الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بلغائهم، فحفظت صدرًا من شعر المتنبي، ثم استوعبته بعد رحلتي إلى الشرق، وصدرًا من شعر الطائيين وحفظت ديوان الحماسة، وحفظت كثيرًا من رسائل سهل بن هارون وبديع الزمان، وفي عنفوان هذه الفترة كنت حفظت بإرشاد عمي كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتاب الألفاظ الكتابية للهمداني، وكتاب الفصيح لثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب السكيت، وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في ملكتي اللغوية.
ولم يزل عمي- رحمه الله يتدرّج بي من كتاب إلى كتاب تلقينًا وحفظًا ومدارسة للمتون والكتب التي حفظتها حتى بلغت الحادية عشرة، فبدأ لي في درس ألفية ابن مالك دراسة بحث وتدقيق، وكان قبلها أقرأني كتب ابن هشام الصغيرة قراءة تفهّم وبحث، وكان يقرئني مع جماعة الطلاب المنقطعين عنده لطلب العلم على العادة الجارية في وطننا إذ ذاك، ويقرئني وحدي، ويقرئني وأنا أماشيه في المزارع، ويقرئني على ضوء الشمع، وعلى قنديل الزيت وفي الظلمة، حتى يغلبني النوم، ولم يكن شيء من ذلك يرهقني، لأن الله تعالى وهبني حافظة خارقة للعادة، وقريحة نيّرة، وذهنًا صيودًا للمعاني ولو كانت بعيدة، ولما بلغت أربع عشرة سنة، مرض عمي مرض الموت، فكان لا يخليني من تلقين وإفادة وهو على فراش الموت، بحيث أني ختمت الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة.
____
المرحلة الثانية:
____
ولما مات عمي، شرعت في تدريس العلوم التي درستها عليه، وأجازني بتدريسها، وعمري أربع عشرة سنة لطلبته الذين كانوا زملائي في الدراسة عليه، وانثال علي طلبة العلم من البلدان القريبة منا، والتزم والدي بإطعامهم والقيام عليهم كالعادة في حياة عمي، وربما انتقلت في بعض السنين إلى المدارس القبلية القريبة منا لسعتها واستيعابها للعدد الكثير من الطلبة وتيسّر المرافق بها للسكنى، ودمت على تلك الحال إلى أن جاوزت العشرين من عمري، فتاقت نفسي إلى الهجرة إلى الشرق، واخترت المدينة المنوّرة لأن والدي سبقني إليها سنة 1908 فرارًا من ظلم فرنسا، فالتحقت به متخفيًا أواخر سنة 1911 كما خرج هو متخفيًا، ومررت في وجهتي هذه بالقاهرة، فأقمت بها ثلاثة أشهر، وحضرت بعض دروس العلم في الأزهر وعرفت أشهر علمائه، فممن عرفته وحضرت دروسه، الشيخ سليم البشري، والشيخ محمد بخيت، حضرت درسه في البخاري في رواق العباسي، والشيخ يوسف
الدجوي حضرت درسه في البلاغة، والشيخ عبد الغني محمود، والشيخ السمالوطي، حضرت لكليهما درسًا في المسجد الحسيني، والشيخ سعيد الموجي ذكر لي أن له سندًا عاليًا في رواية الموطأ، فطلبت أن أرويها عنه بذلك السند وحضرت مجالسه بجامع الفاكهاني مع جمهور من الطلبة، وتوليت قراءة بعض الموطأ عليه من حفظي، وحضرت عدة دروس في دار الدعوة والإرشاد التي أسّسها الشيخ رشيد رضا في منيل الروضة، وزرت شاعر العربية الأكبر أحمد شوقي وأسمعته عدة قصائد من شعره من حفظي فتهلّل- رحمه الله واهتزّ، كما اجتمعت بشاعر النيل حافظ إبراهيم في بعض أندية القاهرة وأسمعته من حفظي شيئًا من شعره كذلك.
