الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقاء مع "مجلة الشبّان المسلمين
" *
فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، شيخ علماء الجزائر، رجل من رجال الدعوة الإسلامية والجهاد العربي، جعل من أيام حياته سلسلة متصلة الحلقات من الكفاح والنضال، اليوم يهب حياته- مدّ الله في عمره- لدينه الحنيف ووطنه العربي الكبير، وقد التقينا بالمجاهد العربي الكبير ودار بيننا ويينه هذا الحديث:
ــ
قلت لفضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي:
هل لنا أن نعرف قصة حياتكم ليستفيد شبابنا بما فيها من دروس رائعة؟
وأجاب فضيلته قائلًا: لقد ولدت في الجرائر في مقاطعة قسنطينة. وأصل عائلتي ومنازلها في الفروع المتمّمة لجبال أوراس من جهته الغربية، وفي السفوح المواجهة للتلول، وهي فروع لجبال الأطلس الكبير الذي تبتدئ مخارمه من ليبيا ويمتد غربًا إلى المحيط الأطلسي بمراكش، وسلاسله من أطول سلاسل الدنيا، وقد أقام أجدادي بهذه الجبال حقبة طويلة في التاريخ. وكانوا كبقية قبائل الأطلس يحترفون الفلاحة وتربية الماشية، وكان لأجدادي تاريخ قديم في العلم يرجع إلى قرون، وكانوا مرجعًا في الفتيا الدينية، والصلح بين العشائر مهما شجر بينهم من خلاف. وكانوا ملاذًا لطلبة العلم لا تخلو بيوتهم من عشرات طالبي العلم يرحلون إليهم من أقاصي البلاد، فيقومون بإطعامهم وتعليمهم، ومنهم من لا يخرج من بيتهم إلّا عالمًا.
وفي هذه البيئة ولدت عام 1306 هجرية عند طلوع الشمس من يوم الخميس في الثالث عشر من شهر شوّال ويوافق سنة 1889 ميلادية.
* مجلة "الشبّان المسلمين"، العدد 66، القاهرة، أوت (أغسطس)1962.
وأدركت من علماء بيتنا جدي لأبي الشيخ عمر الإبراهيمي وعمّي شقيق أبي الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي، وهو الذي تولى تربيتي وتعليمي على طريقة خاصة له في ذلك. ورزقت حافظة عجيبة وذاكرة قوية، فاستغلها عمي في تعليمي؛ فكان يملي عليّ من شعر العرب القدماء والمحدثين، وحفظت القرآن الكريم مع معالم مفرداته وأنا ابن تسع سنين، وحفظت مع ذلك في أثناء هذه المدة المتون المهمة في العلم، وتفقهت وأنا في هذه السن في قواعد النحو والفقه والبلاغة.
وتابع فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي حديثه قائلًا:
ولما بلغت العشرين سنة من عمري هاجرت إلى المدينة المنوّرة سنة 1911م ملتحقًا بوالدي الذي سبقني بالهجرة سنة 1908م، ومررت بالقاهرة فلبثت فيها ثلاثة أشهر أقضي غالب نهاري في التردد على حلقات الدرس بالجامع الأزهر. وحضرت دروس الشيخ عبد الغني محمود في جامع سيدنا الحسين، ودروس الشيخ يوسف الدجوي في الأزهر في البلاغة، ودروس الشيخ نجيب في الرواق العباسي، ودروس الشيخ سعيد الموجي في الموطأ بجامع الفاكهاني.
وزرت أمير الشعراء أحمد شوقي وقرأت عليه قصائد كثيرة من شعره الذي وصل إلينا، كما زرت حافظًا وقرأت عليه بعض ما أحفظه من قصائده، أذكر منها قصيدته اليائية في رثاء مصطفى كامل رحمهم الله أجمعين. ثم سافرت إلى المدينة عن طريق بورسعيد- حيفا- تبوك- المدينة المنورة، واجتمعت بوالدي. واخترت من مشايخ الحرم النبوي أبرعهم في العلم وأعلاهم كَعْبًا فيه، فلزمت واحدًا منهم وهو أستاذي الشيخ محمد العزيز الوزير التونسي، وأخذت عنه الحديث وبعض أمهات النحو وفقه مالك، ولازمته ما يقرب من ست سنوات. وكنت أتردّد على دروس المحدثين مثل الشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي والشيخ أحمد البرزنجي وغيرهما وكنت في مدة الطلب ألقي دروسًا منظمة في الأدب واللغة في الحرم النبوي الشريف.
