المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدين في شعر شوقي - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٥

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌مقدمة

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌السياق التاريخي (1954 - 1965)

- ‌في مصر

- ‌نداء إلى الشعب الجزائري المجاهد: *

- ‌مبادئ الثورة في الجزائر

- ‌أوسع المعلومات عن بداية الثورة في الجزائر *

- ‌حول ثورة الجزائر والمغرب العربي *

- ‌إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر والمغرب العربي *

- ‌إلى القائدين عبد الناصر والسادات *

- ‌برقية إلى الملك سعود *

- ‌ميثاق جبهة تحرير الجزائر *

- ‌اللائحة الداخلية لجبهة تحرير الجزائر *

- ‌بيان من جبهة تحرير الجزائر

- ‌بيان من جبهة تحرير الجزائر *

- ‌كيف تنجح الثورة في الجزائر

- ‌التكالب الاستعماري على الجزائر *

- ‌موالاة المستعمر خروج عن الإسلام *

- ‌الإسلام في الجزائر *

- ‌الجزائر المجاهدة *

- ‌دور الدول الإسلاميةفي المؤتمر الأسيوي - الأفريقي *

- ‌عبرة من ذكرى بدر *

- ‌نفحات من ذكرى فتح مكة *

- ‌من وحي العيد *

- ‌شرعة الحرب في الإسلام *

- ‌الإستعمار والشيطان *

- ‌الاستعمار الفرنسي في الجزائر *

- ‌بين يدي الموضوع

- ‌فتح العرب لأفريقيا الشمالية:

- ‌حقبة المد والجزر للجزائر بين تونس ومراكش:

- ‌الدولة الرستمية:

- ‌الدولة الصنهاجية بجبل تيطري:

- ‌الدولة الفاطمية:

- ‌الدولة الزيانية بتلمسان:

- ‌الدولة التركية

- ‌الإحتلال الفرنسي

- ‌حرب السبعين وثورة المقراني:

- ‌ جمعية العلماء

- ‌عيد فرنسا المئوي لاحتلال الجزائر:

- ‌ظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:

- ‌مشكلة العروبة في الجزائر *

- ‌رسالة إلى المودودي

- ‌من أنا

- ‌مولدي:

- ‌نشأتي و‌‌تعلّمي:

- ‌تعلّمي:

- ‌رحلتي إلى الشرق:

- ‌انتقالي إلى دمشق:

- ‌رجوعي إلى الجزائر:

- ‌تأسيس جمعية العلماء الجزائريين:

- ‌عملي في الجمعية:

- ‌موقف الاستعمار منّي:

- ‌رحلتي إلى الشرق:

- ‌أولادي:

- ‌حالتي المادية:

- ‌في الذكرى الأولى للثورة الجزائرية *

- ‌في السعودية وباكستانوالعراق وسوريا

- ‌كامل كيلاني: باني الأجيال *

- ‌رسالة شكر لباكستان *

- ‌أسبوع الجزائر في العراق *

- ‌في مصر

- ‌الجزائر *

- ‌يوم الجزائر *

- ‌الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني *

- ‌الذكرى الثالثة لثورة نوفمبر *

- ‌الدين في شعر أحمد شوقي *

- ‌الدين في شعر شوقي

- ‌لغة الشاعر:

- ‌حرية الأديب وحمايتها *

- ‌ميلاد الجمهورية العربية المتحدة *

- ‌جهاد الجزائر وطغيان فرنسا *

- ‌رسالة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ

- ‌رسالة إلى الشيخ عمر بن حسن

- ‌أحمد شوقي *

- ‌الذكرى الرابعة لثورة الجزائر التحريرية *

- ‌الجزائر الثائرة *

- ‌فرنسا وثورة الجزائر *

- ‌صفحات مشرقة في تاريخ الثورات *

- ‌محمد العيد *

- ‌إلى مؤتمر التعريب بالرباط *

- ‌كلمة في تونس *

- ‌خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية *

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الرابعة:

- ‌المرحلة الخامسة:

- ‌ضرورة الانتقال إلى التعليم الثانوي:

- ‌مالية جمعية العلماء:

- ‌أثر أعمالي وأعمال إخواني في الشعب:

