الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كامل كيلاني: باني الأجيال *
من الكتب ما يقرؤه القارئ فيجد فيه نفسه، حتى لكأنه منه أمام مرآة صقيلة، ومنها ما يقرؤه فتضيع فيه حقيقته ومعالمه، فكأنه فيه خلق آخر،: أزيد أو أنقص أو مشوّه. وكُتُب شيخ أدباء العصر الأستاذ الكبير كامل كيلاني، التي نسقها على أعمار الأطفال والشبّان حتى وصلهم بالرجولة، هي من الصنف الذي يجد فيه كل طفل- وكل شاب- نفسه، لا يعدوها ولا يضيعها، بل يكفيه أن يقرأ الكتاب- من المجموعة- فيجد فيه مع حقيقة نفسه مبلغ عمره.
قرأتُ هذه المجموعة الممتعة من كتب كامل كيلاني، فوجدتُها كأنما صيغتْ من الصورة الكاملة لعقلية الطفل- أو الشاب- كما يجب أن تكون في الذهن والتصوّر
…
فخرجت قوالب تصبّ عليها عقول الأطفال والشبّان، كاملة بالفعل والتصديق: يستقيم فيها الزائغ، ويصحّ عليها المئوف. فلا يقطع الطفل مراحله إلى الشباب، ولا الشاب مراحله إلى الرجولة، إلّا وهو مستقيم الملَكات، مصقول المواهب، سديد الاتجاه في الحياة، مرتاض اللسان على البيان العربي
…
ولا يصل واحد منهما إلى ذلك الحدّ حتى تكون هذه الكتب قد خزنتْ فيه ثروة من فصيح اللغة العربية: مصفّاة من الحشو، منَقّاة من الدخيل، سمتْ عن الساقط المبتذل، وجانبت الغريب الوحشي، ووقفت عند المأنوس السهل، الذي لا يتعثر فيه لسان، ولا يتعسر معه فهم، ولا تنفر منه أذن، ولا ينطوي من معناه على عوراء، ولا يتنافر نظمه، ولا يتعسر هضمه. وتكون هذه الكتب العجيبة قد تدرّجت معه، وتدرّج هو بها- في مراحله العقلية والذهنية والبيانية، وفي أطوار نموّه الجسماني- تدرّجًا طبيعيًا هادئًا، متناسقًا مقدرًا، كنقل الأقدام في المشي الوئيد، حتى كأنها نسخة مقدودة من وجوده، أو مثال مفصّل على أقطاره وحدوده.
* "الأيام"، دمشق، حزيران (يوليو)1956.
وكُتُب كامل كيلاني نفحة من نفحات الفطرة الأولى للأطفال، تحبّب إليهم القراءة، وتجذبهم إليها، وتقرّب ميولهم
…
يقرؤها الذكر والأنثى، فلا يشعر واحد منهما بإيثار ولا استيثار.
وكُتُب كامل كيلاني، لطفل العجم تعريب، ولطفل العرب تدريب، ولهما معًا تسهيل للتلاقي وتقريب! وأكبر حسناتها أنها ترقّي الذوق، وتنبّه الإحساس، وشرّ آثار التربية السيئة في الطفل عثر الذوق وبلادة الإحساس!
قرأت هذه الكتب وأنا شيخ كبير، فنقلتني إلى ذلك العالَم الجميل الذي يتمنّى كل شيخ مثلي أن يعود إليه: عالم السذاجة والغرارة، والبراءة والطهارة
…
ورجعت بي إلى فصل افترار الحياة عن مباسمها، وإقبال الآمال على مواسمها، فوددتُ لو انحدرت- في سلّم الحياة- إلى ذلك العهد، ثم صعدتُ بإرشاد كتب كيلاني إلى رأس السلّم، حتى أقضي ما بقي لي من العمر في الصعود والانحدار، ليبنى عقلي بتلك اللبنات الثمينة، ويتجدّد طبعي منقّحًا- في كل مرّة- تنقيحًا "كيلانيًا" عبقريًا.
كان هذا النمط العالي من كتب التربية دَيْنًا واجب الوفاء من ذمم علمائنا، فقضاه عنهم هذا المربّي الصامت الصابر الذي اقتحم الميدان وحده، ونصب حيث لا مُعين، وظمئ حيث لا مَعين. فإذا جحدتْه الأجيال التي بَنَى فيها، فحسبُه سلوى أن ستحمده الأجيال التي بنى لها.
…
للأستاذ كامل كيلاني منزلته الرفيعة في الأدب، وله وزنه الراجح في العلم، وهو- في ذلك كله- رجل كالرجال، يصطرع حوله النقد، ويتطاير عليه شرر الحسد والحقد
…
ولكنه- بما جوّد وأتقن وابتكر من هذه الكتب بل من هذه الطرائف في التربية- أصبح مَبْدَأً لا رجلًا.
والمبادئ الصالحة حظها الخلود، ومن شأنها أن تستمدّ معاني الخلود من جحد الجاحدين وحمد الحامدين على السواء.
…
أبقى الله شيخ أدباء العصر، كاملًا للنفع، وعاملًا للرفع، وهَدَى أنصار العروبة وقادة أجيالها إلى الانتفاع بهذه الكنوز التي أثارها، والاندفاع في هذه السبل التي أنارها.