وقال لنا فضيلة العالم الكبير:
ولما قامت الحرب الأولى الكبرى وقامت في أثنائها ثورة الشريف حسين المعروفة أرغمتنا الدولة العثمانية نحن معشر سكان المدينة جميعًا بالخروج إلى دمشق، فانتقلت مع والدي إلى الشام واستوطنت دمشق، واشتغلت بالتعليم الحر في المدارس الحرة، ثم عيّنت رسميًا أستاذًا للآداب العربية في المدرسة السلطانية الأولى وهي أعلى مدرسة في دمشق إذ ذاك. إلى أن انتهت الحرب بقلب الأوضاع وخيبة الآمال واخترت الرجوع إلى الجزائر. واشتغلت بإلقاء دروس متنوعة في العربية والأدب العربي والفقه والحديث والتفسير والتاريخ على طلّاب وجدتهم مستعدين لذلك.
وهناك، وعلى تربة الوطن، كنت أجتمع كل أسبوع أو كل شهر على الأكثر بإمام النهضات الجزائرية من دينية وسياسية واجتماعية الشيخ عبد الحميد بن باديس. وتلاقى فكرانا على هدف واحد وهو قيامنا بنهضة شاملة نُحيي بها ما انْدَرَس من معالم العربية والإسلام بالوطن الجزائري.
وشرعنا نخطط خططًا لذلك وكيف نحارب الاستعمارين الروحي والبدني في الجزائر، فهما اللذان تواطآ على تجهيل الجزائر وتفقيرها بإبعادها عن الإسلام وعن العروبة وعن تاريخ الإسلام والعروبة وعن أمجاد الإسلام والعروبة. ولبثنا نفكّر ونقدر عشر سنوات مع توسيع دائرة تعليمنا الخاص إلى أن جاءت سنة 1930، وتمّت لفرنسا مئة سنة على احتلالها للجزائر، فاحتفلت بذلك احتفالًا عالميًا، وأعلن كثير من خطباء ذلك الاحتفال من الفرنسيين فقالوا: إن معنى هذا الاحتفال الحقيقي هو تشييع المسيحيين لجنازة الإسلام.
وقد خيّب الله ظنهم ورماهم بما كذب فألهم، فبرزت جمعية العلماء للوجود سنة 1931 وكان من أعمالها في إحياء الإسلام الصحيح وإحياء لسانه العربي المبين ما هو مشهور مسجل في جرائدها الكثيرة.
وقلت لفضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي:
كيف نقوّي الرابطة بين الشباب المسلم؟
فقال: معظم الشباب المسلم اليوم مفكك الأجزاء لا تربطه رابطة دينية ولا دنيوية، وهذا أمر يؤسف له
…
وسألت: ما هي الأسباب؟
فأجاب قائلًا: أهم الأسباب لذلك يرجع إلى تنشئته، فالكثير من هؤلاء الشباب لم ينشأ دينيًا، لا في البيت الذي هو أول مدرسة في حياته، ولا في المدرسة التي هي آلة التقويم الخلقي لتلامذتها، ولا في المجتمع. لذلك نشأ رخو الطباع، والعهدة في هذا ترجع إلى الأبوين، وبيئة الأهل والأقارب الذين يتقلب الشباب بينهم ويقضي زهرة شبابه في مخالطتهم صباحًا ومساءً، ثم على المدرسة التي تعلّم والتي ما تزال في معظم الأحيان غير مجتهدة بحق في العناية بتربية الأخلاق الفاضلة وغرسها في نفس الشاب، وما دام هذان العاملان مشتركين بين الشباب فلا نطمع أن تسري هدى الصلاح والفضيلة من فريق منهم إلى فريق، ولا نطمع أن يعدي الصحيح الأجرب، بل الواقع أن الطالح يعدي الصالح.
وسألت: ما هو العلاج؟
فأجاب: إن الأمر لم يخرج من أيدي دعاة الإصلاح بالمرة، ففي أيدي هؤلاء الدعاة إذا تضافرت جهودهم أن يتقدموا إلى مدرّسي المساجد وخطباء الجُمَع ومحاضري المجامع والنوادي بأن يركبوا طريقة غير الطريقة المعهودة عندهم في الدروس والخطب والمحاضرات، ويتفقوا على أسلوب واحد في تربية الشبيبة الإسلامية على الدين والفضيلة والتقوى، فهذه هي الباقيات الصالحات التي ينبغي على المدرّس والخطيب أو المحاضر أن يغرسها في نفوس الشباب ويجتثّ منها أضدادها.