- ‌مؤلفاتي:

- ‌خلاصة الخلاصة:

- ‌كلمة في مجمع اللغة العربية

- ‌رسالة إلى الأستاذ عبد الله كنون *

- ‌لقاء مع "مجلة الشبّان المسلمين

- ‌الشيخ الإبراهيمي يعلن:

- ‌خطبة الأستاذ الإمام الشيخمحمد البشير الإبراهيمي

- ‌توسيع لجنة الفتوى *

- ‌إجازة للأستاذ محمد الفاسي *

- ‌مقدمة كتاب «العقائد الإسلامية»للإمام عبد الحميد بن باديس *

- ‌بيان 16 أفريل 1964 *

الفصل: ‌الدين في شعر شوقي

‌الدين في شعر أحمد شوقي *

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الإخوان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

هاج عليّ عرق النسا، فلم يؤلمني منه إلا أنه فوّت عليّ الحضور بنفسي لإسماع المستجيبين لدعوة شوقي ما أحفظه من شعره في الموضوع الذي خصّصه لي الأخ الكريم الأستاذ الجليل مسجّل الفضائل الإسلامية والأمجاد العربية الشيخ أحمد الشرباصي وهو "‌

‌الدين في شعر شوقي

"، وإذا فاتني ذلك الخير فلا يفوتني أن أبعث إليكم بهذه الكلمة التي كتبتها في اللحظة الأخيرة متلفعة بملاءة من خجل التقصير في حقكم وحق شوقي، وإن لكم عليّ لحقًا أوجبه وفاؤكم لشوقي حين قلّ الأوفياء له حتى كاد ينسى ويُجفى، وإن لشوقي عليّ لحقًّا أوجبته على نفسي حين غاليت بقيمته في شعراء العربية غابرهم وحاضرهم، وسلام عليكم في الأوفياء.

الدين في شعر شوقي:

ونعني بالدين هنا ما هو أعمّ من الإسلام. فإن شوقي تغنّى بكل دين استحدث خلقًا أو ثبت فضيلة إنسانية أو زرع محبة بين الناس، أو أنشأ حضارة أو زاد فيها أو ولد فنًّا، أو كان إرهاصًا بدين أكمل. لا يبالي أكان ذلك الدين سماويًا أو من مواضعات البشر.

وشوقي يرى- في ما يفهم من شعره- أنه ما من نفس منفوسة إلا وهي منطوية على دين يسيرها في الحياة ويحدّد لها نهجها. وأن جميع هذه النفوس مؤمنة بالله طالبة الوصول إليه وإنما اختلفت بها الطرق المؤدّية إليه فتعثّرت، وطلاب الغايات المكانية كثيرًا ما يتعثّرون فتكون العثرات عائقة عن الوصول فكيف بطلاب الغايات الروحية، ولا مفرّ من

* كلمة أُلقيت نيابة عن الشيخ في الحفل الذي أُقيم بجمعية الشبّان المسلمين بالقاهرة في فبراير 1955، ونشرت في مجلة "الشبّان المسلمين" عددَي مارس وأفريل 1955.

ص: 201

ضلال في هذه المسالك ما لم يكن لها دليل سماوي، وكذلك لبث البشر أحقابًا يتخبطون إلى أن أذن الله بفتح باب الوحي.

وشوقي يلمس في مناحيه الفكرية آراء ومنازع صوفية للقدماء ويكسوها حللًا شعرية تذهل بروعتها عن تعرف حقيقة رأيه ويغطي الافتتان بالصور الشعرية على التفكير في أصل الرأيين فضلًا عن الفروق والجوامع بينهما، ولشعر شوقي في بعض المواقف إشراق كإشراق البرق، يبهر فيخفي فيه ما يكاد يظهر.

