستعمار الفرنسي أن يضلّل بها الرأي العام العالمي فرية مفضوحة واضحة البطلان، والحقيقة أن الجزائر كانت دولة مستقلة قبل سنة 1830، والشعب
* في المؤتمر الصحفي الذي عقدته بالقاهرة يوم الإثنين الحادي والعشرين من شهر مارس 1933، الساعة الخامسة مساءً.
الجزائري بارز الخصائص والمقوّمات، لم يعترف ولن يعترف بالواقع الاستعماري، وقد قاومه مقاومة مسلحة متواصلة عشرات السنين في سلسلة طويلة من الثورات من سواحل البحر الأبيض إلى تخوم الصحراء الكبرى، وإن أسماء الأمير عبد القادر بن محيي الدين والحاج أحمد المقراني وبو عمامة وغيرهم من أبطال الثورات وقادتها ما زالت خالدة مجيدة، عامرة بصفحات البطولة، وما خفتت المقاومة المسلّحة حتى انتقل الشعب الجزائري إلى ميدان السياسة والمطالبة بحريّته واستقلاله من طريقها، ولم يسكت يومًا واحدًا، ولم يرض دقيقة واحدة بالوضع الاستعماري: فكيف يكون وطنه قطعة من فرنسا؟ وها هو اليوم يحمل السلاح ليكذب تلك الفرية وليحصل على الحياة الحرّة الكريمة.
ولكن فرنسا بمحاولتها بسط سلطانها الاستعماري، وإنكارها كل حق في الحياة للشعب الجزائري، كانت دائمًا تجيب بسلاح القوّة على مطالب الشعب الجزائري ومطامحه المعقولة المشروعة، وفي الأيام الأخيرة تجرّأت حكومة فرنسا غير متردّدة وحدّدت موقفها الإجرامي بلسان أحد وزرائها المسؤولين، عندما صرّح بأن المفاوضة الوحيدة التي يمكن أن تجريها فرنسا في الجزائر هي الحرب
…
وما دَرَى أن هذا التصريح هو التكذيب القاطع لدعوى دولته أن الجزائر ثلاث مقاطعات فرنسية.
إن النظم الاستعمارية التي أكره عليها الشعب الجزائري تستمد براهينها من تلك القاعدة الحيوانية وهي أن الحق للأقوى، ومن هنا يتضح أن الادّعاء الاستعماري بأن الجزائر ثلاث مقاطعات فرنسية هو ضرب من الغش والتضليل والبهتان، ذلك بأن الوقائع والحقائق والقوانين الفرنسية نفسها تدحضه وتسفهه، فإن ما يطبّق من التشريعات الفرنسية بالجزائر رسميًّا مبني على أساس عنصري بغيض من وجود طبقتين: سادة ومسودين، ونوعين من المواطنين: أعلى وأدنى، ومكتبين انتخابيين لا يمتزجان: مسلم وأوروبي، وإنها لنظم تشهد بتكذيب تلك الدعوى، ويزيد في شناعتها ما ترتكبه الإدارة الاستعمارية من سوء التطبيق، وأشنعه التزوير العلني في انتخابات المجلس الأهلي.
على أن وجود مجلس جزائري خاص، واستقلال مالية الجزائر، وإدارة شؤون الدين الإسلامي من طرف الإدارة الفرنسية، وبسط السلطة العسكرية على نصف القطر الجنوبي، ووجود حواجز جمركية بين الجزائر وفرنسا، كل أولئك أدلة ووقائع لا تنكر، تدحض تلك الدعوى المضلّلة.
ومن هنا كانت النتيجة الحتمية الطبيعية للسياسة الفرنسية، المشبعة بروح الاحتقار والاستفزاز والعداء، أن يحمل الشعب الجزائري السلاح ليدافع عن حرّيته وحقوقه في الحياة الإنسانية، حين لم يجد سبيلًا آخر للمفاهمة.
إن الدماء- يا حضرات السادة- تسيل اليوم أودية في الجزائر، ومنذ فاتح شهر نوفمبر سنة 1954 تنقل فرنسا عشرات الآلاف من جنودها للجزائر من وطنها ومن ألمانيا ومن الهند الصينية، ليقاتلوا المجاهدين الجزائريين، ويقوموا بعمليات قمع شنيعة وحشية رهيبة، تساندهم فيها القوات المصفحة وقوات الطيران، ولم تقتصر هذه القوات على قتال المقاتلين، بل معظم فتكها موجّه إلى النساء والأطفال والشيوخ والعزّل، وإن ما يرتكبه الجيش الفرنسي اليوم في الجزائر من مآسٍ وفظائع يفوق حدّ التصوّر، وما يجري في محاكمها من أحكام السجن والتغريم أكثر من ذلك، والجرائد الفرنسية ناطقة بالكثير من ذلك، ولنضرب لكم قليلًا من الأمثلة دليلًا على ما يقاسيه الشعب الجزائري من أهوال وويلات على يد الجيش الفرنسي.
ففي ناحية قرية "فم الطوب" في جبال أوراس زجّ بالشيوخ والنساء والأطفال في كهوف أحد المناجم المهجورة وأضرمت فيها النيران حتى ماتوا اختناقًا بالمادة التي في الدخان، وفي قرى "زلاطو" و "أشمول" و "يابوس" امتدّت أيدي الجنود الآثمين إلى العذارى فانتهكوا حرماتهن، وجرّدوهنّ من الثياب، ثم قتلن شرّ قتلة ببقر بطونهن بالخناجر والحراب أمام ذويهن.