فإذا نشأ الشباب على التديّن أحبّ الدين، وإذا أحبّ ما فيه وأحث ما يستتبعه من فضائل وأخلاق حميدة، عمل على غرسها في نفوس غيره من الأجيال اللاحقة. والشباب أمة مستقلة، والشباب يؤثر في الشباب، وإذا أحبّ الشاب دينه وفضائل دينه، ولغته وأسرار لغته أحبّ العرب جميعًا، وأصبح في نفسه دافع إلى الاجتماع بإخوانه في الدين والعروبة.
يغذي هذا الدافع وينمّيه في نفسه بما يحضّ عليه الإسلام من الضرب في الأرض والسير في مناكبها والحقّ على التعارف بين المسلمين، وذلك كله مما يقوي الرغبة في الأسفار وحب الرحلة والاستطلاع والاستفادة. فإذا كانت الحكومات رشيدة أعانت على ذلك وساهمت فيه بالسهم الوافر بعقد الرحلات السنوية أو الشهرية من بعض أقطار الإسلام إلى البعض الآخر.
وقال فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: وأنا أرى أن الأزهر وسائر معاهدنا مثل جامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين بفاس، يجب أن تتحمّل القسط الأوفر من العمل على تقوية الروابط بين الإخوة المسلمين، والأزهر جامعة جامعة لجميع الأمم الإسلامية: ففيه المسلم الشرقي والغربي، وفيه الجنوبي والشمالي، فهو قادر على أن يلقّنهم ويجعل من ضمن دروسه المفروضة عليهم دروسًا خاصة للتحبيب في السفر والضرب في مناكب الأرض للتحصيل على فوائد جمّة أهمها التعارف بين شباب الإسلام لأنهم حَمَلة الإسلام في المستقبل، والمؤتمنُون على الدعوة إليه.
وكيف نطمع في التبشير بالإسلام في الأقطار الوثنية إذا لم نجهّز جيشًا من الشباب ونسلّحهم بالسلاح اللازم لذلك من أخلاق أقواها العزيمة والتضحية والصبر على المكاره وتحمّل المشاق، فلم ينتشر الدين في أول أمره إلّا برجال من هذا الطراز العالي.
وقد لاحت لنا بوارق من تحقيق الأمل في هذه المسألة في السنوات الأخيرة وذلك بكثرة المؤتمرات التي تعقد بالقاهرة ويشارك فيها أبناء أفريقيا وآسيا وشبابها بصورة واسعة. لكننا كنا عزلًا من سلاح هذه المؤتمرات، ولذلك حُرمنا من ثمرات اجتماع الشباب في صعيد واحد بتفريطنا الماضي وتقصيرنا في تهيئة الشباب المسلم المهتدي المجهّز لميادين الدعوة.
يلي هذا العامل عامل آخر فعّال، وهو الجرائد والمجلات المصرية الإسلامية التي تُعْرَض على الشباب في جميع أوقاته، فيأخذ منها ما ينَبِّهُ إحساسه ويثير عزيمته إلى التعارف بإخوانه من شبيبة الإسلام في جميع الأقطار.
ولكن المجلات الإسلامية عندنا لا تزال قليلة وسبل نشرها في العالم الإسلامي متعذرة.
ومن أدوات التعارف الفعّالة في هذا البلد- وهو تعارف الشباب وترابطه- أداة لو رزقت الاتجاه الصحيح لأتت بالعجائب، إنها الإذاعة، فلو تنبّه العاملون لربط الشباب العالمي إلى الشباب الإسلامي وتعارفه روحيًا قبل كل شيء لأتى ذلك الجهد بأطيب الثمرات. وهذا يتوقف على تكاتف المرشدين والمربّين لينظموا محاضرات ودروسًا خاصة بهذا المعنى، ويحدّدُوا لها ساعات متفرقة من الليل والنهار، لتذاع وتوجّه خاصة إلى الشبّان المسلمين في جميع أقطار الأرض، وتخصهم بالخطاب تنويهًا بالموضوع وتمجيدًا للشبّان.
فلعمري إن هذه الدعوة لو تكررت وتجاوب في الدعوة إليها والحضّ عليها جميع الإذاعات في الأقطار الإسلامية لأتت بخوارق العادات في هذا الباب.
والله الموفق إلى الخير، والله الهادي إلى السبيل.