يقول شوقي في حالة البشر قبل بعثة الأنبياء:

رَبِّ شقت العباد أزمانَ لاكُتْـ

ـبٌ بها يُهتدى ولا أنبياءُ

ذهبوا في الهوى مذاهب شتّى

جمعتها الحقيقة الزهراء

فإذا لقّبوا قوّيًا إلها

فله بالقوى إليك انتهاء

وإذا آثروا جميلًا بِتَنْزِيـ

ـهٍ فإن الجمال منك حباء

وإذا أنشأوا التماثيل غرًّا

فإليك الرموز والإيماء

وإذا قدروا الكواكب أربا

بًا فمنك السنا ومنك السناء

وإذا ألهوا النبات فمن آ

ثار نعماك حسنه والنماء

وإذا يمّموا الجبال سجودًا

فالمراد الجلالة الشماء

وإذا يُعبد الملوك فإن الـ

ـملك فضل تحبو به من تشاء

وإذا تعبد البحار مع الأسماك

والعاصفات والأنواء

وسباع السماء والأرض والأر

حام والأمهات والآباء

لعلاك المذكرات عبيد

خضع والمؤنّثات اماء

جمع الخلق والفضيلة سرّ

شفّ عنه الحجاب فهو ضياء

ويقول:

ربّ هذي عقولنا في صباها

نالها الخوف واستباها الرجاء

فعشقناك قبل أن تأتي الرُّسْـ

ـل وقامت بحبك الأعضاء

ووصلنا السرى فلولا ظلام الـ

ـجهل لم يخْطنا إليك اهتداء

وشوقي يحضّ أهل الأديان جميعًا على التسامح، ويشدّد النكير على من يتخذونها أداة للتنازع والاختلاف، ويقول إنها كلها لله، وإن لم تكن كلها من الله، وما دامت كلها لله فهي رحم جامعة. ومن البرّ بهذه الرحم والرعاية لهذا النسب أن لا نتعادى فيها، ونفس شوقي ينبوع متدفق بالرحمة والحنان قبل أن تكون ينبوعًا متدفّقًا بهذه الروائع من الحكمة والبيان، وإنه لأصدق صادق حين يقول:

ص: 202

خلقت كأنني (عيسى)، حرام

على قلبي الضغينة والشمات

وحين يقول:

ولا بِتُّ إلا كابن مريم مشفقا

على حُسَّدي مستغفرًا لعداتي

ولإغراق شوقي في الدعوة إلى التسامح سبب آخر وهو أن الدعوة العثمانية التي هي ليلاه ومناط هواه، ومَعْقِد رجائه في إعزاز الإسلام كانت راعية للأديان الثلاثة، وتحت لوائها طوائف من اليهود والمسيحيين، فكان يخشى أن تتخذ منهم أوروبا ذريعة للتشويش على هذه الدولة الإسلامية، وكذلك كانت الحال في مصر، فكان يوجّه دعواته البليغة في أسلوبه الشعري المؤثّر للمسلمين والأقباط أن لا يتخذوا من اختلاف الدين سببًا للشقاق فيطمع الذين في قلوبهم مرض في توسيع شقة الخلاف.

يقول في مرثية بطرس غالي:

نُعلي تعاليم المسيح لأجلهم

ويوقرون لأجلنا الإسلاما

الدين للديّان جل جلاله

لو شاء ربّك وحّد الأقواما

يا قوم بان الرشد فاقصوا ما جرى

وخذوا الحقيقة وانبذوا الأوهاما

هذي ربوعكم وتلك ربوعنا

متقابلين تعالج الأياما

هذي قبوركم وتلك قبورنا

متجاورين جماجمًا وعظاما

فبحرمة الموتى وواجب حقهم

عيشوا كما يقضي الجوار كراما

ويقول:

إنما نحن مسلمين وقبطا

أمة وُحِّدَتْ على الأجيال

سبق النيل بالأبوّة فينا

فهو أصل وآدم الجَدُّ تَالي

ويقول وهو من المبالغات التي لا تخلو من مؤاخذة:

جعلنا مصر ملّة ذي الجلال

وآلفنا الصليب على الهلال

وأقبلنا كصف من عوال

يَشُدُّ السمهري السمهريا

أما تمجيد الإسلام فلا نعرف شاعرًا عربيًّا قبل شوقي مجد الإسلام وجلا فضائله ومحاسنه كما مجّد وجلا شوقي، ولا نعرف شاعرًا بعد شرف الدين البوصيري دافع عن حقيقة الإسلام كما دافع شوقي، وإذا كان البوصيري نظم لامية الإسلام بعد لاميّتيْ العرب والعجم وقال في دين محمد وكتابه:

