الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة في مجمع اللغة العربية
باسم الأعضاء الجدد *
ــ
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة الكرام: حياكم الله وبياكم، وأدامكم وأحياكم، وأبقاكم للعروبة تصونون عرضها، وتستردون قرضها، وللغة العرب تجمعون شتاتها، وتحيون مواتها، وترعون- على تجهم الأحداث، وسفه الوراث- متاتها، ولهذا المجمع تعلون بنيانه وترفعون على العمل النافع أركانه.
أيها الإخوة: إن هذه اللغة العربية الشريفة التي طرقنا خيالها المؤوب، ثم أسمعنا داعيها المثوب، فاجتمعنا على بساطها اليوم من جميع أقطار العروبة، هي الرحم الواصلة بيننا وهي اللحمة الجامعة لخصائصنا وآدابنا، فمن بعض حقها علينا أن نبلها ببلالها، وأن نرعى حقها في كل منسوب إليها، كما أن من بعض حقها علينا أن نخف لنجدتها، كلما مسها ضر أو حَزَبَها أمر، وإن ما قمتم به اليوم من هذا الاستقبال المتهلل، واللقاء المرحب المؤهل، بإخوانكم أعضاء المجمع الجدد، هو فن جميل من البر بالعربية في أبنائها، يرضي الله الذي اصطفاها ترجمانًا لوحيه، ويرضي محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي أدى بها أمانة الله، وبلغ بها رسالته إلى خلقه، ويرضي يعرب ونزارًا اللذين سكبا بها التغاريد العذبة الجميلة في آذان الأجيال، وتركاها كلمة باقية في الأعقاب، ويرضي أسلافكم الذين ساسوا بها العقول، وصقلوا بها الأذهان والقرائح وراضوا على بيانها الألسنة، ودونوا بها العلم والحكمة، وخطوا بها التاريخ، وشادوا بها الحضارة الشماء التي لا تطاول، ووسعوا بها آفاق الخيال العربي، ورققوا ببيانها العواطف الكثيفة، وحدوا بها ركب الإنسانية حينًا فأطربوا.
* كلمة الإمام في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، في حفل تنصيب أحد عشر عضوًا من مختلف أقطار العروبة بتاريخ 12 مارس 1962، وهي منشورة في المجلد الرابع من البحوث والمحاضرات (مؤتمر 1961 - 1962) الصادر عن المجمع، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، جانفي 1963.
أيها الإخوة: لقد كانت العربية قبل اليوم وإن رباعها لمجفوّة، وإن قصاعها لمكفوة وإن رقاعها لغير ملتامة ولا مرفوة. لقد كانت تلقى الأذى من الغريب المتنمر، ومن القريب المتنكر، فيخف لنصرتها أفذاذ من أبنائها الأوفياء، وجنودها المجهولين، ولكن لا يسمع لهم صوت لتفرقهم في أقطار العروبة المتباعدة، حتى ظهر هذا المجمع، فسعى في إعادة شبابها وتجديد معالمها، وجمع أنصارها، على تعثر خطواته في السنوات الأولى لإنشائه، كشأن كل ناشئ، ثم ما زال يقوى ويشتد، وكلما انضمت إليه طائفة من رجال العربية وفرسان بيانها انتعش وشاعت فيه الحياة، ووخزته الخضرة من جوانبه، ثم ما زال المدد يتلاحق، والعدد يتكامل، حتى وصل إلى الحالة التي هو عليها اليوم، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرًا، وإن هذا المجمع إذا اطَّرَدَ سيره، وتم إتمامه ليكونَنَّ أداة فعالة في وحدة العرب، ولا عجب فأقوى جامع لكلمة العرب كلام العرب، ولئن تم ذلك لتكونن هذه الأسرة أعز رهط في العرب.
