الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القيروان، ثم انتشرت في المغارب الثلاثة على أيدي دعاة متشددين، وهذا المذهب لا يرى الخضوع لسلطة عباسية ولا علوية، ولا يرى صحة الإرث لبيت ولا لقبيل في الخلافة الإسلامية، بل يرى الخلافة للأصلح، ويرى استعمال السيف لإقرار هذا المبدإ الذي هو جزء من العقيدة فيه، فاغتنم دعاة هذا المذهب ومعتنقوه فرصة اضطراب الأمر في القيروان، واختلاف الولاة عليه وتوارث آل عقبة بن نافع للإمارة وانهماكهم في حروب صقلية- فلم يضيعوا هذه الفرصة- واستولى أبو الخطاب بن السمح على القيروان، وهو أحد دعاتهم في السلم وقادتهم في الحرب، وهو داعية عربي لمذهب الخوارج، ومعه قائدان مشهوران من قوادهم: أبو حاتم يعقوب بن حبيب وعبد الرحمن ابن رستم، ثم رجعوا عن القيروان إلى حيث الشوكة والعصبية لنحلتهم في صميم الجزائر، واختاروا بقعة في أحضان سلسلة الأطلس لتشييد عاصمة لمملكتهم الجديدة فأنشأوا مدينة (تيهرت) في القسم الجنوبي الغربي للجزائر، ولا تزال بعض آثار هذه المدينة باقية إلى الآن، وقد أنشأ الاستعمار الفرنسي مدينة بالقرب منها وسمّاها باسمها مع تحريف قليل في النطق والكتابة، فهم يكتبونها Tiaret وينطقونها كذلك.
وعبد الرحمن بن رستم الذي نسبت إليه الدولة وتسلسلت إمارتها في أعقابه رجل فارسي الأصل، ولكن المذهب هو الذي هيأ له مبايعة البربر على السمع والطاعة بعد كفاءته الشخصية وشواهد أعماله، ولا ندري كيف خالفوا أصلهم في استخلاف الأصلح، فأورثوا الإمارة بني عبد الرحمن بن رستم، وإن عرف كثير منهم بصدق التدين وإفاضة العدل في الأحكام، وإقامة الحدود الشرعية، وتشجيع الفنون والعلوم والآداب، والمحافظة على الفضائل الإسلامية.
واتسعت رقعة هذه الدولة من شاطئ البحر الأبيض المتوسط، حيث مدينة (تنس) وهي الثغر الذي يصلها بالأندلس، إلى الصحراء حيث مدينة وارجلان في جنوب مقاطعة قسنطينة، ولعلهم كانوا يتصلون من طريق هذه الصحراء بأتباع مذهبهم في طرابلس، ولا تزال بقايا المذهب الأباضي إلى الآن في جنوب مقاطعة الجزائر، وفي جبل نفوسة بطرابلس.
الدولة الصنهاجية بجبل تيطري:
وهذه الدولة أيضًا جزائرية صميمة، نشأت عام 324 هجرية، وانقرضت عام 547 على يد الموحدين، ومؤسّسها زيري بن مناد الصنهاجي أحد فروع الأسرة الباديسية الصنهاجية التي استخلفها الفاطميون على مملكة القيروان حينما فتحوا مصر ونقلوا كرسي خلافتهم إليها، ثم استقل الباديسيون بعد ذلك بالقيروان عندما آنسوا ضعف الدولة الفاطمية في الشرق.