الله أكبر إن دين محمد

وكتابه أقوى وأقوم قيلا

ص: 203

ثم ضرب له ذلك المثال الشرود في قوله:

لا تذكر الكتب السوالف عنده

طلع الصباح فأَطْفِئ القنديلا

فإن شوقي أتى في مدائحه وسائر شعره بالأعاجيب وضرب العشرات من الأمثال الشوارد، وأعانه على ذلك معارف عصره وعجائب العلم في عصره، وامتداد التاريخ بخيره وشرّه في ما بين عصر البوصيري وعصره، وتداعي الأمم على المسلمين تداعي الأكلة على القصاع، فكل ذلك أرهف إحساس شوقي وهاج شاعريته وأثار أشجانه، فهبّ يدافع عن الإسلام ويجهّز من شعره الكتائب لا الكتب.

إن شعر شوقي في الأفق الذي تستقرّ فيه الحكمة مجاورة للبيان، والذي يشارف السدرة التي لا مطمع في الوصول إليها لأحد، ولا يحلق إليها ولو بجناح لبد، فلا يستفيد منه إلا الذي يقرأه بالتدبر والاهتمام وتصفية الذهن، وعند ذلك يعلم أية براعة أوتيها هذا الرجل، وأية قسمة من إشراق الذهن وجبروت العقل رزقها في هذه الحملة التي أعدّه الله لقيادتها في نصرة هذا الدين. وفي أثناء ذلك تجد الغرائب من عرض سماحة الإسلام وخصائصه، وجمعه بين القوة والرحمة، وبنائه على العدل والإحسان وتجاريبه الناجحة في هداية البشر وفي بناء الحضارة وفي إمامة العلم، وفي قيادة العقل، ثم يدسّ في تضاعيف ذلك دعوات عامة إلى التسامح تجري في النفوس جريان الماء، لأنه يعلم أن قومه مغلوبون على أمرهم لا يقدرون على الانتصاف لأنفسهم، فهو يقرعهم على ذلك ويدعوهم إلى الاتحاد ونفض غبار القرون والأخذ بأسباب القوّة، وان لهم في كل مكرمة إمامًا وما عليهم إلا أن يتّحِدُوا، ولا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من هذه الفنون، يخرج إليها من عمود القصيدة ولو كانت في الرثاء أو في الأغراض البعيدة، حتى قال بعض ناقديه: إن شعره خال من وحدة القصيدة.

أيها الإخوان:

والتديّن أثر الدين في النفس أو ممارسة شعائره بالجوارح وليس من موضوعنا المحدّد البحث عن تديّن شوقي بمعنى إقامته لرسوم الدين وشعائره، لأننا في شغل شاغل عن ذلك بهذا الفيض المدرار الذي يفيض به شعر شوقي في التغالي بالإسلام وتاريخه وأمجاده، وبهذا الإيمان القوي بالله وقضائه، وبهذا التصوير لبدائع مصنوعاته، وبهذا الترديد اللذيذ للقرآن والحضّ على التمّسك به، وبهذا التكرار الحلو للمقدّسات الإسلامية من ملائكة وأنبياء وصحابة وأماكن وأيام، فيغشى في شعره ذكر الله وجبريل ومحمد وإبراهيم وموسى وعيسى وعمر وخالد ومكة والمدينة وبدر والقدس، وأسماء كثيرة لبناة المجد الإسلامي والعربي يكرّرها فلا تملّ، ويصفها في أماكنها فلا تختلّ، ويسمها بسيمائها ويصفها بخصائصها،

ص: 204

ويجلّي موضوع العبرة فيها والقدوة بها، فتتألف من ذلك كله في عامة شعره صور بديعة تأخذ النفس أخذة السحر وتفضي به إلى الاعتبار ثم الاقتداء.

وشيء آخر يدلّ دلالة واضحة على إيمان شوقي بما يقول في ذلك وهو أن مما يثقل ميزان الممدوح أو المرثي في حكم شوقي أن يكون مقيمًا لدينه كما يريد الله، حتى الدولة العثمانية لم يفرغ عليها تلك الحلل الخالدة إلا لأنها تخدم الإسلام وتؤمّل لإعزازه.