أيها الأخوة: لقد كنا معشر المشغوفين باللغة العربية، الهائمين بحبها في كل واد، نتتبع أعمال هذا المجمع باهتمام، ونتلقف كل ما يقوله أو يقال عنه، فنبحثه في مجتمعاتنا الخاصة بإنصاف، ونستعرضه فصلًا فصلًا، وكلمة كلمة، وكنا نعرف منه وننكر؛ نعرف تلك الآراء القيمة التي يعلنها بعض أعضائه، وتلك المباحث الجليلة التي يقدمها بعضهم، ونستحسن تلك الأفكار الجريئة في توسيع دائرة النحت والقياس والاشتقاق، التي كان المجمع يتناولها بالتمحيص إلى كثير من حسناته ومزاياه، وننكر منه هنات لا تحط من قيمته في أنفسنا، ولا تقدح في ما نضمر له من إجلال وإكبار. ننكر عليه البطء والتثاقل في السير، وعدم التعجيل بتقديم ثمراته إلى الأمة في مجلته ونشراته، وتقصيره في ما يجب الإسراع فيه، وأشد ما كنا ننكر من أعماله استعانته بالمستشرقين في شأن هو من خصائص الأمة العربية، ولكننا كنا لا نستطيع الجهر بما ننكره على المجمع، ولا نشيع قالة السوء عنه، لأننا نعلم أنه ناشئ، وأن النشأة مظنة للنقص، وننتظر به مرور الزمان، واستحكام التجارب ومواتاة الفرص حتى يصلح من شأنه بنفسه، والزمان يقيم الأمت، ويقوم السمت، إلّا شيئًا واحدًا ما كنا نقبل فيه عذرًا ولا نتسامح فيه فتيلًا، وهو مسألة الاستعانة بالمستشرقين، ولقد كنا نستسيغ الاستعانة بالأجنبي في بناء سد، أو مد سكة، أو تخطيط مدينة، مما سبقنا إليه الأجانب وبرعوا فيه، أما الاستعانة بهم في شأن يخصنا كاللغة فلا!! .... ومتى رأينا مستشرقًا بلغ في العربية وفهم أسرارها ودقائقها ومجازاتها وكناياتها ومضارب أمثالها ما يبلغه العربي في ذلك كله؟
…
على أن بعض أولئك المستشرقين الذين كانوا أعضاء بهذا المجمع، كانوا مستشارين في وزارات الخارجية في بلدانهم، وهذا قادح آخر يضاف إلى قادح قصورهم في اللغة العربية.
أيها الإخوة: إن مواطن العروبة متفرقة متباعدة، وإن الرابط الطبيعي بينها هو هذه اللغة، وقد ألم بها من أحداث الدهر ما أضعف تلك الرابطة حتى رثت حبالها، وغالبتها العامية في
كثير من أحكامها وكثير من مفرداتها. ولكنها لم تبتل بداء مثل هذا الداء العقام الذي نسميه الاستعمار، ولو أنصفنا لسميناه الطاعون، فهو الذي ألح عليها عن قصد وتعمد حتى كاد يزهق روحها، لإيقانه بمبلغ تأثيرها في تثبيت الروابط بيننا. ومن بلاء العربية أن هذا الداء تسلط على جميع أقطار العروبة فتمكن من حرب العربية في جميعها بوسائل شيطانية لولا عناية الله وما أودعه فيها من القوّة والمناعة لقضى عليها، ولقد حاربنا على أرضنا وأقواتنا وكل وسائل الحياة عندنا فأفلح، ولكنه حينما حارب لغتنا وتدسس إلى مدب السرائر ومكامن العقائد من نفوسنا باء بالهزيمة، فلا خوف بعد اليوم وقد تنبه رب البيت فخاب اللص، وباء بالفشل والخيبة، وأبرز الأمثلة لحرب الاستعمار للعربية منعه لتعلمها في الجزائر، وحكمه بأنها لغة أجنبية في بلدها، ومنعه للكتب العربية التي تطبع في الشرق العربي من الدخول إلى الجزائر، ما ذلك كله إلّا لغاية واحدة هي إضعافها ثم الإجهاز عليها، وما جرى في الجزائر جرى في غيرها من أقطار العروبة على اختلاف في الشكل، والاستعمار كله ملة واحدة، وأنا ما زلت أتلمح العامل الإلهي لحفظ هذه اللغة، وحفظ الإسلام الذي يحميها وتحميه- أتلمح هذا العامل- في هذه المذاييع التي ينفق عليها الاستعمار أموالًا طائلة لتذيع القرآن بلغته في العواصم الكبرى فتبلغ أطراف العالم في كل ليلة. انه لعمركم انتصار للعربية، وإن كان للاستعمار فيه مآرب أخرى يقصدها أولًا وبالذات، ولكن الدعاية للعربية بعمله هذا حاصل غير مقصود، بل مناقض لقصده.