____
المرحلة الثالثة:
____
خرجت من القاهرة قاصدًا المدينة المنوّرة، فركبت البحر من بور سعيد إلى حيفا، ومنها ركبت القطار إلى المدينة، وكان وصولي إليها في أواخر سنة 1911، واجتمعت بوالدي- رحمه الله وطفت بحلق العلم في الحرم النبوي مختبرًا، فلم يرق لي شيء منها، وإنما غثاء يلقيه رهط ليس له من العلم والتحقيق شيء، ولم أجد علمًا صحيحًا إلا عند رجلين هما شيخاي: الشيخ العزيز الوزير التونسي، والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، فهما- والحق يقال- عالمان محققان واسعا أفق الإدراك في علوم الحديث وفقه السنة، ولم أكن راغبًا إلا في الاستزادة من علم الحديث، رواية ودراية، ومن علم التفسير، فلازمتهما ملازمة الظلّ، وأخذت عن الأول الموطأ دراية، ثم أدهشني تحقيقه في بقية العلوم الإسلامية، فلازمت درسه في فقه مالك، ودرسه في التوضيح لابن هشام، ولازمت الثاني في درسه لصحيح مسلم، وأشهد أني لم أَرَ لهذين الشيخين نظيرًا من علماء الإسلام إلى الآن، وقد علا سني، واستحكمت التجربة، وتكاملت الملكة في بعض العلوم، ولقيت من المشايخ ما شاء الله أن ألقى، ولكنني لم أَرَ مثل الشيخين في فصاحة التعبير ودقة الملاحظة والغوص عن المعاني واستنارة الفكر، والتوضيح للغوامض، والتقريب للمعاني القصية. ولقد كنت لكثرة مطالعاتي لكتب التراجم والطبقات قد كوّنت صورة للعالم المبرز في العلوم الإسلامية، منتزعة مما يصف به كتاب التراجم بعض مترجميهم، وكنت أعتقد أن تلك الصورة الذهنية لم تتحقق في الوجود الخارجي منذ أزمان، ولكنني وجدتها محقّقة في هذين العالمين الجليلين، وقد مات الشيخ الوزير بالمدينة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أما الشيخ
حسين أحمد فقد سلّمه الشريف حسين بن علي إلى الإنجليز في أواخر ثورته المشؤومة، فنفوه إلى مالطة، ثم أرجعوه إلى وطنه الأصلي (الهند) وعاش بها سنين وانتهت إليه رئاسة العلماء بمدينة العلم (ديويند)، ولما زرت باكستان للمرّة الأولى سنة 1952 ميلادية كاتبته فاستدعاني بإلحاح إلى زيارة الهند ولم يقدّر لي ذلك، وفي هذه العهود الأخيرة بلغتني وفاته بالهند.
وأخذت أيام مجاورتي بالمدينة علم التفسير عن الشيخ الجليل إبراهيم الاسكوبي، وكان ممن يشار إليهم في هذا العلم مع تورّع وتصاون هو فيهما نسيج وحده.
وأخذت الجرح والتعديل وأسماء الرجال عن الشيخ أحمد البرزنجي الشهرزوري في داره أيام انقطاعه عن التدريس في الحرم النبوي، وكان من أعلام المحدثين، ومن بقاياهم الصالحة.
وأخذت أنساب العرب وأدبهم الجاهلي، والسيرة النبوية عن الشيخ محمد عبد الله زيدان الشنقيطي، وهو أعجوبة الزمان في حفظ اللغة العربية وأنساب العرب، وحوادث السيرة.
وأتممت معلوماتي في علم المنطق عن الشيخ عبد الباقي الأفغاني بمنزله، وكان رجلًا مسنًّا منقطعًا عن أسباب الدنيا، قرأت عليه الحكمة المشرقية، وكان قيّمًا عليها، بصيرًا بدقائقها.
وذاكرت صاحبنا الشيخ أحمد خيرات الشنقيطي سنين عديدة في اللغة والشعر الجاهلي، ومنه المعلّقات العشر، وصاحبنا محمد العمري الجزائري، أمهات الأدب المشهورة خصوصًا الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، فقد ختمناهما مطالعة مشتركة فاحصة متأنية، وكذلك فعلنا بكتاب الأغاني من أوله إلى آخره.
وبالجملة فقد كانت إقامتي بالمدينة المنوّرة أيام خير وبركة عليّ، فكنت أنفق أوقاتي الزائدة في إلقاء دروس في العلوم التي لا أحتاج فيها إلى مزيد كالنحو والصرف والعقائد والأدب، وكنت أتردّد على المكتبات الجامعة، فلا يراني الرائي إلا في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، حتى استوعبت معظم كتبها النادرة قراءة، وفي مكتبة السلطان محمود، وفي مكتبة شيخنا الوزير، وفي مكتبة بشير آغا، أو في مكتبات الأفراد الغاصة بالمخطوطات، مثل مكتبة آل الصافي، ومكتبة رباط سيدنا عثمان، وفي مكتبة آل المدني وآل هاشم، ومكتبة الشيخ عبد الجليل برادة، ومكتبة الوزير التونسي العربي زروق، كما كنت أستعير كثيرًا من المخطوطات الغريبة من أصدقائي وتلامذتي الشناقطة، أذكر منها ديوان غيلان ذي الرمة، فأقرأها وأحفظ عيونها، وقد حفظت في تلك الفترة معظم ديوان ذي الرمة.