يقول شوقي في رثاء حسين شيرين:

أبدًا يراه الله في غلس الدجى

في صحن مسجده وحول كتابه

ويقول في تعزية لأهل دمياط:

بني دمياط ما شيء بباق

سوى الفرد الذي احتكر البقاء

تعالى الله لا يبقى سواه

إذا وردت بريته الفناء

وأنتم أهل إيمان وتقوى

فهل تلقون بالعتب القضاء

ملأتم من بيوت الله أرضا

ومن داعي البكور لها سماء

ولا تستقبلون الفجر إلا

على قدم الصلاة إذا أضاء

ويقول في وصاياه الخالدة للأجيال:

ويا جيل الأمير إذا نشأتا

وشاء الجد أن تعطى وشئتا

فخذ سبلًا إلى العلياء شتى

وخلّ دليلك الدين القويما

وضِنَّ به فإن الخير فيه

وخذه من الكتاب وما يليه

ولا تأخذه من شفتي فقيه

ولا تهجر مع الدين العلوما

وصل صلاة من يرجو ويخشى

وقبل الصوم صم عن كل فحشا

ولا تحسب بأن الله يُرشى

وأن مزكّيًا أمن الجحيما

ويقول في بعض تلك الوصايا:

يا مديم الصوم في الشهرالكريم

صم عن الغيبة يومًا والنَّمِيمْ

وإذا صلّيت خف مَن تَعْبُدُ

كم مصلّ ضج منه المسجد

واجعل الحج إلى أم القرى

غِبَّ حج لبجوت الفقرا

وتسمح وتوسع في الزكاة

إنها محبوبة عند الإله

فرض البِرَّ بها فَرْضَ حكيمْ

فإذا ما زدت فالله كريم

ص: 205

وفي هذه القطع منازع لطيفة في فقه الدين تدلّ على ما لشوقي- رحمه الله من رسوخ في فهم حقيقة الدين ومعنى التديّن.

ويقول في مناجاة شعرية لربّه هي ثمرة كمال إيمانه وخوفه منه:

وياربّ هل تُغني عن العبدحَجَّةٌ

وفي العمر ما فيه من الهفوات

وتشهد ما آذيت نفسًا ولم أضر

ولم أبغِ في جهري ولا خطراتي

ولا غلبتني شقوة أو سعادة

على حكمة آتيتني وأناةِ

ولا جال إلّا الخير بين سرائري

لدى سدّة خيرية الرّغَباتِ

ولا بتّ إلا كابن مريم مشفقا

على حُسَّدِي مستغفرًا لعداتي

ولا حُمِّلَتْ نَفْسٌ هوى لبلادها

كنفسي في فعلي وفي نَفَثاتي

وإني ولا مَنٌّ عليك بطاعة

أجل وأغلي في الفروض زكاتي

أبالغ فيها وهي عدل ورحمة

ويتركها النساك في الخلوات

وأنت ولي العفو فامْحُ بناصع

من الصفح ما سوَّدْتُ من صفحاتي

ويقول في الشيخ جاويش وأعماله للإسلام:

يقولون ما لأبي ناصر

وللترك، ما شأنه والهنودْ؟

وفيمَ تحمل هَمَّ القريب

من المسلمين وهم البعيد

فقلت وما ضرّكم أن يقوم

من المسلمين إمام رشيد

أتستكثرون لهم واحدًا

وليّ القديم نصير الجديد

سعى ليؤلف بين القلوب

فلم يَعْدُ هديَ الكتاب المجيد

يشدّ عُرَا الدين في داره

ويدعو إلى الله أهل الجحود

وللقوم حتى وراء القفار

دعاة تغني ورُسْلٌ تشيد

وهو يشير بهذا البيت إلى ما يبذله المبشّرون في سبيل دينهم:

أما توحيد الله والإيمان بقضائه وقدره وغيبه وبعثه ونشوره فإن دارس شعر شوقي يستفيد منه ما لا يستفيده من كتب الكلام الجافة بأنواع من الاستدلال الوجداني فتدخل النفوس من أيسر طريق وتتغلغل إلى مكامن اليقين فيها، فتنتهي بها إلى غاية الغايات من الإيمان الصحيح.