أيها الإخوة: إن أسرة المجمع أصبحت أسرة عربية لا تخالطها عجمة، ولا يطرق ساحتها دخيل، ولا يداخل نسبتها إقراف ولا هجنة، فلنعمل للغتنا بأنفسنا، ولنسكب عليها عصارة أرواحنا ولنضاعف جهودنا، ولنشدد حيازيمنا، ولنشحذ عزائمنا، ولنوجه كل قوانا لخدمتها والذب عن حرماتها، ولنعلم أنه إن أصابها سوء ونحن عصبة إنا إذن لخاسرون، ولسنا لعدنان ولا لقحطان إن سيمت العربية ضيمًا ونحن حماة ثغورها، ولعل إخواني الأعضاء الجدد يشاركونني في اليقين بأنكم ما أوليتمونا شرف العضوية بهذا المجمع للراحة ولين المهاد، وإنما لنتحمل بهذه العضوية أعباء تستدعي سهر العيون وإنضاء العقول والقرائح ومتاعب التنقيب على ما أودع الأسلاف في هذه الأسفار من كنوز، فلنوطن أنفسنا على ذلك كله برضى واطمئنان، وإنها لصفقة رابحة.
أيها الإخوة: إن اللغة العربية كالدين يحملها من كل خلف عدوله، لينفوا عنها تحريف الغالين، وزيغ المبطلين، وانتحال المؤولين، وأنتم أولئك العدول، فانفوا بجد وإخلاص عن هذه اللغة زيغ المبطلين من هذا الجيل الذين أصبحوا يتنكرون لهذه اللغة ويعفرون في وجهها، وقد فاتهم أن يحصلوا منها على طائل، فأصبحوا يرمونها بالعقم والجمود، وعدم المسايرة لركب الحضارة، ويرتضخون لكنة، لا هي بالعربية ولا هي بالصالحة لأن تخلف
العربية ويتمردون على البيان العربي، وعلى مناحي الشعر العربي، وعروضه وقافيته ورويه، ويلوون ألسنتهم بالسوء في ذلك كله.
أيها الإخوة: أعيذكم بشرف العروبة أن تكونوا كأعضاء المجمع الفرنسي: دعوا بالخالدين فأوهمهم هذا الوصف أنهم خالدون حقّا فركنوا إلى الكسل وأصبحوا سخرية الساخر.
أيها الإخوة: أنا وإخواني الأعضاء الجدد الذين أتكلم باسمهم نتقدم أولًا بالحمد لله على أن شرّفنا بالانتساب إلى هذه الأمة الجليلة، وعلى أن فتق ألسنتنا على لغتها الحرة الأصيلة، وعلى أن رزقنا من بيانها ما نستطيع به أن نعلق بغبار جياد السبق في ميادينها.
ثم نتقدم بالثناء العاطر على إخواننا السابقين الأولين من أعضاء المجمع على ما أنفقوا في سبيله من وقت وجهد، وأفاضوا عليه من معنويات راسخة، ونفضوا عليه من ألوان ثابتة جميلة، على ما وسعوا من آفاقه وميادينه، وعلى ما سعوا فيه من إلحاق إخوان لهم من أقطار العروبة تكثرًا بهم، والعزة للكاثر، وتعاونًا على هذ الأم البرة، والتعاون على البر (بفتح الباء) كالتعاون على البر (بكسر الباء) كلاهما منقبة وقربة وحسن أحدوثة، وقالة خير فاشية.
ثم نتقدم بالشكر لشعب الجمهورية العربية المتحدة وحكومتها ورئيسها على احتضانهم للقومية العربية التي هي مدد هذا المجمع، وحسن رعايتهم للغة العربية التي هي وظيفة هذا المجمع، بل على إمدادهم لهذا المجمع بوسائل الحياة.
أيها الإخوة: أنا سعيد بأن أتكلم في هذا اليوم، وفي هذا المحفل ووطني الجزائر مقبل على استقلاله الذي اشتراه بالثمن الغالي، وستلتحق الجزائر بالركب العربي عن قريب، وسيخرج من أجيال المغرب العربي عُفارٌ لهذا المجمع، وحماة لهذه اللغة الشريفة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.