رأى زيري أن ينتبذ مكانًا قصيًا عن القيروان لأوائل قيام الدولة الفاطمية ورسوخ دعوتها وكثرة أنصارها واستقرارها بالمهدية العاصمة التي أسسها المهدي أول الخلفاء الفاطميين على ساحل تونس الجنوبي، وأن يعتصم بالعصبية الصنهاجية ضد قبائل زناتة أحد أعداء صنهاجة الألداء، فاختار جبل أشير إحدى قمم الأطلس على نحو مائتي ميل في جنوبي مدينة الجزائر وأسّس فيه مدينة أشير، وشرع في بنائها عام 324 الذي جعلناه مبدأ لنشأة هذه الدولة، وقد أخذ زيري بدعوة الفاطميين ليزداد قوّة، فاستبحرت بذلك مدينته، وجمعت أسباب الحضارة كلها من علم وفن وصناعة وتجارة، وقصدها الناس من كل قطر، ورحل إليها التجّار وأصحاب الصنائع من الأندلس وغيرها، ولكن عمرها لم يطل، فقد زاحمتها (قلعة حماد) التي أسّسها حفيد زيري حماد بن بلقين بن زيري في جبل كيانة إحدى قمم الأطلس الشامخة شرقي جبل أشير، وجبل كيانة تتفرّع منه عدّة فروع ملاصقة، وفي بعضها منازل قبيلتي ومسقط رأسي، ولم تزل آثار قلعة حماد ماثلة إلى يومنا هذا، ولا يوجد لموقعها نظير في المناعة الطبيعية، وإن آثارها لتنطق بالقوة والاتساع مع وعورة المسالك المؤدّية إليها. وقد احتوت عاصمة حماد على كل ما احتوت عليه عاصمة جده زيري وهي مدينة أشير من حضارة وصناعة وفن، وأريت عليها في كل ذلك وفي ارتقاء العلوم الإسلامية بها وبكثرة المساجد وهجرة العلماء إليها حتى كوّنت مدرسة من المدارس الإسلامية بالشمال الإفريقي، ولكنها باجتذابها للعلماء وأصحاب الفنون والصناعات كانت سببًا في خراب العاصمة الصنهاجية الأولى (أشير)، وبقي عمرانها في ازدياد وحضارتها في اتساع واطراد، إلى أن طرقها الدهر بالغارة الهلالية المعروفة في أواسط المائة الخامسة، فاحتلّت قبائل بني هلال بن عامر المتدفقين من صعيد مصر على شمال إفريقيا البسائط المحيطة بها من الشمال والجنوب، وضايقوا قبائل البربر فيها، ومدينة القلعة متصلة من جنوبها بسهل واسع كان فيه لبني هلال مجالات، فأحسّ ملوك القلعة الحماديون بأنه لا قبل لهم بصدّ هذه القبائل العربية المغيرة، فعزموا على إنشاء عاصمة جديدة، فاختاروا موقع بجاية على خليج من أمنع خلجان البحر الأبيض، وهو موقع حصن فينيقي قديم يسمّى "صلداي"، واقع على مصبّ وادي الساحل في البحر، وتحيط به جبال شاهقة، هي شناخيب الأطلس الأصغر، فاختط بها الناصر أحد الملوك الحماديين، عام 460 هجرية، مدينة ونقل إليها دار الملك فأصبحت عاصمة ثالثة للدولة الحمادية، وكانت أضخمهن وأعمرهن وأجمعهن لأسباب الحضارة، وزادت على سابقتيها بازدهار العلوم الإسلامية وكثرة من أخرجت من الأئمة في تلك العلوم، وكانت ممرًّا لكل قادم من الأندلس إلى الشرق حاجًّا أو طالبًا للعلم، وكانت تحتبس كل عالم أندلسي يردُ عليها سنتين أو ثلاثًا حتى يأخذوا عنه كل ما عنده من علم وأدب، وكما أصبحت بجاية دار علم أصبحت ميناءً تجارًيا وحربيًا لا نظير له في شمال افريقيا، وكان خليجها غاصًّا دائمًا بالسفن التجارية من الأندلس إلى الشام ومن ثغور الفرنجة على الضفة الأوربية، وبالأسطول الحربي الحمادي الذي أنشأ له الحماديون دور صناعة كانت مضرب المثل في زمنها.