يقول في الروح:

الروح للرحمن جل جلاله

هي من ضنائن علمه وغيابه

ص: 206

ويقول في مشكلة القضاء:

القضاء معضلةٌ

لم يَحُلَّها أَحَدُ

كلما نقضْتَ لها

عقدة بدت عقد

أتعبت معالجها

واستراح مُعْتَقِد

ويقول في تولستوي:

طوانا الذي يطوي السموات في غد

وينشر بعد الطي وهو قدير

ويقول في رثاء صديق:

فَعَليَّ حِفْظُ العهد حتى نلتقي

وعليك أن ترعاه حتى نحشرا

ومن دلائل إيمانه القوي بالله ورسوله ومحبته لهما محبة ملكت شعوره، تلك المدائح النبوية التي أرى أنّه تفوّق فيها على السابقين الأولين، وبذ فيها السوابق القرح من المجيدين في هذا الباب الذي لم يُجِدْ فيه قبله إلا اثنان أو ثلاثة في تاريخ الملة الإسلامية.

وإنّ في مدائح شوقي أنواعًا من الحكم، وأصنافًا من العلم وأمثالًا مضروبة ونصائح ومذكرات لا توجد في مدائح غير شوقي، وبلغ من اعتزاز شوقي بمدائحه أن يقول في قرية صديق له:

قد كان شعري شغل نفسك فافترح

من كل جائلة على الأفواهِ

فاقرأ على "حسّان" منه لعله

بفتاه في مدح الرسول مُباهِ

أيها الإخوان:

يؤخذ على شوقي أنه مع جلالته في الإيمان ومتانة العقيدة يطغى عليه الجبروت الشعري فيقع في هفوات تدخل في باب الإغراق والغلوّ أو في باب التساهل والاستخفاف. وقد سبقه إلى الوقوع في أمثالها من فحول الشعراء ابن هانئ الأندلسي والمتنبي والرضي من غير إكثار. ولعمري إن بعض ما وقع لشوقي من ذلك يجاوز حدود التأول، لا لأن موقع هذه الأشياء التي تساهل فيها شوقي في باب التوفيقيات، وللتوفيقيات في الإسلام آداب مخصوصة وموارد منصوصة لا يستمح فيها، ولا يشفع فيها العذر والتأويل.

من هذه المبالغات قوله:

وجه الكنانة ليس يُغضِب ربَّكم

أن تجعلوه كوجهه معبودا

ولّوا إليه في الدروس وجوهكم

وإذا فرغتم واعبدوه هجودا

ص: 207

وقوله:

جعلنا مصر ملّة ذي الجلال

وآلفنا الصليب على الهلال

وقوله في مهرجان:

مهرجان طوّف الهادي به

ومشى بين يديه جبرئيل

وقوله لأم الخديوي عباس:

وقفي الهودج فينا ساعة نتناوب نحن والروح الأمين

وقوله لعباس حلمي:

يُحَيّيكَ (طه) في مضاجع طهره

ويعلم ما عالجت من عقبات

وقوله في نفس ميتة:

نُجِلُّ سِتْرَ نعشها

كالكسوة المسيره

وننشق الجنة من

أعواده المُنَضَّره

وقوله في جورجي زيدان:

ولا يزل في نفوس القارئين له

كرامة الصحف الأولى على التالي

وقوله في تلامذة ماتوا في حادث اصطدام:

توابيت في الأعناق تترى زكية

كتابوت موسى في مناكب إسْرالِ

وقوله في أمين الرافعي:

تنشد الناس في القضية لَحْنًا

كالحواري رَتَّلَ الإنجيلا

وقوله في مرثية الشريف حسين:

اغسلوه بطيب من وَضُوء الرُّ

سلِ كالورد في رباه البواسم

وخذوا من وسادهم في المصلّى

رقعةً كفنوا بها فرع هاشم

واستعيروا لنعشه من ذُرَى المِنْـ

ـَرِ عُودًا ومن شريف القوائم

واحملوه على البراق إن استطعـ

ـتُمْ فقد جَلَّ عن ظهور الرواسم

وأديروا إلى العتيق حسينا

يبتهل ركنه وتدع الدعائم

وقوله في جرح سعد زغلول:

منايا أبى الله إذ ساورتك

فلم يَلْقَ نابيه ثعبانها

ص: 208