وفي قرية "أريس" هاجمت دبابة عسكرية يوم 23 فبراير الأخير طفلًا لم يجاوز السابعة من العمر فخلطت أجزاءه بالتراب نكاية في الشعب وتفننًا في إلقاء الرعب في القلوب. وفي يوم 18 يناير الماضي من هذه السنة أخذت يد العدوان نحو مائة وخمسين ما بين سيدة وشيخ كرهائن، ثم عادت فقتلتهم في فجر اليوم الثاني ذبحًا.
وهناك كثير من المساجين السياسيين اختطفوا من السجون ليصرعوا غيلة في الفيافي والقفار، إن هذه الفظائع لتذكرنا بأمثالها مما كان الجيش الفرنسي يرتكبه في الجزائر في حملته الأولى عليها سنة 1830 وما تلاحق من سنيّ المقاومة الشعبية، حتى تنتهي بنا إلى مذابح شهر ماي سنة 1945 التي أباد فيها الفرنسيون من مدنيين وعسكريين أكثر من خمسة وأربعين ألف مسلم عربي جزائري، وإلى الحملات الإرهابية في جبال القبائل سنة 1947 وإلى ما جرى من مثل ذلك في قريتي "دعشمية" و "شامبلان" سنة 1948، وتذكّرنا في الأخير بما جرى من عمليات الإبادة في "دوار سيدي علي بوناب" سنة 1949، وبما جرى في مذبحة جبل الأوراس سنة 1952، ومقتلة "بلدة الأصنام" في السنة نفسها، ومؤامرة باريس سنة 1953. ولا نندفع في ضرب الأمثلة بعد هذا فإنه شيء طويل.
وسط هذه الأحداث الدامية تبلورت مقاومة الشعب الجزائري وتطورت حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، وهي تكاد تنتظم الشعب كله، ولا عجب إذا عمّ الظلم أن تعمّ الثورة
عليه، وإن عمليات التخريب والهجمات القوية الخاطفة على الأعداء جارية متواصلة، بحيث لا يكاد يمضي يوم إلا ويسجّل للفدائيين الوطنيين عملًا أو أعمالًا من هذا القبيل، ففي القطاع الشرقي من الجزائر وفي جبل أوراس على الخصوص يصطبغ الكفاح القومي بلون الحرب السافرة المدوية، حيث يلحق المجاهدون الخسائر ذات البال بالقوات الاستعمارية، أما في وسط القطر وفي بلاد القبائل فالهجمات الخفيفة المتكرّرة من الفدائيين تزعج القوّات الفرنسية دائمًا وتسبّب لها أضرارًا مختلفة، وأما في الناحية الغربية من القطر فعمليات التخريب هي السائدة، وهي تتزايد حتى أصبح أثرها ملموسًا في الأوساط التجارية، مما جعل النشاط الاقتصادي في البلاد في حكم المشلول.
إن الحالة الراهنة في الجزائر، والتي تزداد وتشتدّ على مرّ الأيام، هي الظاهرة البيّنة على أن الشعب الجزائري مصمّم على تحرير نفسه من السلطان الاستعماري، وعلى أن يجعل بيده حدًّا لنظام مبناه على القوّة والبطش، وإذلال أحد عشر مليون عربي، وإخضاعهم لحياة الذل السياسي والاستغلال الاقتصادي.
وإن هذا الاستعمار الفرنسي، بمعارضته العنيفة للرغائب القومية المشروعة للشعب الجزائري، ويرفضه لجميع الوسائل المعبّرة عن أماني الشعب القومية، وبازدرائه للكفاح السياسي السلبي، لذلك كله فهذا الاستعمار هو الذي يتحمل وحده مغبّة هذه الدماء المراقة في الجزائر، ويتحمل وحده عواقب هذا الانفجار، لأنه- هو وحده- كان السبب فيه.
وإذا كان الشعب الجزائري قد التجأ إلى السلاح، فإنما فعل ذلك لإنهاء الوضع الاستعماري؛ أما المشكلة الجزائرية فهي فى حقيقتها مشكلة سياسية قبل كل شيء، وبعد كل شيء.
ومن القواعد المقرّرة في عالمنا الحديث أن الحق المطلق في التقرير النهائي لمصائر الشعوب هو أساس لكل تشريع وطني أو دولي، وعلى ذلك الأساس فالشعب الجزائري هو صاحب الحق في تقرير مصيره والتمتعّ بكامل سيادته، وليس لغيره الحق في أن ينصب نفسه نائبًا عنه في تقرير مصيره.
إننا من أجل أن نحمل أولئك الذين ينكرون على الأمّة الجزائرية حياة العزّ والكرامة على أن يحترموا حقوقها التي كفلتها لها الطبيعة والقوانين الإنسانية، ثم ينكرون عليها جهادها في سبيل تلك الحياة، من أجل ذلك اتحدنا نحن الجزائريين المسؤولين المقيمين بالقاهرة، في جبهة واحدة، هي (جبهة تحرير الجزائر)، عاملين على مساندة الشعب الجزائري في كفاحه القومي من أجل الحرية والاستقلال، وإننا لنعرب عن رغبتنا الملحّة في أن نرى اتحادنا هذا يتّسع حتى ينتظم سائر الحركات الاستقلالية الوطنية في كل من تونس ومراكش.
ولا يفوتنا بهذه المناسبة أن نشكر سائر الشعوب والحكومات العربية والإسلامية والأسيوية على عواطفها وميولها الفعّالة التي ما برحت تبديها نحو المشكلة الجزائرية، كما نوجّه نداءنا الحار إلى كل الديمقراطيين الأحرار في سائر أنحاء العالم ليشاركونا في العمل للإسراع والتعجيل بتحقيق الأماني الديمقراطية المشروعة للشعب الجزائري ولشعوب المغرب العربي كله، خدمة للحق وإنقاذًا للسلام، وضمانًا للأمن في هذه الناحية من العالم.